مرجعيات النص وتحولات المعنى.. قراءة في نص (خذي رئتي) لعبد الرزاق الربيعي

 

بلاسم الضاحي | ناقد

مقدمة الشاعر :-
عزّة الحارثي..في الذكرى الخامسة لرحيلك لا أجد على طاولتي غير الكلمات، وقليلا من كثيرك، وذكريات لا حصر لها، والفراغ الكبير الذي تركتِه في البيت المملوء بروحك المكتظّة بالحبّ، والطيبة، والجمال
أهديك نصّا كتبته لك أيّام مرضك، عندما نصحني الطبيب برفع رئتك اليمنى، وهو أحد نصوص ” قليلا من كثير عزّة”
تغمّدك الله بواسع رحمته

النص :-
“خُذي رئتي”
————-
خُذي رئتي
وطوفي بين أوردتي
ونامي في ثنايا الروحِ
واسترخي على شفتي
خُذي ضوئي
وما أبقت لي الأيامُ
من نزفٍ بمحبرتي

***
خُذي رئتي
خُذي بدئي وآخرتي
وسيري
أينما شئتِ
بروحي
طوّفيها الكونَ
من جهةٍ إلى جهتي
***
خذي لحني وقافيتي
ونامي فوق راحِ النور
دون شعور
حين تغضّ
عن لَممي ملائكتي
***
خُذي رئتي
وغيبي بي
كما كنتِ
فقد تعبت سفائنُ رحلتي
ولقيتُ
من سَفَر الهوى نصبا
فكان هواكِ لي مأوى
أزال الهمَّ والتعبا
وكانَ…وكاَن
حتى زُلزلت بدمي
فعدتُ مشرّدا
في غيهبِ العدمِ
وتاهت
في بحارِ الوجدِ بوصلتي
***
خُذي رئتي
خُذي صمتي وثرثرتي
وضمّيني
إليك
ضمّيك
إليّ
ضمّي
ما تبقّى
من بقايا جنّةٍ
كانت ..
وكنّا في مرابعِها
كعصفورينِ
محفوفينِ
بالضحكاتٍ والدعةِ
ولما أُخرجا منها
تداعى الوقتُ
وانطفأتْ
شموسُ البدء
وابتدأتْ
حرائقُ ليلِ آخرتي
***
خُذي رئتي
خُذي ما فاضَ من عُمري
وماخطّتْ يدُ القدرِ
مشيناها …
ومَنْ كُتبتْ عليهِ….
مشى
من دونما عنتِ
خطى مجروحة لا ليلَ
في أفقي
وجفّ الضوءُ
تاه بعتمةِ النفقِ
مشيناها…
ولكنّا….
سنكملُها
إذا شاءَ لنا الحبُّ
وإن شئتِ…
القراءة :-
( خذي رئتي ) نص للشاعر العراقي عبد الرزاق الربيعي اختصه من مجموعته الشعرية الموسومة ( قليلاً من كثير عزَّة ) وأعاد نشره على جدار صفحتة الفيسبوكية ضمنه مقدمة توضيحية أشار فيها الى ان مناسبة اعادة نشر هذه الرثائية مرور الذكرى الخامسة لرحيل زوجته ( عزَّة ) هذه الإعادة اخرجت هذا النص من زمنه في متن المجموعة الشعرية الى زمن آني جديد منفصل تماماً عن سياقاته في زمن إنتاجه وجردته عن تعالقه مع ما احتوته تلك المجموعة الشعرية من نصوص اخرى ، التوليف الذي اجترحه الشاعر في العنونة والموائمة ما بين اسم الزوجة التي اشارت له المقدمة واسم الشاعر القديم المشهور باسم ( كثير عزة ) الذي ترسخ في الذاكرة الشعرية العربية لما كان بينه وبين حبيبته التي فقدها من حكايات تحولت الى رمز يحمل دلالته .
( قليلاً من كثير عزّة ) هذه العنونة والتي سنقرأ هذا النص خارج هيمنتها تحيلنا الى قراءتين الاولى هل المقصود من ( قليلاً ) هو الكثير من حب (عزَّة ) الشاعر الربيعي التي كانت قد منحته له خلال مسيرة ما قبل الغياب ؟؟
ام ( قليلاً ) من حزن الشاعر القديم كثير الذي اراد منه الربيعي ان يتماهى مع فجيعته وحزنه لفقد زوجته ( عزَّة الحارثي ) ؟؟
