الدين والفلسفة فى كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” لابن رشد (1126-1198م)
د. عوض الغبارى |أكاديمي مصري
ابن رشد من أعلام الفلسفة الإسلامية، وكتابه هذا من الكتب المهمة، وقد ناقش فيه قضية دراسة الحكمة، يعنى الفلسفة، من الناحية الشرعية دالا على أهميتها لمعرفة الله سبحانه وتعالى عن طريق التبصر والبرهان والاعتبار ببديع صنعه، كما تمثل فى قوله تعالى: “فَٱعۡتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ” .
وكانت الفلسفة معرض اتهام بحرمة الاشتغال بها من قِبَل بعض من رأى ذلك. وقد صرح “السيوطى”، مثلا، أنه لا يميل إليها، وكأن كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من”الاتصال” دفاع عن الفلسفة، ومشروعية دراستها من الناحية الدينية. فقد دعا الشرع إلى تأمل الموجودات، والنظر فى آيات الله متمثلة فى “النظر بالعقل فى الموجودات واعتبارها”([1]). وحث الشرع على أن نعرف الله ونتدبر مخلوقاته بالقياس والبرهان العقلى مبنيا على مقدماته. ويجب، بالشرع، النظر فى القياس العقلى وأنواعه، كما يجب النظر فى القياس الفقهى. ([2])
ويرى “ابن رشد” أن فحص كتب القدماء واجب، فما كان صوابا منه قبلناه، وما كان غير ذلك راجعناه. وفى ذلك إشارة إلى ما يتعلق بالفلسفة من كتب القدماء. ويؤكد “ابن رشد” أن النظر فى الموجودات يدل على موجدها “فإن من لا يعرف الصنعة لا يعرف المصنوع، ومن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع”. ([3]) والطريق إلى المعرفة تواصل بين اللاحق والسابق من أهل العلم. وفى الفقه مذاهب مختلفة تستوجب المناظرة بينها، وهنا نرى “ابن رشد” وقد أعرب عن عقلية واعية بأهمية الحوار والاستعانة بالمنهج العقلى لقياس الآراء.
ربما يعرض فى أمر الفلسفة أمر لا يوافق عليه البعض، لكن ذلك لا يعنى القدح فيمن يشتغل بها دينيا. ويجرى هذا الأمر على سائر العلوم، ويدلل “ابن رشد” على ذلك ببراهين واضحة لكى يؤكد فكرته. يقول، أيضا،: “فقد تبين من هذا أن النظر فى كتب القدماء واجب بالشرع، إذ كان مغزاهم فى كتبهم، ومقصدهم هو المقصد الذى حثَّنا الشرع عليه، وأنَّ مَن نهى عن النظر فيها مَن كان أهلا للنظر فيها، وهو الذى جمع أمرين: أحدهما: ذكاء الفطرة. والثانى: العدالة الشرعية، والفضيلة العلمية والخلقية – فقد صد الناس عن الباب الذى دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدى إلى معرفته حق المعرفة.” ([4])
وابن رشد داعٍ إلى حرية العقل بشرط الاجتهاد العلمى والاتساق مع الشرع، وكان ذلك أمرا مهما فى مواجهة الانغلاق الفكرى الذى واجهه فى عصره. وهذا هو عمل العلماء والفقهاء الأجلاء الذين استناروا بنور العلم أمام جهالات الظلام. فليس العلم مناوئا للدين الذى دعا إليه، وأشاد بأصحابه . إن الشريعة الإلهية داعية إلى الحق والمعرفة بالله والتصديق بالبرهان على هذا، وعلى طرق الجدل بالحسنى، كما فى قوله تعالى : ” ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ ” .
ويقرر “ابن رشد” أن النظر البرهانى لا يؤدى إلى مخالفة الشرع لأن الحق ” لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له”.([5]) ويقطع “ابن رشد” بأن “كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع، فإن ذلك الظاهر يقبل التأويل”([6])، أى : إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية([7]). ويتنوع استدلال “ابن رشد” على فكرته فى مشروعية الفلسفة، وتلك سبيل الفيلسوف الذى ينشد إقناع المجادل بطرق شتى. ويشير إلى إجماع المسلمين على أنه “ليس يجب أن تُحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل”([8])، وهذا أمر مقرَّر يتيح اختلاف الراسخين فى العلم على ذلك.
ويعرض “ابن رشد” لموقف الإمام “الغزالى” من تكفير الفلاسفة فى كتاب “التهافت”، لكنه يستند إلى أن التأويل مخصوص بأهل العلم، وأن المسائل خلافية. وقد أشار “الغزالى” إلى ذلك مما لا يقطع برأيه فى تكفير الفلاسفة. وأهل العلم موصوفون عند الله سبحانه وتعالى ” بأنهم المؤمنون به، وهذا إنما يُحْمَل على الإيمان الذى يكون من قِبَل البرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل”. ومن ثم “فلا يمكن أن يتقرر فى التأويلات التى خص الله العلماء بها، إجماع مستفيض”.([9])
وابن رشد باعث على الحوار العلمى إذ يقول فى “فصل المقال” مثلاً: “وقد أفردنا فى هذه المسألة – وهى العلم الإلهى – قولا حرَّكنا إليه بعض أصحابنا”.([10]) ويمضى مفندا المسائل الفلسفيةالتى أدت بالإمام “الغزالى” إلى تكفير مَن قال بها ليبرئ الفلاسفة من تهمة الكفر. ويشير “ابن رشد” إلى أنَّ مسالة عويضة كَقدَم العالم وحدوثه تقتضى المقابلة بين الفلاسفة، من حيث التأويل على الظاهر والباطن.
والاجتهاد يحتمل الصواب والخطأ، وصاحبه مأجور على الحالين. والخطأ المصفوح عنه فى الشرع “إنما هو الخطأ الذى يقع من العلماء إذا نظروا فى الأشياء العويصة التى كلفهم الشرع النظر فيها”. وأسباب الاجتهاد، كما قررها “ابن رشد” هى: “معرفة الأصول، ومعرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس”.([11]) وإذا دلت القرائن البرهانية على إقرار مسألة عقائدية فلا يجوز إنكارها مثل “الإقرار بالله تبارك وتعالى، وبالنبوَّات، وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروى”.([12]) ذلك لأنها أصل من أصول الشرع لا تحتمل التأويل. ويفضى “ابن رشد” إلى رأى نادر هو أن “الغزالى” أثار أصحاب الشك والفساد ودعا بهم إلى ثلب الحكمة والشريعة فى القضايا الفلسفية الجدلية التى عرضها فى كتبه. ذلك لأن غير المختصين من أهل العلم بالفلسفة يلتبس عليهم الأمر فى القضايا الجدلية.
ومن النادر، أيضا، أن يدعو “ابن رشد” إلى النهى عن كتب “الغزالى” التى تثير الشكوك، ويرى أن تختص بها كتب البرهان والبرهانيون بالطبع والصناعة، أى صناعة الحكمة([13])، خاصة فى أمور العقيدة التى تحتاج إلى التأويل على غير ظاهر الشرع. وعلى أى حال فتراث “الغزالى” و”ابن رشد” كفيل بتبرير موقفهما المختلف، وقد أخلصا النية فى ذلك. ذلك أن “الغزالى” أراد نشر العلم على الإطلاق، بينما أراد “ابن رشد” أن ينبه على الأضرار الناتجة عن توجيه هذا العلم لغير المختصين بدقائقه الفلسفية، مما يجب معه مراعاة المقال لمقتضى الحال، والحذر من وقوع الفتنة التى نبَّه إليها. ولكن “ابن رشد” وهو الداعى إلى حرية الرأى، عاد وخفف من غلواء منع مثل هذه الكتب المثيرة للشك فى الشريعة والفلسفة بالجملة لأن ذلك “صاد لما دعا إليه الشرع”([14]) من الاجتهاد .
ويرى “ابن رشد” أن “مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق، والعمل الحق”([15]). ويؤكد هذا اقتران العلم بالعمل فيما ينفع الناس فى دنياهم وأخراهم. كما يؤكد أن التأويل “ليس ينبغى أن يُصَرَّح به لأهل الجدل، فضلا عن الجمهور… وبخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة”. ويضرب “ابن رشد” المثل فى خطا التأويل للجمهور بالمعتزلة وغيرهم “فأوقعوا الناس من قِبلَ ذلك فى شنآن وتباغض وحروب، ومزَّقوا الشرع، وفرَّقوا الناس كل التفريق”([16]). وأدى ذلك التفريق إلى تكفير فرق الإسلام بعضهم بعضا، فضلا عما يشوبها من سفسطائية.
وختم “ابن رشد” هذا الكتاب القيم بأن الطرق الشرعية التى ثبتت فى القرآن الكريم، هى الأصدق لتحقيق السعادة الإنسانية، والفضيلة والتقوى على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الهوامش:
([1])ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، دراسة وتحقيق دكتور محمد عمارة، دار المعارف، سلسلة ذخائر العرب، رقم 41، الطبعة الثالثة، مصر، ص 23.