رسائل فوق المسافات والجدران
جميل السلحوت | أديب مقدسي
لا أخفي على أحد أنّني كلّما قرأت جديدا للأديبة الصّاعدة بسرعة صاروخيّة نسب أديب حسين فإنّني أؤمن من جديد بأنّ هذه الأديبة الشّابّة تتفوّق دائما على توقّعاتي العالية بخصوص إبداعاتها، فمنذ رأيتها للمرّة الأولى عندما جاءت من الرّامة الجليليّة إلى مدينة القدس لدراسة الصّيدلة، بعد أن أنهت المرحلة الثّانويّة، وطرقت باب إحدى أمسيات ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة المقدسيّة في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، قبل ما يزيد على عشر سنوات؛ لتشارك في حضور جلسات الندوة الأسبوعيّة وما أن تكلّمت حول كتاب كنّا نناقشه حتّى وجدت نفسي أمام فتاة ثقافتها أكبر من عمرها بكثير، فتعاملت معها بطريقة أبويّة، وتابعت ما تكتبه، بانتباه شديد، فأخذت على يدها وقلت لها بصريح العبارة:” سيكون لك شأن كبير في عالم الثّقافة والإبداع الأدبيّ”. وتحدّثت كثيرا مع بعض زميلاتي وزملائي من روّاد الندّوة عن قدراتها اللافتة.
وقراءتي لطالع مبدعتنا نسب أديب حسين لم تذهب أدراج الرّياح بل كانت في مكانها الصّحيح، فتفاجأت بإبداعاتها غير المتوقّعة، ومنها تأسيس متحف في بناء متوارث يزيد عمره عن ثلاثمائة عام يملكه والدها، ليحمل اسم أبيها الرّاحل الدّكتور أديب فريد القاسم حسين. وتساءلت: كيف تبادر لفتاة في بداية العشرينات من عمرها أن تؤسّس متحفا تراثيّا يحمل اسم الرّاحل والدها (1929-1993م) الذي توفّي وهي في السادسة السّادسة من عمرها؟ وكيف تربّت وتثقّفت فتاة يتيمة على صحّة وعمق الإنتماء لوطنها ولشعبها ولأمّتها العربيّة؟ فجعلت من متحفها ملتقى ثقافيّا لافتا!
وواصلت الرّائعة نسب أديب حسين كتابة القصّة القصيرة، ونشرها في كتابين، وهي تنضح نشاطا وتسهر لتغذية ثقافتها باستمرار رغم انشغالها بدراستها لعلم الصّيدلة.
وإذا بنسب التي واظبت على حضور أمسيات ندوة اليوم السّابع تفاجئنا مع زميلتها ومجايلتها مروة السيوري بتأسيس نشاط ثقافيّ شبابيّ شهريّ أسميتاه “دواة على السّور”. جمعتا فيه المواهب الشّبابيّة في القدس وفي غيرها من البلدات والمدن الفلسطينيّة. وعن إبداع نسب في القصة القصيرة فحصلت على جائزة دولة فلسطين في الآداب والعلوم الإنسانية عن فئة المبدعين الشباب، عام 2015.
وفي العام 2016 صدرت يوميّاتها المعنونة بـ “أسرار أبقتها القدس معي.”، وظهر في هذه اليوميّات المتميّزة أنّ القدس بمقدّساتها وتاريخها العريق تسكن عقلها ووجدانها وقلبها، وتفوّقت نسب بيوميّاتها هذه على كثيرين ممّن ولدوا وترعرعوا وتعلّموا وعملوا ودفنوا في القدس.
وواصلت نسب أديب حسين إبداعاتها وبرّها لوالدها، فكمّلت مشواره الذي عاجله الموت قبل إنهائه حول بلدته الرّامة وتاريخها وتاريخ الأنساب فيها، فجاء مجلّدها عام 2020 “الرامة.. رواية لم ترو بعد” في 640 صفحة من الحجم الكبير، وصدرت منه طبعة ثانية مؤخرًا.
وقد حدّثتني نسب أكثر من مرّة منذ أعوام خلت أنّها تعمل على جمع وتوثيق ونشر مجموعة من “رسائل المرحوم والدها”، ورغم ثقتي اللامحدودة بقدراتها إلّا أنّني كما ثبت لي هذه الأيّام أنّني لم أستوعب مرادها، أو بالأحرى لم آخذه بطريقة جدّيّة، إلى أن فاجأتني قبل يومين بأن أرسلت لي مخطوطتها المعنونة بـ” رسائل فوق المسافات والجدران القدس.. بيروت على حافة لقاء (1964-2022)”، ورغم انشغالي بأمور ثقافيّة أخرى، ولثقتي المطلقة بقدراتها فتحت ملفّ المخطوطة من باب الإطّلاع السّريع على بداياتها على أمل مطالعتها خلال الأسبوع القادم، وما أن طالعت صفحاتها الأولى حتّى وجدتني أقع في أسرها، فطالعتها على ما يقارب خمسة عشر ساعة متواصلة. فأدهشتني من جديد فوق ما كنت أتوقّعه، فبعثت السّعادة في قلبي، وغبطتها على هذه المفاجآت السّعيدة.
فنسب بكتابها هذا أضافت جديدا لأدب الرّسائل الحديث، ومن المعروف أنّ فنّ الرّسائل ليس جديدا في الثّقافة العربيّة، وإن كانت الرّسائل الأدبيّة ليست واسعة الإنتشار في الأدب العربي. لكنّها تبقى موجودة، فعلى سبيل المثال في العصر الحديث هناك رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، غسان كنفاني وغادة السمان، أنسي الحاج وغادة السمان، خليل حاوي ونازلي حمادة، محمود شقير وحزامة حبايب، ورسائل شقير مع شيراز عنّاب، ورسائل الأسير حسام شاهين إلى قمر. وسيصدر قريبا رسائل متبادلة بين جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير.
ويتميّز كتاب نسب أديب حسين الذي نحن بصدده بفكرته، حيث أنّ الكاتبة عثرت صدفة على رسائل متبادلة بين والدها وبين المؤرّخ عجاج نويهض (1895-1982م)، فقرأتها وبحثت عن الرّسائل التي أرسلها والدها إلى عجاج نويهض، حتّى اهتدت إلى عنوان ابنته المؤرّخة الدّكتورة بيان عجاج نويهض الحوت- هي أرملة المرحوم شفيق الحوت ممثّل منظّمة التّحرير الفلسطينيّة في بيروت-. وشاءت الأقدار بعد سنوات طويلة، أن تعثر د. بيان نويهض على رسائل الدكتور أديب القاسم حسين لوالدها، فأرسلت صورا عنها لنسب، وبهذا فقد وجدت نسب ضالّتها التي تبحث عنها، وها هي تنشرها في كتابها هذا. ويلاحظ من خلال هذه الرّسائل كيف كان الهمّ الوطنيّ يشغلهما وهما من عاصرا وعايشا نكبة الشّعب الفلسطيني الأولى عام 1948، ونكبته الثّانية عام 1967. غادر المؤرّخ عجاج نويهض بيته في حيّ البقعة في القدس في 12 مايو عام 1948 لإيصال رسالة للملك عبدالله والمفتي أمين الحسيني، عازمًا على العودة إليه، وحين عاد إلى القدس القديمة أدرك سقوط حيّه في يد الصهاينة، ولم يتمكن من العودة، فيما بقي أديب حسين في بلدته الرّامة.
ومن خلال الرّسائل المتبادلة بينهما (1964-1973) يلاحظ القارئ لها مدى انتمائهما العروبيّ، ومدى التحامهما بالقضيّة الفلسطينيّة، وكيف أنّ د. أديب القاسم حسين انتبه لمشكلة أبناء الطّائفة الدّرزيّة، ورفضه لفرض التّجنيد الإجباري على أبنائها في العام 1956، وتصدّيه لمحاولات “أسرلة” أبناء الطّائفة في فلسطين، عبر سياسات عدّة انتهجت حينها في فترة الحكم العسكري. وكيف أنّه بحث هو وعجاج نويهض عن الأصول العربيّة التي لا تشوبها شائبة لأبناء الطّائفة المعروفيّة. كما يلاحظ مدى اهتمام المؤرّخ نويهض بجذور القضيّة الفلسطينيّة، وإيمانه بحقوق الشّعب الفلسطيني الطبيعيّة في وطنه فلسطين.
لكنّ المبدعة نسب أديب حسين لم تكتف برسائل والدها والمؤرّخ نويهض بل واصلت مراسلاتها مع ابنته بيان، وتبادلتا الأفكار والرّؤى والكتب، وأبدت الدّكتورة نويهض رأيها في قصص نسب أكثر من مرّة.
ورغم أنّ الكاتبتين نسب أديب حسين وبيان نويهض الحوت لم تلتقيا وجها لوجه، إلا أنّ القارئ للرّسائل لن يحتاج إلى كثير من الذّكاء؛ ليقف على حبل الصّداقة المتين بينهما، والذي نسجتاه من خلال الرّسائل المتبادلة، ورغم أنّ السّيدة نويهض تجاوبت مع طلبات نسب وتواصلت معها ولا تزال تتواصل رغم مشاغلها الكثيرة كأكّاديميّة في الجامعة اللبنانية، ورغم شيخوختها فهي قد تجاوزت الثّمانين من عمرها -كما جاء في إحدى رسائلها لنسب-، إلا أنّه يسجّل لنسب كيفية بنائها لصداقة ممتدّة مع سيّدة في عمر جدّتها، وتقيم في قطر عربيّ آخر هو لبنان، وهذا ليس غريبا على نسب التي هي اجتماعيّة بطبعها.
هذا الكتاب يشكّل إضافة نوعيّة للمكتبة العربيّة، وفيه معلومات تاريخيّة لا يمكن القفز عنها، كما فيه شيء من ذكريات وسيرة الكاتبتين وسيرة والديهما أيضا، وهذه العجالة لا تغني مطلقا عن قراءة الكتاب فور صدوره.
18-2-2022