هذه التورية البلاغية لا تعنينا الان سنغادها نحو ما يبوح به متن النص خارج هيمنة العنونة التي لا شك انها تظل بكامل وعيها تفرض سطوتها الملحة والتي فرضتها المقدمة التوضيحية والتي جاءت مهمة كاشارة من خلالها احالنا الربيعي الى وجوب ان نحسب النص على انه نصا رثائياً بغير هذه المقدمة لا يمكن ان نقرءه كما اراد له لانه نص مغاير تماما لما ألفناه من نصوص الرثاء التي وردتنا من الإرث الشعري وما تعاقب وبذلك أوقفت المقدمة سبل تأويل هذا النص خارج هذه المحدودية التي حسمتها المقدمة وهذا يحسب لصالح الشاعر الذي اراد لهذا النص ان لا يكون رثاءً في متن المجموعة الشعرية رثاء خارج ذلك المتن ..
( خذي رئتي ) نص شعري مقفى بستة مقاطع غير مرقمة جاءت بفواصل منقطة افقياً يربط ما بينها فعل الامر في علم النحو هو احد أقسام الفعل الثلاثة والأمر هو طلب الفعل على وجه التكليف والإلزام بشيئ لم يكن حاصلا قبل الطلب ومعنى الإلزام هنا هو ان المأمور ملزم بتنفيذ الامر ولتوفر شروط الإلزام فهو امر حقيقي وبذلك فان فعل الامر ( خذي ) الذي جاء مفتتحاً للنص وتكرر في مفتتح مقاطعه الستة انه فعل امر حقيقي صادر من اعلى منزلة ( المانح ) من المأمور ( الممنوح ) ولان هذا الفعل تكرر ( 10 )) مرات ليبلغ مع افعال امر اخرى الى ( 21 ) فعل امر مختلف في النص صار لتكرار فعل الامر ملمحاً بارزاً لتحريك دلالات النص الاخرى وتوجيه بوصلة المتلقي نحو المعنى ففعل الامر هنا طلب تحقيق ما لم يستطع تحقيقه المانح / الشاعر بنفسه لان الفاعل الحقيقي هنا ( الممنوح / المأمور / عزّة ) وليس الآمر / الشاعر ولاكتمال ما تنتجه بنية الجملة ( خذي رئتي ) لغوياً لابد من ان نشير الى ( ياء )التملك التي ألحقت بالرئة والتي تعود الى المانح والتي حددت ملكيتها له ومنحته صدق وشرعية ما يمنحه وفي عودة اخرى الى فعل الان ( خذي) الذي تكرر وانتشر عموديا على سطح النص وما شكله من نسق دلالي يقتضي الوقوف عنده لاكتشاف وتأشير الانساق الجمالية الاخرى في النص المكتنزة في نفس الشاعر المنفعلة الحقيقية والصادقة التي اشرها التكرار المتعمد لفعل الامر ( خذي ) عشر مرات وإذ ان الفعل مقرون بالزمن ولا زمن بلا فعل مثلما لا فعل بلا زمن صار الزمن ماض وحاضر ونستقبل الا زمن فعل الامر فهو زمن لحظوي آني سرعان ما يتحول الى ماض ومستقبل بعد النطق به مباشرة فهو فعل اللازمن وهذا ما دعى الشاعر الى اختيار واعادة نشر هذا النص في الذكرى الخامسة لانه فعل امر يمتد زمنه الى ما لا نهاية (خذ) هذا التوظيف أوجد تعالقاً بيناً بين مقاطع النص الخمسة والذي ساهم في تيقن المتلقي من حجم المعاناة والفجيعة فصار لنا ان نكوّن من اعادة صياغة هذه الأفعال جملا جديدة داعمة لمشاعر واحاسيس الشاعر كما في المقطع الاول :
خُذي رئتي
وطوفي بين أوردتي
ونامي في ثنايا الروحِ
واسترخي على شفتي
خُذي ضوئي
وما أبقت لي الأيامُ
من نزفٍ بمحبرتي
وكما أشرنا يمكن ان نصوغ من فعل الامر جملا ( خذي وطوفي ونامي واسترخي ، خذي صوئي )
وقبل ان ندخل الى متون مقاطع النص الاخرى لا بد ان نقف ونؤشر اهم مرجعيات هذا النص التي استعارها الشاعر ووظفها لدعم النص وهي مرجعيات روحية من الموروث الديني والمجتمعي أخذت حيزًا مهمًا من الذاكرة الجمعية صارت بموجب تقادمها الزمني في الذاكرة سهلة الاسترجاع عند مقتضى ذلك ..
المرجعية الاولى :
هي فجيعة ادم وفقده الجنة والمرجعية الثانية : فجيعة كربلاء الطف وفقد الحسين بن علي لأهله واصحابه ..
والمرجعية الثالثة :
فجيعة الشاعر كُثير بفقده حبيبته عزّة ..
فجيعة ادم وحواء ..
وحكاية وجودهم وخلودهم في الجنة وبعد خروجهم منها كتب عليهم الموت فصار حتميًا على كل بن ادم / موت بمعنى آدم / موت وهنا وضع الشاعر المتلقي ازاء زمنين متشابهين زمن آدم وزمن الشاعر زمن قبلي هو زمن الجنة والبقاء وزمن بعدي هو زمن الحياة / والفناء /الموت ليشبه لنا الشاعر زمنه بهذين الزمنين زمن ما قبل المرض وزمن ما بعده وكأنه آدم بزمنيه زمن الجنة وزمن خروجه منها لتنتهي بحتمية الفناء / الموت
ادم / آلة الموت ، خروجه من الجنة الخطاب / رثاء
المحصلة / فقد
الشاعر / آلة الموت ، المرض
الخطاب / رثاء
المحصلة / فقد
لنخرج بمحصلة آدم = الشاعر بالفجيعة والفقد ..
كما جاء في المقطع الخامس :
ضمّي
ما تبقّى
من بقايا جنّةٍ
كانت ..
وكنّا في مرابعِها
كعصفورينِ
محفوفينِ
بالضحكاتٍ والدعةِ
ولما أُخرجا منها
تداعى الوقتُ
وانطفأتْ
شموسُ البدء
وابتدأتْ
حرائقُ ليلِ آخرتي .
المرجعية الثانية :
فجيعة الحسين بن علي بن ابي طالب في طف كربلاء صنع الربيعي لنفسه ثنائية تماهى بها مع ثنائية
الحسين / آلة الموت ، عدو قوي
الخطاب / رثاء
المحصلة / فقد
الشاعر / آلة الموت ، المرض
الخطاب / رثاء
المحصلة / فقد
لنخرج بمحصلة ارادها الشاعر مرة اخرى لنخرج بمحصلة مفادها الحسين = الشاعر في الفجيعة والفقد كما جاء في المقطع السادس الذي ختم به القصيدة / الفجيعة والفقد ..
( خُذي رئتي
خُذي ما فاضَ من عُمري
وماخطّتْ يدُ القدرِ
مشيناها …
ومَنْ كُتبتْ عليهِ….
مشى
من دونما عنتِ
خطى مجروحة لا ليلَ
في أفقي )
لنذهب للمرجعية الثالثة التي تشكل بموجبها النص وهي مرجعية اشاريةً نستخلصها من ( ميتا – شعر) النص التي احالتنا اليه من خلال تماهي العنونة واتداخلها المنتج مع اسم زوجة الشاعر الربيعي المحتفى بها نصياً ( عزّة الشاعر) و ( عزّة كُثير ) التي انتجت عنونة المجموعة الشعرية ( قليلاً من كثير عزّة ) والتي دلتنا عليه مقدمة الربيعي التي ساقها لنا كمدخل لقراءة هذا النص خارج متن مجموعته الشعرية التي ضمت هذه القصيدة لنقول :
كُثير / آلة الموت . فقد
الخطاب / رثاء
المحصلة / فقد
الشاعر / آلة الموت . مرض
الخطاب / رثاء
المحصلة / فقد
الشاعر = كُثير بالفجيعة وفقد من احبه لينتج قصيدة رثاء واستذكار .
نص يزدحم بالتشبيهات رغم اصمار أدواتها يحيل التشبيه الى انتاج المعنى من خارج معيارية اللغة في السطر الشعري ويحيل الى تمثل الميثولوجيا التي أزاحت المعنى المعياري وأحالته الى تمثل الحكاية المتوارثة على اعتبارها موروث راكز في العقل الجمعي استعان بها المتلقي للوصول الى المعنى والدهشة في التوظيف المنتج للنص ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى