أدب

ثنائية الحب والجسد في نصوص الشاعرات

هند زيتوني| سوريا
يتناول هذا المقال ثنائية الحُبّ والجسد، وما تحيل إليه هذه الثنائية من حضور الجنس في قصيدة النثر الحديثة لبعض الشاعرات العربيات اللواتي نُشرت دواوينهنّ ضمن سلسلة-إشراقات الصادرة عن دار تكوين العريقة، تحت إشراف الشاعر والفيلسوف أدونيس.
صرّحَ أدونيس: “باعتبار أنّ الشعر، بالنسبة إليّ، هو أهمّ وأرقى وأعمق ما أنتجه العرب، كان لا بدّ من إيلاء اهتمام خاص به، لا سيما أنّ ثمة أصواتًا شعرية نسائية تستحقّ أن نهتمّ بها، ونبرزها”.
من هنا وُلدَت فكرة إطلاق سلسلة شعرية تجسّد هذا الاتجاه في الشعر العربي، وتبرزه للمرة الأولى في قطيعة كتابية مع الاستعادة والاستعارة معاً. عليه فإنّ المبدأ الذي يقوم عليه هذا الاختيار هو أولًا كتابة شعر لا يُذّكّر بما مضى، من القديم حتى الآن، وثانياً يخلق علاقات جديدة بين الكلمات والأشياء بحيث يكون هناك انفتاح على كتابة عربية جديدة لا تنفتح فقط على تراثها، وإنما تنفتح، كذلك، على الآخر المختلف”.
تتنوع البنية الأسلوبية للمجموعات المختارة ما بين السرد المسترسل والتجريب والكولاج والصور السريالية. وتبدو هذه الكتابة الشعرية، كما صرح الشاعر أدونيس أنّها تجيء من أفقٍ آخر؛ أفق الذاتية المتحرّرة من جميع السلطات الكابحة، وأفق الكينونة وإضافةً إلى المكبوت نفسيّاً وجسديّاً. وفي هذا ما يتخطّى خريطة الكتابة الشعرية السائدة.
تملك قصيدة النثر العربية الجديدة انزياحاتها الجريئة، وتحولاتها الدلالية، وجمالياتها المتوهجة. يقول أدونيس: هكذا بدأت المرأة تكتب شعر الدخول في عالم الأشياء الحميمية، وبدأت تقول الجنس بشعر هو نفسه شكل جنسيّ للّغة نفسها. والشعر، بوصفه حياةً وحُباً: ذلك هو الأساس العميق الذي تنهض عليه، اليوم كتابة الشعر العربية.
إنّ تناول ثيمات الحُبّ والجنس والجسد في سياق القصائد والشعر ما زال يُعتبر (تابو) في الشرق وفي بلادٍ أخرى قد يقودُ إلى الموت. أذكر هنا موت الشاعرة الأفغانية- نادية أنجمن- على يد زوجها لأنّها اقترفت إثم كتابة الشعر في بلدٍ له عداء مع الحرّية. ويجب أن نذكر أنّ الشاعر الأفغاني (بهاء الدين مجروح) تلقّى عدّة رصاصات في صدره، لأنّه جمع ووثّق قصائد اللاندي التي كانت تتحدث عن الحب والجسد. قال عنه الشاعر الفرنسي أندريه فيلتير: “مات لأنّه تكلّم بكلّ حريّة وبالأخصّ لأنّه كان صوتاً للذين لا صوت لهم”.
لقد أصبح موضوع الجسد من الموضوعات المهمة والمطروحة في شعر الشاعرات العربيات. وقد كان قديماً في كتابات أفلاطون، وديكارت، وسبينوزا، ميرلوبونتي، نيتشه وفوكو وغيرهم. لكن الجسد الذي هو- عورة– بنظر الدين والمجتمع، ولا ينبغي لأحد أن يتجرّأ ويتحدث عنه أو يذكره أو يعرضه لأحد، ولكن السؤال هل بإمكاننا أن نغمض جسدنا ولا ندعه أن ينظر لأحد أو نقمع حواسنا فلا نستمع إليه؟ لكن الحقيقة، ينبغي منا الخبرة بهذا الجسد حتى نمتلك وعياً بالوجود.
وهنا تسأل الفيلسوفة الإيطالية ميشيل مارزينو: هل للفرد الحقّ في ملكية جسده؟ “الجسد هو قدرنا ليس لأنّ الكائن البشري ليس حراً في اختيار الحياة التي تناسبه وأنه مصمّم وراثياً لإنجاز بعض المهام، وقد خضع لشتّى أنواع التنكيل والتعذيب وتأرجح بحسب الثقافات بين المُباح والممنوع بين العاري والمستور. والجسد يعتبرهُ نيتشه: هو الذي يمنح الإنسان إرادة القوة، والحياة التي ينبغي أن تعاش هي يكون/ فيها الجسد مصدر القوة والبهجة معاً/.
ولكن يجب أن لا ننسى أن الجسد الذي يحتاج الحُبّ والجنس كمطلبٍ أساسي من مطالب النفس والروح والحواس بسموّه وعلوّه عن المجون والإباحة، من الممكن أن يصبحَ عبداً أو أسيراً للشهوة للغرائز. تقول الشاعرة التونسية والمترجمة لمياء المقدّم التي تعيش في هولندا: “قصيدتي الحرّة أكتبها إن كنت حرّة “. وفي كتاب الجسد الذي صدر ضمن سلسلة إشراقات تقول: “في هذا الكتاب، الجسد هو الذي يتكلّم، ويروي قصته منذ لحظة ولادته دون تدخّل الشاعر، رغبت أن أُنهي من خلاله مرحلة ما من مراحل الكتابة عن الجسد”. ففي شعر لمياء يحضر الجسد، ويصنع بلا تردّد عوالمه الخاصة، ليغدو الكتاب في جُلّ قصائده نوعاً من المكاشفة الحقيقية وتجربة الأنا الذاتية مع الجنس والجسد.
تقول الشاعرة لمياء المقدّم: وُلدتُ جسداً مخيفاً من مادّة متعفنة/ تركتها الشمس تسقط من قلبها. كبُرَت وترعرت كما تفعل الأحجار/ وعندما كبرتُ وترعرت رأيتُ نفسي في المرآة فظننتني امرأة ثمّ ظننتني رجلاً/ عرفت أنّني جسد، جسد فقط!/ عضّني فمٌ فتكلمت أول مرة/ لا أتذكّر ما قلته؟/ لكنه كاف ليحكم عليّ بالإعدام في ساحة عمومية/ أُعدمت وأُعدمت ومن رقبتي سال دم كثير / وصلبت على أطرافي كالمسيح”.
يظهر هنا الجسد كعقوبة من السماء، وقد فُرِضَ عليها فتقبلته، وراحت تبحثُ عن حقيقته، وتَشكَّ في طبيعته، في محيطٍ ينظر إلى الأنثى كجسد وكتلة من الغريزة، جُبلت من مادّة متعفّنة لا قيمة لها.
ثمّ تقول في مقطعٍ آخر: عرفَ الجسد أجساداً كثيرة/ كان يختارها من أعينها/ ينظر في عين الواحد منها فيعرف حجم عضوه/ نوع الماء الذي يسكنه/ أينَ سيعضّه، وأينَ سيفتح الجرح؟ الذي منه ينفذ/ يمدّ رقبته أو بطنهُ، وينتظر/ الجميع ناموا في قطعة لا تتعدّى حجم الأصبع”.
تكتب لمياء عن الأنثى التي ما زالت تعيش تحت سقف العادات ومفهوم الدين الخاطئ تحت سلطة ذكورية صارمة. هي صوتٌ للذين لا صوت لهنّ؛ تكتب بجرأة ووضوح وشفافية عالية عن الجنس الممارس بقسوة وعنف أحياناً على المرأة أينَ سيعضّه، وأين سيفتح الجرح”. هذا الجسد في الشرق قد يكون آلة إنجاب وآلة متعة للرجل، متجاهلاً الحبّ، الرغبة والمتعة التي تحتاجها الأنثى من عملية الجنس. تقول الشاعرة: “الجميع ناموا في قطعة لا تتعدّى حجم الأصبع”. السؤال هنا هل تكفي هذه المساحة الضيقة من الجسد لإتمام عملية الحبّ؟
تكتب الشاعرة لمياء وكأنّها تقف على حد الشفرة، أو على نصل السكين، وكأنّها تتحدّث بلسان جميع النساء وتجربة الأنا الموجوعة التي نزفت، وما زالت تنزف. الأنثى الشرقية التي إذا لم تنزف ليلة زفافها تُقتل، وتصلب مثل المسيح. الشاعرة لمياء المقدّم لا تطرح فكرة، بل تشعل النار في شعرها، وتزيح الرماد عن المسكوت عنه، والمخبوء على مدى السنوات. حيث تخاف الكثيرات أن يقتربن من هذا البوح الشائك بسبب السلطة البطريركية، وسلطة المجتمع الذكوري الظالم الذي لا يعترف بأنّ الإنسان ليسَ مجرّد جسد، بل هو جسد وروح وعقل وفكر كما وضّحت الدكتورة والناشطة النسوية المثيرة للجدل نوال السعداوي.
وفي ديوان الشاعرة السورية المقيمة في تركيا بسبب الحرب ناريمان حسن (غزالة تعرجُ نحو منفاها)، تقول في تجربة الأنا مع الجسد بطريقةٍ إيحائية ورمزية، عذبة بحيث تسطّر حروفها كقبسٍ من نور في عالمنا المظلم. تقول ناريمان:
“- أفكّر دائماً بارتداء جسدٍ أُحبّه-
– لجسدي قدرة في إهدار حياتي كلّها ومحوها –
– هذا جسدي ومن أجل كلّ ميتاته القديمة/ لم يعد يلائمه الضوء –
– حين لا أجدُ شيئًا أفعله/ أنظر إلى جسدي، وأكتشف فيه ندوبًا. وشامات جديدة/ أعي حينها أنّها قبلات لرجال مهجورين أضاعوا شراعهم”.
الجسد عند الشاعرة ناريمان حسن، مقدّس تعاقِب عليه السماوات. تتحدّث عن الحبّ والقبلة بعذوبة نادرة وشجن فاتن. والحُبّ أيضًا مكسور ورغم أنّه يحدث يبدو مثل الندوب أو السير المطفأة والحبّ أحد صغار الحزن الذي تمّ إجهاضهم.
الحُبّ الذي يُولّد الوحشية والعنف كلما أغدَقَتهُ بنعومةٍ على العالم. تقول عن الحبّ: بهذا الحنو لن أتمكّن الصمود طويلاً/ القلب الذي يفيض رقّة لن يكتب له الثبات/ يسكب دمي كلّما نظرتَ إليّ مبتسماً/ يتفاقم جرحي إن حاولت أن تزيل الخدرَ عنه/ عليك أن تكون أكثر حذراً وصرامة/ وأن تحبّني على طريق القساة”.
الشاعرة ناريمان تكتب بانسيابية رائعة، تأسر قلب القارئ وتسلبَ حواسه وقصائدها تعكس الحزن والانتظار الذي لا يأتي بشيء، والحنين الذي يمتصّ الأشياء، تبدو هذه الأشياء شفافة ورائقة وجارحة.
أمّا عن تجربة الشاعرة الفلسطينية نداء يونس التي تقيم في فلسطين المحتلة في مدينة رام الله، فقد صدر تحت رعاية الشاعر أدونيس عن سلسلة إشراقات، ديوان “هي أنتِ”، وديوان “احتفاء باللاشيء”. نرى أنّها صوتٌ متفرّد في وقت كثُرت فيه الأصوات، وقلّ فيه الشعر.
والمشترك الشعري بين الشاعرات هو أنّهنّ يكتبن تجربتهنّ الذاتية، تجربة الأنا، سواء أكانت تجربة الجنس والجسد كما عند الشاعرة لمياء المقدّم، أم الاشتباك مع العالم من خلال الثيمة الصوفية للجسد كما عند الشاعرة نداء يونس.
نداء يونس تطرح شعرها بلغة فلسفية عصيّة على التقليد، وتشرك القارئ معها ليعبّئ فراغات النصّ. في ديوان الاحتفاء باللاشيء يبدو أنّها تستعين بالفكرة الصادمة/ أطفئ جسدي في منفضة/ أيُّ سؤالٍ عنكَ اشتباكٌ علنيٌّ مع كلّ شيء/ كي لا تتمكّن منّي أشياء القمع/ تعلّمتُ أن أقايضها بالمسامير/ وأن أحتفظ لنفسي بالمطرقة”.
نرى من سياق النصوص أنّها تخلق علاقةً جديدة بين الشعر والكلمات، وهي تبحث عن القيم المطلقة. تبتعد عن الصور التقليدية، وتدرك منذ البداية أنّ الشعر هو أن نأتي دوماً بالجديد والمتميّز. نداء شاعرة ماهرة في توظيف الكلمات حسب ما تبتكره من لغة ساحرة تذهل القارى بالانزياحات الشعرية الفريدة. تقول الشاعرة:
بحرٌ يمرُّ على جسدي
يبتكر وظيفة أخرى للموج؛ الليلة مدّ
أجل للبيع هذا الجسد/ أدفع ثلاثة آلاف من الساكسوفون
ليسَ قطعة من جبل/ هكذا أريد الليلة
ثمّ تقول: جسدي
يقول ليختبر حباله الصوتية
ليلتحق بالطيور/ هو أساس لميكانيكا الأشياء
ليس وحياً ولا صوتا غامضاً
ولا تعاويذ أو تعاليم/ أو حتى ذاكرة محشوة بالقشّ والعرق.
وتقول:
يخاف الشوارع المسكونة بالحنين
بالارتباك واللهاث
هذا الجسد.
كما نرى من القصائد أنّ الشاعرة نداء مسكونة بالجمال والفرادة، لديها مختبرها الصغير من قوارير الشعر الثمينة وخلطات الحروف وتوابلها، لا أحد يجيد استعمالها غيرها.
وهل يستطيع الشعر أن يحرّر الإنسان من قيوده أو من ألمه؟ فالحياة تحتاج الجرأة ومواجهة الخطر ولا بدّ من أن نُبحِر تحت الموت والعواصف وقد نُحبّ الموت لو اعتقدنا أنه الطريق إلى الحياة.
هناكَ شواعر خرجن من سجن الجسد إلى رحاب الحرية، من هنا كانت القصيدة أنوثة الروح الأمّارة بالشعر الذي هو ضرورة للمرأة أكثر من الرجل بسبب الأغلال الصدئة التي ما زالت آثارها حتى الآن. الشعر عند شواعرنا الصعود إلى جبل على رأسه نار الخطيئة المقدّسة وميلادها الدائم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى