في ذكرى نكبتنا: العودة إلى مجدل عسقلان

عمر حمّش | فلسطين المحتلة

إهداء إلى أمي المغادرة

هوامش  

 مجدل عسقلان: مدينة عربية تقعُ شمال غزة احتلت سنة 1948 واشتهرت بصناعة النسيج

 وادي النمل: من أعظم المواسم الشعبية في فلسطين، كان يعقد على شاطيء عسقلان كل ربيع

 بعد سقوط المجدل تم عزل من تبقى من سكانها لمدة سنتين، ومن ثم تم طردهم فيما بعد، وكانت العربيّات يقدمن البصل لليهوديات من خلف سياج مقابل جلب الرمل الذي صار بعيدا!

الهاجاناة: عصابة إسرائيليّة

   الشيخ عوض: مزارٌ لوليٍّ في مجدل عسقلان 

هربيا : قرية فلسطينية متاخمة لحدود قطاع غزة 

بربرة: قرية على الطريق .. اشتهرت بأعنابها

 

في فجرٍ حائرٍ هبّت العجوز .. في فجرٍ حائر

 سحبت ثوبا مخبوءا منذ عقود نسجه المقصوفُ في نول المجدل

  تخرجه الآن موشّى، أخضر، فأحمر جنّةٌ فنار

  القبّةُ على الصّدر الضّامرِ مربّعةٌ وعلى الرأسِ المرتجِّ المِنديلُ حرير

 وتعود أمُّ التسعينَ مهرولةً  إلى مَجدلِ عَسقلان

 قررت العودةَ إلى أخرِ مشهدٍ في الدنيا دبكة معقودة قُدامَ البحرِ،تحجلُ فيها في وادي النّملِ، وتهزُّ الصَّدرَ النافر َبذاتِ الثوبِ  أمام َالزَّوجِ في عُرسٍ راقصٍ لبنتِ الجيران

 رأته الآن يجيء

 على خاصرته يعقد يُمناه ويحرِّك ساقيه يميلُ، ثمّ يحتدّ؛ ليدقّ الأرضَ  بضرباتٍ موزونة

 الى الزَّفةِ يجيءُ القصفُ

 القصفُ يجيء

 القصفُ

 القصف

 تمزقت الزفةُ، والحشدُ تناثرَ، وتحتَ التوتةِ همدتْ مذهولة …ببطنِ الجذع

 الآن تعودُ، فيبتسمُ الفجر

 قالت ليدِها العجفاءِ، وهي تلوح: ندمَ الشيطانُ

 قالت ليدِها: خرجَ اليهودُ

 تابَ منْ لا يتوبُ

 ورأت العجوزُ ورودا تسكنُ عينيها؛ فهتفتْ متراقصةً:

 الدنيا ورد

ورد

ور د

* * * * *

 

عصفورٌ في الفجرِ ينادي

 الابنُ يصرخُ، فيهُبوا

 خرجت العجوزُ

 فعلتها

 هرول إلى الصندوقِ

 فما وجد المفتاح

قالت: سأعودُ

الابنُ دوما متهيئٌ، والكنّةُ، والأحفاد

فعلتها !

هاموا في الطرقاتِ … انضمّ اللاجئونَ .. إذاعاتٌ صاحتْ، ومساجدُ صارت تعلنُ،

والبناتُ وصلنَ مع الأزواج

تباعدوا واقتربوا، تعاتبوا، وتشاجروا

صاحَ الابنُ: هَلكنا

الفصائلُ خجلى جاءتْ، والأحزابُ، أصحابُ لِحىً، وعلمانيون

لكنّ الشمسَ ابتعدتْ

في حلقِ الابنِ اللهبُ وفي ساقيهِ اشتعلتْ نار

* * * * *

 

الشيطانُ زيّن لها شعبا يعود

 جموعا محملةً، وجموعا تسير

 رقصوا على رجفِ الطبولِ

 وفي الرأس المهتزّ احتدّت زغاريد

 شوشانا الصفراءُ في الغيم ِأيضا جاءت

 هيّا شوشانا خذي ما جلبتِ

 خذي معك استرَ، خذي راحيل

 وجاءت أواخرُ أيام

 شوشانا في المجدلِ تقبضُ رأسَ بصلٍ مقابلَ دلوِ الرمل

 يا شوشانا هاتي الرملَ، لأجلوَ بعضَ أوانٍ

 ابتعد الرملُ يا شوشانا

 ابتعد الرمل

 شوشانا تشترط ُأن تقبضَ رأسَ البصلَ؛ لُتتمّ الأمر …

هيّا شوشانا إلى بلادِ المروكِ عودي… أزفَ الوقت

يا مروكيةُ عودي

وشوشانا خلف سياجٍ، كانت ترقصُ يوما مع راحيل:

 إحنا بنات الهاجانا سبع ملوك ما تلقانا صيّفنا في فلسطين وشرق الأردن مشتانا!

