واسيني الأعرج والعزف على وقع البكادلّي
بقلم: صباح بشير- روائية وناقدة فلسطينية
قرأت رواية “عازفة البكادلّي” مرّتين، فشدّتني وأثارت أفكاري حول العديد من القضايا. ودفعتني لكتابة دراسة نقدية مطوّلة عنها، ضمّنتها في كتابي القادم “شذرات نقدية” الذي سيصدر قريبا عن دار الشّامل للنشر والتوزيع.
سأعرض عليكم بعض المقتطفات مما كتبته عن هذه الرّواية، التي تقع في (373) صفحة، تدور أحداثها حول ما خفي من أسرار حريق مسرح البيكاديلّي عام (2000) والأسباب الّتي أدّت إليه.
بواقعية مطعّمة بالخيال، تنسج هذه الرّواية خيوطها، لترسم لوحة أدبيّة تثير شغف القارئ.
لقد نجح الكاتب في إيجاد التوازن بين الواقع والخيال، من خلال أسلوبِه السرديّ المُتقن، وحواراته المُثيرة.
تحدّث عنالوقائع التاريخيّة وتقاطعاتها وتأثيراتِها، باحثًا في الماضي لحماية الذّاكرة اللّبنانيّة من الضياع. تطرّق إلى قمعالحريات والفساد، في بلادٍ سكنتها الخيبة، والصراعات والحرائق والوجع، معبّرًا عنْ ألمه جرّاء ذلك.
مسير السّارد نحو البيكادلّي:
يُصرّح د. واسيني أنّه قدم زائرًا إلى بيروت، محاولا دخول المسرح ومشاهدة آثار الحريق من الدّاخل؛ لاستكمال كتابة روايته، لكنّه لم يحصل على إذنٍ بالدّخول إِلّا بعد جهد جهيد، ومساعدة بعض الأصدقاء، وأصحاب دور النّشر.
ويبدو أنّ بيروت قد ألهمته بعد أن خاض تجربة روائيّة سابقة في حياة الأديبة الرّاحلة مي زيادة، فانطلق مجدّدًا إِليها محمّلا بذكرياتِه، يحلّل أعماقها، ويحاول استقصاء حكاياتها الخفيّة، وفي ظلّ نورها أشعل شمعة الإبداع؛ ليعِدّ للكتابة ما استطاع من صدق القلب وزهر النّشيد. فكتب (ص7):
“رأيتهُ أوّلَ وآخرَ مرَّةٍ قادما من الشّام، في عزِّ الحربِ الأهليّةِ فِي شتاء (1978م)، عندما رأيتهُ سحرتُ بجماله، وعطرِ نسائِهِ، وأناقَةِ مرتاديهِ، هذهِ الصّورةُ ترسّخت في ذهني إلى الأبد”.
كتب أيضا: “هو رمزيّة بيروت، الَّتي تقوم من رمادها في كلّ مرّةٍ؛ كطائر الفينيق” (ص8).
يجوبُ واسيني شارع الحمراء، الَّذي أضحى جزءا من الذَّاكرة البيروتيّة، يغوص في أفكاره ويسترجع ذكرياته، مستعينا بأدوات ساردٍ زار المكان وأحبّه، جاعلا من تلك الأوقات الماضويّة لحظاتٍ باقيّة، تجتمع فيها الحقائق أمام وعي القارئ، وحين وصل إلى بيروت اجتمعت أبعاد الصّورة وملامحها في وجدانه، واختلطت الأصوات والألوان، فباشر بجمع خيوط الرُّؤى لتكتمل الصّورة، صورة المسرح الّذي استوحى اسمه من أَحد المسارح الشَّهيرة في لندن، لِيكون الصّرح الثّقافيّ الأوّل والأضخم في لبنان.
شُيّد بعد أن اقتُبِسَت هندسته عن قصر برتغالِيّ، وافتتح عام (1965م)، ليعكّس دور العاصمة الفنّيّ والثّقافيّ آنذاك، وليكون مقصدا لعشّاق الفنّ ومحبّي الثّقافة.
نقرأ عن تأسيسه وافتتاحه بحضورٍ مهيبٍ للنّخبة الثّقافيّة والسّياسيّة اللّبنانيّة، وعن استقباله للنّجوم الفنّيّة كالفنّان عمر الشَّريف والأخوين الرّحبانيّ والسّيّدة فيروز، والفنّانة سلوى القطريب، سمير غانم وعادل إمام وغيرهم.
نقرأ أيضا عن عراقته وأناقته، بدءًا من ستائره الحمراء المتماثلة مع لون الكراسي الوثيرة، مرورًا بـجدرانه المزيّنة بصور كبار الفنانين الذين استضافهم على خشبته، وصولًا إلى الأفلام العربيّة والعالميّة التي عرضت على شاشته.
وكأنّ المجد في شارع الحمراء قد انحصر بهذا المسرح، ومقاهيه التي أقيمت من حوله لاستيعاب روّادهِ
كان يخفّف من وطأة الحرب إلى أن احترق وغاب، وبسبب الإهمال أصبح مجرّد أطلالٍ وآثارٍ لزمنٍ بائد، تخلَّت عنهُ الذّاكرة الجمعيّة، وتركته حطاما مهملا محروقا دون أيّ اكتراث، أمّا الذّاكرة الفرديّة فكانت الرّواية الأساسيّة، التي عبّرت عن ذات الأبطالِ ودواخلِهم.
الفكرة والمضامين:
تصوّر الرّواية حالة المجتمع اللّبنانيّ في فترةٍ حرجة، شهدت العديد من التحوّلات السّياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة.
هناك دلالات ومضامين، رفدت هذا العمل وأضفت إليه قوةً وعمقًا، منها المضمون السّياسيّ والتّاريخيّ والفلسفيّ، وكذلك المضمون العاطفيّ والنّفسيّ والوجوديّ، لتتجلّى براعة السرد في استثمار هذه المضامين التي حملت رموزَها، وفتحت للقارئ آفاق التأمّل والتّفكير، وعبّرت عن واقع المجتمع وتأثيرِه على حياة أفراده، وكشفت تركيبة السلطة، وتأثير الأحداث السّياسيّة على حياة النّاس.
كما أبحر د. واسيني في رحلةٍ فلسفيّةٍ عميقةٍ، غاص خلالها في عمق النَّفس والوجود.
ترجم هذه الرّحلة شخوص متباينة، خاضت غمار صراعاتها الدّاخليّة والنّفسيَّة، مجسّدةً بذلك تناقضات الحياة وتحدّياتها، في نصٍ مفعمٍ بالحياة، اسْتمدَّ إِلهامه من الواقع والفلسفة، ومن المشاهد الدّراميّة التي صوّرت رحلةً عميقةً لأبطالها، غاصت في دواخلهم وذكرياتهم، مشاعرهم وتوجّهاتهم وتناقضاتهم، فأثارت في النّفسمشاعر متضاربة وقدّمت خليطا من الواقع والخيال، وما يثير التّساؤلات حول الوجود والهويّة والحياة والموت، ومأساة الإنسان وارتباكه في هذا العالم.
عازفة البيكاديلّي كشخصية مركزية:
وصفت السطور حالةً عاطفيّةً وجدانيّة؛ لامرأةٍ تعيش تجربة عشقٍ للموسيقى، دفعتها للتّفوّق على ذاتها، بما يليق بامرأةٍ تنتمي إلى الموهبة، تفِيض بالمحبّة والحنين إلى الزّمن الجميل الَّذي غاب، وتستخدم الموسيقى كوسيلة للتعّبير عن نفسها، ومشاعرها وأحاسيسها. وتحوّلاتها العاطفيّة والفكريّة.
تتّخذُ لينا “عازفة البيكاديلّي” منْ الألحان ما يمحو حزنها، تجد في الموسيقى ملاذًا من قسوة الواقع، ونافذةً تطلّ من خلالها على ذاتها.
حاولت أن تعيد المسرح إلى نشاطه بشكلٍ مؤقّت، فطرحت الفكرة على قسم الفنون والعلوم في الجامعة الأمريكيّة، وحصلت على موافقة الوزارة، وبدأت بتنظيم الحفل الفنّيّ فيه وهو على حاله.باشرت بتدريب طلّاب قسم الموسيقى والفنون لتثبت أنّ الصّعوبات لا تقف حائلا أمام العزم والإرادة.
يستمرالسارد في وصف حياةِ هذه العازفة، التي كَبُرَت على وقع صوت الرّصاص ورائحة الدّم بسبب الحرب، هي ابنة عازف المسرح الأوّل “المعلّم جوزيف”، الذي قضى نحبه مغتالًا بيدٍ آثمةٍ لقاتلٍ مجهول، وهو الرّجل المبدع الذي عزف مع السّيدة فيروز وداليدا، والرّحابنة وشريهان وغيرهم. وهو من ورّطها بالعزف في عمرٍ صغيرٍ، يوم انقطعت الكهرباء وانطفأَ النّور، وكانت ذراعه مكسورة، فدفع بها لتقديم وصلةٍ موسيقيّةٍ بدلا عنه، فانبهر بها عاصي الرّحباني والجمهور، وأصبحت عازفة البيكادلِّي دون منازع.
وبعد أن حلّت الكارثة بحرق المسرح، اغتيلت كلّ ذكرياتها وأحلامها الفتيّة.
تتمتّع هذه العازفة بالعديد من الصّفات الإيجابيّة، وبعمقٍ نفسيٍّ وعاطفيّ، فهي موهوبة ولا تستسلم بسهولةٍ، وعليه فهي شخصيّة مركّبة، تمرّ برحلة النّضج والتطوّر الشخصيّ، وتتغلّب على التّحديات والصعوبات، ما يجعلها تظهر بشكلٍ مميّز.
يكشف النّصّ بعض أَسرارها، زواجها من “أنطوني” الذي انفصلت عنه، بسبب انصرافه إلى العمل الإجراميّ. تزوّجته بعد مغامرةٍ مجنونةٍ مع المصوّر “ماسي”، الذي تعرّفت عليه بالصّدفة، وأحبّته قبل ثلاثين سنة، ثمّ انفصلا.
تستمرّ الأحداث بشكوكها بتورّط زوجها في حرق البيكاديلّي، انتقاما لمقتل أخيه تحت التّعذيب، ولمشاعر القهر التي سكنته، فظلّ حاقدًا يُفكّر في الانتقام.
كان رجلا قاسيا لا ترقُّ له قناةٌ أمام دموعها، حين كانت تلتقط الأمل من أشلاء الذّكريات الجميلة.
شخوص وأحداث:
بينما يعصف العنف في المدينة، ينكبّ “ماسي” على إنجاز كتابٍ مصوّرٍ عن البيكاديلّي. يسعى لإتمام الكتاب قبل حلول الذّكرى العشرين على تدمير المسرح، فيحاول الدّخول إليهِ والتقاط الصّور، لكنّ البيروقراطيّة الخانقة التي تسيطر على وزارة الثّقافة، تعيق مساعيه، وتحول دون حصوله على الموافقة.
الشخصيّة الثّانيّة في هذا العمل هي “إيما”، وهي ابنة العازفة، تعمل في “جورنال المحقّق” وتسعى نحو فكّ غموض الحريق.كانت تنبذ الطّائفيّة، وتحمل روحا متحرّرةً متسامحة.
تبدأ الأحداث وهي تخرج من سجن النّساء بعد شهرٍ من الإعتقالِ بتهمة قذف وإهانة مؤسّسات الدّولة، وذلك بعد سعيها الحثيث في تقفّي أسرار الجريمة، ومحاولة العثور على اليدِ الفاعلة.كانت تؤمنُ أنّ الحريق جريمة مقصودة، ارتُكِبت بفعلِ فاعل.
يحذّرها الضابط سليم قائلا(ص20): “تشكّكينَ في تقريرِ رجالِ الأمن! يفترض أن تتوقّفي عند هذا الحدّ، لأنّ تخطّيهِ سيقودُكِ إلى السّجنِ كما تعرفين”.
يسترسل الكاتب في وصف مشاعر شخوصه الوجدانيّة، وتجلّياتهم الإنسانيّة؛ ليقدّم بناءً روائيّا زاخرا بالمشاعر، والوقائع التي التقت بالخطوط الفنيّة والفكريّة والسّياسية، والمحظور الاجتماعيّ.
كشف عن التّأثير الآيديولوجيّ بكلّ أبعاده الثّقافيّة على العلاقات الإنسانيّة، متحدّيًا التّابوات الاجتماعيّة والفكرية المتجذّرة، طارحاً فكرة الزّواج المختلط، مُثيراً للأسئلة، مُستدعياً أجواء التّآلف والتّنافر وأسبابها في المجتمع اللّبنانيّ، وما ساد في تلك الفترة من أحداث. فصنع بذلك حياةً كاملةً للعازفة، منتصرًا لها ولأفكارها وللحبِّ في النهاية.
يكتب (ص53): “من نَصّبَكُم آلهةً صغيرةً تحكُمُ على النَّاس؟ لا دينَ للقلوبِ إلّا دينُ الحبِ، لو حلَّلنا فصيلَةَ دَمِكُم، لوجدناها خليطا من الأتراكِ والأكرادِ والشّركسِ والمسلمينَ والمسيحيّين، وكلِّ الَّذينَ مرّوا على هذهِ الأرض”.
سيرة المكان والزّمان:
الأمكنة هي ذاكرة الإنسان، ومرآةٌ تعكس ماضيه وهويته، في كلّ زاويةٍ منها تنمو الذّكريات، هي ليست مجرّد مواقع جغرافيّة، بل هي مساحات محمّلة بالحكايات التي خطّها الزّمن وخلّدتها الذّاكرة.
عن سيرة المكان والزّمان، فقد كانا مصدر إلهامٍ للكاتب، استعادهما لترميم الذّاكرة الثّقافيّة، ولإعادة المجد لمعلمٍ بيروتيٍّ بتاريخه ونشاطه، ذهب بهما بعيدا،جاعلاً منهما حدثًا وأداةً وساحةً للصِّراع وخلِيفَّةً لروايته.
استحضر آنِفَ بيروت، مستطلعًا غموض أحداثها، مطلّا على حاضرها، معيدا تشكيل الزّمن بفلسفته، فصاغ نسيجًا حيّا متجانسًا من الأماكن والأحداث والمشاعر والتوقعات والإرهاصات، فغدت المدينة مادةً طيّعًة بين يديه، وفضاءً روائيًّا رحبًا، بزواياها التي تنوّعت وانقسمت بين المكان المفتوح والمكان المغلق، فبين شوارعها الصَّاخبة وأزقّتها الضَّيِّقة، تعانقت الأبنية الحديثة مع البيوت القديمة، وتداخلت الضّحكات مع الأحزان، كأنّها سمفونيّةٌ مؤلّفةٌ من أحرف الحياة.
وُصِفَت الفنادق والمقاهي والمؤسّسات، مسرح البِيكاديلِّي، وشارع الحمراء، ومركز الشرطة والبيوت، وذُكرَت أماكن أخرى حملت القارئ بعيدًا في رحلةٍ قصيّةٍ، مثل باريس وتِلِمْسان.
إذن، هي سيرةٌ للمكان بصورته الباقية في الأذهان، وما حلّ بالمدينة من خراب، وما نزل بها من كربٍ وضيقٍ حتى غدت مختلفة، بعد أن احتفت بمظاهر الرّقيّ والجمال، وبعد أن عانقت في حاضرها الماضي والحاضر.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وقَبِل الشعب اللّبناني بواقعه، لم ترحمه قادة الميليشيات والسياسيين، الذين فشلوا في إدارة بلادهم، وتجنّبوا مسؤولية الإنفجار الذي وقع في مرفأ بيروت عام (2020م).
تلك الفاجعة المأساويّة والكارثة الَّتي هزَّت العاصمة، أدّت إلى تفاقم الكوارث الاجتماعيَّة والاقتصاديّة، ونتج عنها حريق ضخم، بسبب انفجار كمّيّةٍ كبيرةٍ من نترات الأمونيوم، مما أحدث أضرارا شديدةً في المرفأ والمدينة، وأسفر عن وفاة عددٍ كبيرٍ من النّاسِ، حتّى غدت ذكريات الحرب والانفجار جزءًا لا يتجزّأ من الوضع المتدهور الحاليّ، الذي يعيشه الشعب اللّبنانيّ، فغابت مظاهر التّحضّر، وتحوّلت الأماكن التي عُرِفَت بملامحها القديمة الرّاقيّة إلى أماكن غريبة، أو اختلّت هويتها بشكلٍ لم يعد معروفًا.
أعود إلى البكاديلّي، ذلك المكان الذي نشط خلال حرب عام (1982م) مقاومًا الحزن والموت بالفنّ، رافضًا التشرذم والتحزّب.
كان مكانًا رمزيّا للتّآخي، يتخلّى روّاده عن فكرة الطَّائفيّة ورواسبها الإجتماعيّة العقيمة أثناء زيارته.
لم يعرف الفاعل؛ فتكاثرت الأقوال والتّخمينات، بعد أن كان المسرح واحةً حقيقيّةً، في ظلّ الموت اليوميّ الذي عاناه لبنان. فهل كان الحريق سهوا عابرا أم بفعل فاعل؟ وهل أُحرِقَ بسبب إهمال أحد عمّال الدّيكور كما جاء في التّحقيق؟
أشارت أصابع الاتّهام إلى المنزعجين من المسرحِ، وأشارت شكوك العازفة إلى زوجها أنطوني، حيث قالت (ص260): “رجلٌ بهذا الإرتباك، يمكنُ أن يقومَ بأيّ جريمةٍ شنيعة”.
وتساءلت ابنتهُ إيما: “كيفَ يمكنُ لرجلٍ أن يكونَ جميلا مع ابنتهِ، وفي أشدِّ الانحطاطِ معَ زوجتهِ وأهلهِ ووَطَنه؟”.
الحوار وسماتٌ فنيّة أخرى:
يُجسّد هذا العمل روايةً بوليفونيّةً، اعتمدت على تعدّد الأصوات الرّاوية للأحداث. فبدلًا من صوتٍ واحدٍ، تتوزّع الرّواية على عدّة أصوات، يروي كلٌّ منها الأحداث من منظوره الخاصّ ووجهة نظره.
بحسب النّاقد الرّوسيّ “ميخائيل باختين”، تُعرف هذه التقنيّة السرديّة، بتعدّد الأصوات والرّؤى، واللّغات والشّخوص ووجهات النّظر وأنماط الوعي، وهي تُمثّل تصوّرًا للمعاناة البشريّة، من خلال التّضارب بين الأصوات الراويَّة وتصويرها المُتعدّد للوقائع.
بهذا التعدّد، تبقى الأسئلة مفتوحة، ممّا يُعزّز من تفاعل القارئ، ويدفعه إلى تكوين آرائه الخاصّة. وهكذا، تحرّر هذا العمل من سلطة الرّاوي المطلق، ومن أحاديّة المنظور واللّغة، توزّع فيه السّرد على الأبطال الرّوائيّة لكشفِ علاقتها بالمكان والحدث.
بفضل هذا التّوزيع، أمسك الحوار بخطوطٍ عدّة، وتداخلت بين الصفحات لغةٌ فصيحةٌ، ولغةٌ صحفيةٌ، ولّهجةٌ لبنانيةٌ، في نصٍّ تشكّل من حكاياتٍ كثيرة، تفرَّعت من حكاية البيكادلّي وعادت إِليها كلَّ مرّة؛ لتترابط، داخل إطار السّرد ومكانهِ
كما تمّ إِثراء العمل بالقصص والأساطير، جلجامش وعشتار وغيرها؛ لتندمج في مدلولها الرّمزيّ، وصولًا إِلى المدى الفلسفيّ المطروح.
من خلال هذه القصص، نستخلص أن اختلاف الفلسفات والعقائد والأنظمة والحدود الفكرية، هي السبب في حروبنا التي يذهب ضحيتها الملايين، نرى أنّ الإنسان متى تجرّأ على الوقوف في وجه قيوده الفكريّة، فلن يبالي بها بعد ذلك، بل سرعان ما يحطّمها، وينطلق حرًّا كريما، آخذاً النّظر بعين النّقد لكلّ شيء، وهذا ما يؤكد على أهميّة الحرّية والتّفكير النّقديّ، في بناء مجتمع أفضل، خال من الطّائفيّة والحروب والصّراعات، والعنصريّة والبغضاء.
كما حمل النّصّ دعوةً للتمرّد على القيود، فقد استنطق الكاتب المسكوت عنه، واستثار مشاعر القارئ، لم يتناول الأحداث بشكل سياسيّ مباشر، بل قام بعمليّة التّوثيق عبر الشّخوص الحيويّة، التي تحرّكت في ظروف معينة، بأبعادها ومنظومتها المتناقضة، وفروقاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة الحادّة التي سادت وما زالت تخيّم على لبنان.
وهنا تَطرَح الأسئلة نفسها بإلحاح، فلماذا لم يُعَد إعمار المسرح؟ ألم يكن بإمكان الجهات الفاعلة المساعدة بالوفاء لهذا المعلم؟ لماذا لم يطالب أو يتبرّع أو يسهم بترميمه أحدٌ من الفنّانين الكبار ممن منحهم البيكادلّي الكثير؟ راسما جزءًا مهمّا من مسيرتهم الفنيّة؛ كالسّيدة فيروز مثلًا وعائلة الرّحباني، وغيرهم من الفنّانين الأثرياء؟
ألا يستحقّ ذلك المكان الاهتمام به، بعد أن قدّم خدماته لهم؟ وهل يقتصر الانتماء وحب الوطن على الشّعارات الرّنانة، والأغاني الوطنيّة والقصائد الشّعريّة فقط؟
أليس للمدينة حقٌّ على أثريائها؟ خاصّة وأنّ الدّولة تعاني من أزمةٍ اقتصاديةٍ خانقة تعصف بها بسبب الفساد والطّائفيّة وسوء الإدارة.
الرّواية والموسيقى:
بما يتعلّق بالجزء الموسيقيّ من الرّواية، فتظهر علاقةٌ فريدةٌ وعميقةٌ بينها وبين الموسيقى، تجلّت في تجسيد الأصوات والنّغمات بأسلوبٍ أدبيٍّ متقنٍ، فقد استُخدِمت الموسيقى كعنصرٍ مكمّلٍ لهويّة العمل، حملت إلى القارئ حالةً من الانسجام الدّراماتيكيّ، ومثّلت لغة تعبيرٍ برمزيةٍ متوازنة بين النّصّ واللّحن، عزّزت الأحداث وعبّرت عن الوقائع التي استمدّت منها الحيويّة في العنوان والخطاب.
وعلى لسان البطلة حضرت هذه العبارة (237 ص): “الموسيقى لا تُنقذ النّاس من الموت، لكنّها تحرسنا، وتمنعنا من التحوّل إلى ضباع”.
وكأنّي بالكاتب يقول: الموسيقى هي من توحّدُ الأرواح، هي لغة القلوب المتّصلة والعقول المنفتحة، وهي الوسيلة التي تجمع البشر بغضّ النّظر عن خلافاتهم واختلافاتهم وألوانهم وعقائدهم.
وبعد.. لقد أبدع الكاتب في استخدامه للموسيقى كأداةٍ فنيّة، تُؤكّد على قدرتها على التأثير في النفس البشريّة ونقلها من حالةٍ إلى حالة، ومن موضعٍ إلى فُسحةٍ، من الحزن إلى الفرح ومن اليأس إلى الأمل؛ لتغدو هذه الرّواية بمثابة لوحةٍ تجسّد تناقضات الحياة وتحدّياتها، وتؤكّد على قدرة الفنّ على الإلهام والتّعبير عن مكنونات النفس البشريّة، فبالموسيقى تنتشي الأرواح ويعلو فيها صهيل الحياة.
– ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثّقافيّ.