نصري ثالث ثلاثة (قصة قصيرة)
أ. محمد موسى العويسات – القدس
كان كلّما وقعت حرب يخرج ولا يعود إلا بعد أن تضع أوزارها. وفور انعقاد الهدنة في هذه الحرب، راحت أمّ جهاد تسعى باحثة عنه سعيًا حثيثا تعرقله المشاهد الفظيعة، وتغيُّرُ وجه المكان.
تبحث عن ذاك الفتى الذي أصرّت جدّته لأمّه أنْ تسمّيه بهذا الاسم (نصري) تخليدا لخاله الذي ضاع في أيام النّكبة الكبرى عام ١٩٤٨، وذلك غِيرة أو تشبّها بجدته لأبيه التي أصرّت أن تسمّي أخاه الأكبر (صبري)، صبري الولد الثاني بعد جهاد كان قويّ البُنية، يُركن إليه في كلّ صعب، أمّا نصري فولد ضعيف البُنية، وكان مِمراضا، لذا نال منها اهتماما عظيما، فلم تترك طبيبا إلا عرضته عليه، ولكنّه لم يستجب لأيّ علاج، حتى وقعت بالصّدفة على نصيحة أحدهم بأن يُرقّى بالقرآن، وكم كانت فرحتها كبيرة لسرعة استجابته! رأته كما رآه الآخرون يتعافى، وينشط من عقاله، ولمّا اندلعت هذه الحرب الطّاحنة خرج كعادته ليختفي عن الأنظار، ولم يعد إليها ولم تعرف مكانه، ولكن لم يكن قلقها عليه كبيرا، وهذا على خلاف ما عليه سائر الأمّهات، كانت واثقة أنّه سيعود، ولن يصل إليه عدوّ، قال بعض من يعرفها إنّها كانت واثقة بأنّ الرُّقى القرآنيّة التي عالجته بها في صغره ستحصّنه من كلّ سوء. ولكنّها أمّ لا يبرد قلبها، لذا خرجت تبحث عنه، والغريب أنّها لم تسأل عنه أحدا من النّازحين أو الثّابتين أو المراقبين أو المقاتلين أو غيرهم، يقال إنّها كانت تمسك بذراع صبري، تستعين به في مشوار البحث عن أخيه، وصبري هذا أيضا صامت لا ينبس ببنت شفة، فكأنّها هي التي تقوده، وما عليه إلا الاستماع لها، فلا يعرف الضّجر منها… راحت العجوز تتفقّد الأنفاق، تقف عند فوهاتها وتناديه بأعلى صوتها، تتخيّل أنّها تسمع صدًى ما فتبتسم له، ثمّ تدخل بين الرّكام وتناديه فتسمع صدى يشبه صوته فتعلو وجهها علامات البهجة، صادفها رجل غريب في أحد الأزقّة، لا يبدو عليه أثر للحرب، فكأنّه ليس من أهل البلاد، تخيّلت في وجهه بعض ملامح نصري، نظرت إليه في تفكّر وتعجّب، بادلها النّظرات المتفكّرة، تعجّل بالقول قبل أن تسأله: إنّه بخير، خرج في أثناء الحرب، يقال إنّه تفقّد المقاتلين في كلا الطّرفين، ويقال إنّه كان في جنين، ومرّ بالجنوب، وحلّق هناك في الأنبار، وزار المضائق في البحر الأحمر، واجتمع برئيسة إيرلندا، وشارك في مظاهرة في السّويد، وأمضى أياما في كولومبيا وكوبا وأخيرا شهد إطلاق سراح أسيرة (إسراء) في القدس ، بل شهد تسليم الدّفعة الثالثة في المدينة أمس، وكان يلوّح بيده لأطفالهم، وها هو في الطّريق إليكم… وإن تأخّر فلا تتركي صبري يخرج وحيدا، فهناك مَن يتربّص بأبنائك الثلاثة… تساءلت: تقصد مَنْ؟ ونظرت في وجه صبري وابتسمت بثقة