وتصيحُ العجوزُ الآن مشهرةً المِفتاح

هذا نحنُ يا شوشانا؛ جئنا نحضنُ دورَنا،  ونقبّل باحاتِ جامعِنا المملوكيِّ

يا شوشانا

والعائدةُ صارت تتحسسُ جنبات الجامع، فتأتي خطواتُ الغائب، يتبخترُ بحزامِه الشاميّ وعلى الكَتِف تستلقي عباءتُه

عن بعدٍ بعيدٍ لثمت مواطئ َ قدميّه،  و أجناب الديوان..  الشارعَ المؤدي إلى الميدان .. شجرةَ زينةٍ استندت عليها معه … ورأت بابَ الدكان  رأته يجلبُ من حوانيتِ يافا بضاعتُه، وحريرَ الأنوال..  ولحظاتُ صفوةٍ صارت تأتي ..  يغلقُ المقصوفُ البابَ، ليأخذها صبيّةً بعمر ِالوردِ .. بتشممُها .. ويشعلُ فيها النار، لكنَّ شوشانا تعودُ مع اليهودياتِ تغني

محمد مات

مات، مات

خلّف بنات

بنات

ينشقُّ القلبُ

شوشانا كانت تَصفقُ مع المجلوباتِ الكفوفَ،  وللصبيّةِ تهزُّ معهنَّ عجيزات يائسات!

* * * * *

 

كأسطوانةٍ دار الابنُ .. نشف حَلقهُ  .. وارتجّت ساقاه

 العتمةُ صارت غولا، وليس في مرمى العين أمل.. 

 عادت العجوزُ

 كيف تعودُ؟

 كان يقولُ: اليهودُ في المجدلِ يا أمّي

 تصرخُ دوما شاردةً: يا شيخَ عوض

 ومقامُ الشيخِ لم تأتِه الدراويشُ منذ عقود

 يراودُه خاطرٌ أن يخبرَها : عراةً يأتون الضريحَ

 صار خلوةً بهم يضجُّ، وشيخنا بالبحر يستجيرُ .. يناديه البحرُ، والشيخُ يردُّ:

 خذني

  تصيحُ: دستور يا شيخُ

 لكنّ الشيخَ يغورُ، يهوي أسفلَ سيقانِ المخمورين

 يلاطمُه نباحُ وشبقُ الموتورينَ

تلتاعُ العجوزُ:

أعودُ لساعةِ سعيٍّ في وادي النّملِ، وأموتُ راضيةً على رأسِ الضريح.

ووادي النملِ بطاحٌ يا أمّي بلا جموع … بلا أغانٍ، ولا طقوس

العجوزُ لا تسمعُ من الدنيا سوى الطنينَ، وليس في عينيها سوى المشهدُ الأخير، والابنُ في صدره أفعى ، وقفت تنوحُ.

* * * * *

 

المِفتاحُ

 تتصلبُ يدُها على المفتاح

 بعد قليلٍ ترى ( هربيا) ستوقفُ فيها هذي الجموعَ … تصلي معهم شاكرةً، ثمَّ تخطو أوّل خُطوةٍ في الفردَوسِ.

 لا تأكلّ الجُميزَ، بل تمتصُ … تتذوقُ بلسانٍ صائمٍ قطرا عاد.

 بكت العجوزُ لمرأى (هربيا) وأشهرت حدّ المِفتاح ِكسيف

 ورأت ( بربرةَ ) على خطواتٍ؛ فغنّت بصوتٍ صادحٍ:

بربراوي يا عُنب

 وأشاحت بيدِها منتشيةً:

 يا .. عُنب

 يا عُ ن ب

 وارتمت على رملِ الداليةِ الأولى؛ تعانقُ باكيةً في غصنِها الذهب

 لكن عسقلانَ هتفت: تعالَي

فصاحت مصعوقةً تجري: يا مجدلُ.. وانطلقت العجوزُ بلا حشودٍ إلى الحدودِ المدرعة… في عينيها الزغاريدُ… وفي رأسِها رجفُ الطبول

وفي العتمة كانت عيونُ، تربِضُ في قصبة حديد… فيها أولادٌ من شوشانا، ومن وراحيلَ.. قناصةٌ يعتلون الثكنة َالعالية… أبناءُ عجيزاتٍ يوما تراقصنَ… غنين:

محمد مات

وانفجر الصوتُ

والعجوزُ ترنحت مشرقةً في الليلِ، ثمَّ  نامت، ترنو مبتسمة… وحدُّ المِفتاحِ المشهرِ بيدِها يتراقصُ مثل سيف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى