أدب

اليوم السابع تناقش رواية “ثرثرة في مقهى إيفانستون” لـ”هناء عبيد”

القدس| ديمة جمعة السمان
ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية الأسبوعية الدّوريّة رواية ” ثرثرة في مقهى إيفانستون” للمهندسة الكاتبة الفلسطينية المغتربة في مدينة شيكاغو الأميركية.. صدرت الرواية التي تقع في 236 صفحة من القطع المتوسط، عن دار فضاءات للتوزيع والنشر في العاصمة الأردنية عمان.


افتتحت الأمسية مديرة النّدوة ديمة جمعة السمان، فقالت: طلّت علينا الكاتبة هناء عبيد، الكاتبة الفلسطينية المغتربة في مدينة شيكاغو الاميركية، برواية بعنوان ” ثرثرة في مقهى إيفانستون”، تجري معظم أحداثها في الولايات المتحدة، تتناول موضوعا نفسيا عميقا، يتجنب الروائيون بالعادة التطرق إليه، لأنه يحتاج إلى خبير في علم النفس، أو الاستعانة بكتب متخصصة في علم النفس.
وما أعرفه عن الكاتبة أنها درست الهندسة المدنية، ولكن أعلم أيضا أنّها إنسانة حسّاسة جدا، وتتمتع بمشاعر مرهفة، ولا أستبعد أنها تطالع الكتب المختصة بعلم النفس.
الرواية التي صدرت عن دار الفضاءات في العاصمة الاردنية عمان للعام 2023، وتقع في 236 من القطع المتوسط، تتناول أعراض مرض الشيزوفرانيا ( الفصام)، من خلال شخصية الشابة سارة، التي تصرّ على أن تدعى بِاسم (سيرين)، وتتخيّل أن لها صديقة تشبهها في شكلها، وظروف حياتها المأساوية اسمها (سارة)، فتذهب إلى مقهى إيفانستون لتلتقي قرينتها، وتطلب فنجانين من القهوة، فنجان محلّى بالسّكر والآخر مرّ دون تحلية.
يرى كل من يلتقي بها في المفهى أنها شخصية غريبة الأطوار. تجلس في المقهى وحدها تتحدث مع نفسها.. وأمامها فنجانين من القهوة!
هي مقتنعة أن قرينتها تزوجت من رمزي، الزوج السيء الذي يقصد إهانتها وينكل بها باستمرار. يعاملها على أنها خادمة له ولابنه، لذلك تقرر الزوجة المقهورة أن تتخلص من زوجها من خلال ضرب رأسه بحجر، فيخرّ قتيلا.
تتواصل سارة مع سيرين قرينتها عبرالايميل، تعلمها بتفاصيل قتل زوجها وهروبها من البيت. يزيد ذلك من توتر سيرين، وتشعر أنها شاركت في الجرم لأنها تكتمت عن عملية القتل ولم تبلغ الشرطة.
تفوم سيرين بإعلام صديقتها فاطمة التي التقت معها في شيكاغو حول جريمة القتل، كما تشارك الحدث – عبر الايميل- مع حبيبها ليث الذي يدرس في النرويج. وقد حاول الاثنان مساعدتها لإيجاد قرينتها (سارة) التي هربت كي لا تتعرض للسجن، كما أعلمتهما سيرين.
هذه الاحداث التي غرق القارىء بتفاصيلها، طيلة 230 صفحة، يكتشف في نهاية الرواية أنها من نسج خيال الشخصية التي رسمتها الكاتبة، وأن كل التوتر الذي عاشته (سيرين) بخصوص مقتل زوج قرينتها سارة ليس أكثر من (وهم)، لأن سيرين هي سارة نفسها، ذات الشخصية، وهي مريضة نفسيا وتعاني من مرض الفصام.
ماذا أرادت أن تقول الكاتبة من خلال روايتها؟ ربما إن أجبنا على السؤالين التاليين نستطيع ان نستدل على الهدف من وراء كتابة الرواية، ورسالتها الانسانية للقارىء.
السؤال الأول: متى ظهرت قرينتها (سارة) في حياتها؟
السؤال الثاني: لماذا رمى بها خيالها إلى قتل الزوج السّيء بالحجر تحديدا، وليس بالسّكين مثلا، أو بأي أداة حادة أخرى؟ سؤال يستحق التأمل مليا.
ذكرت الكاتبة على لسان سيرين في ص. 226: (بعد معرفتي بحادثة شهادة والدي في القدس، قابلت سارة في المدرسة، كأن القدر أرسلها لي لأفرغ ألمي. أصبحنا رفيقتَي حزن وظلم وقهروظروف متشابهة).
ويذكر أن سيرين هي فلسطينية الأصل من القدس، هاجرت عائلتها إلى العاصمة الاردنية عمان، وذلك بفعل ممارسات الاحتلال وانتهاكاته المستمرة الممنهجة بحق الفلسطينيين).
وقد ذكرت بطلة الرواية أيضا بعد أن أخفت عنها والدتها سبب موت والدها: ( خالي أخبرني بحقيقة ما حدث، قال لي إن والدي حينما زارالقدس ، اشترك في إحدى المظاهرات ضد الاحتلال، تمّ إطلاق النار عليه، واعتقاله، وتفتيت عظامه، لم يستطع أن يفلت من براثن الموت، نزف كثيرا، إلى أن فارق الحياة، ثمّ دفن في القدس).
ثم قالت: ( أموت قهرا وغيظا حينما أسمع بشهادة بريء فقد حياته بسبب دفاعه عن أرضه واسترداد حقوقه. كم تمنيت أن أحمل حجرا لأدق به عظام هؤلاء الوحوش الذين لا يتلقون عقابا على جرمهم، ويحصلون على تأييد العالم لظلمهم وجبروتهم).
(سيرين) لم تستطع أن تنتقم لأبيها في الواقع، ففعلت ذلك بخيالها، بعد أن تخيّلت شخصية (رمزي) الشخصية السيئة الظالمة، فقتلته بخيالها بذات الطريقة التي أفقدت والدها حياته. وقد تمّ ذلك على يد قرينتها (سارة) ، التي كانت تعيش الظلم مع زوجها. فدقّت عظام رأسه بحجر ، إلى أن فقد حياته.
ماذا أرادت أن تقول الكاتبة؟أرادت أن تقول أن انتهاكات الاحتلال لا تتسبب بموت الشعب الفلسطيني، أو التسبب له بإعاقات جسدية فحسب، ولكن تتسبب له أيضا بإعاقات نفسية من الصعب حصرها.
فقد كانت بطلة الرواية (سارة) ضحية صدمة استشهاد والدها، فأصيبت بمرض الفصام، إذ أصرت بعد استشهاد والدها بأنها “سيرين”، وأن سارة هي قرينتها وشريكتها في المآسي والأحزان.
وبالعودة إلى بعض المراجع الخاصة بمرض الفصام وأسبابه، علمت أن المرض قد يصيب الانسان الذي يتعرض للضغوط العاطفية الكبيرة، أو الصدمات النفسية، إذ يسهم ذلك في تحفيز ظهور الأعراض لدى الاشخاص المعرضين وراثيا للمرض.
موضوع معقّد، من الصعب الخوض به، لأنه يحتاج إلى مختص بعلم النفس لتحليله.
أمّا نهاية الرواية، فقد كانت سريعة ولا أعتقد أنها كانت مقنعة. فهل من الممكن أن يقتنع مريض الفصام بأنه مريض بهذه السرعة؟ لم يظهر في الرواية أي مقاومة من قبل المريضة؟ ولم تظهر الكاتبة الأساليب التي تم اتباعها من قبل فاطمة وليث لاقناع المريضة بضرورة الذهاب إلى الطبيب للعلاج.
أما بخصوص الجولات السياحية في فلسطين والأردن، فقد كانت موفقة.
كما أن التركيز على التراث الفلسطيني وأهميته، واهتمام المغتربين الفلسطينيين بيوم التراث، كان جميلا وموفقا أيضا.
لون جديد من الكتابة، يستحقّ الوقوف عنده مليّا.
وقال محمود شقير:
هي ليست ثرثرة، والعنوان لا ينطبق على مضمون الرواية، ولا يشير إلا إلى تحديد المكان الذي يشهد بعض أحداث هذه الرواية التي نجحت في تصوير معاناة الناس المخلوعين من جذورهم، المبعدين لسبب أو لآخر من أوطانهم، حيث الغربة والحنين والكآبة وغيرها من الأمراض النفسية، وحيث الحرص على التواصل مع أبناء البلاد المقيمين في بلدان الشتات، والإصرار على إحياء المناسبات الدالّة على الوطن، المعنيّة بإبقاء الوطن حيًّا في نفوس الناس.
تكتب هناء عبيد الفلسطينية المقيمة في شيكاغو روايتها هذه بلغة سلسة جميلة، مستلهمة تجربتها الشخصية في الغربة وتجارب أناس آخرين عايشتهم أو سمعت عنهم، وتمعن في وصف الأمكنة بأسلوب جذاب مع بعض الإطالة في بعض الأحيان، وتستعين بتقنيات متعددة لتوصيل الغاية المرجوة من روايتها، فتبدو في بعض الأحيان وهي تصف معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي كما لو أنها ترصد ما يحدث الآن في قطاع غزّة من قتل للنساء وللأطفال، ومن تدمير للبيوت ولكل مناحي الحياة هناك.
2
وفي حين لجأ بعض الروائيين إلى تقنية العثور على رزمة من ورق، فيها رواية مطمورة في مكان ما، لوضع القارئ أمام رواية في داخل رواية، فإن هناء عبيد تضعنا أمام شخصية المرأة التي يعذّبها زوجها، واسمها سارة صديقة بطلة الرواية سيرين.
سارة هذه اقترحت على سيرين وهما جالستان في مقهى إيفانستون أن تكتب سيرتها، ثم داومت على إرسال مشاهد من هذه السيرة عبر الفيسبوك، ومن ضمنها مشهد تقتل فيه زوجها رمزي الذي يعذبها ويجعلها مجرد خادمة له ولابنه من زواج سابق.
هنا في رواية هناء عبيد لا نرى إلا بعض مشاهد خاصّة بسارة، صديقة سيرين، ثم تصاب سيرين بأزمة نفسية من جراء قتل سارة لزوجها، وتكَتُّم سيرين على الجريمة، وبعد ذلك، تتشعّب أحداث الرواية، وتدخل في تفاصيل السرد امرأة فلسطينية مقيمة في أمريكا هي فاطمة، التي أطلعتها سيرين على الرواية قبل أن تكتمل، ويدخل أيضًا صديق سيرين منذ الطفولة، وهو العراقي ليث الذي عاش طفولته وصباه في الأردن، بعيدًا من وطنه مثلما عاشت سيرين طفولتها وصباها في الأردن بعيدًا من وطنها فلسطين، حين اضطر أهلها إلى مغادرة البلاد من جراء هزيمة 1967.
3
عند هذا الحد يأخذنا السرد إلى منعطف جديد متمحور حول خوف سيرين من انكشاف تكتّمها على جريمة صديقتها سارة التي اختفت، ما جعلها حذرة في تعاملها مع فاطمة، وما جعل المرأة الأمريكية العجوز نانسي تلاحظ في بعض الأحيان عدم اتزان سيرين التي تعمل في خدمتها.
في تلك الأثناء يظهر ليث بشكل فاتر عبر المراسلات على الفيسبوك، حدّ اعتقاده أن صديقة الطفولة سيرين قد تزوجت، ما يؤدي إلى تصعيد الالتباس في العلاقة بينه وبين سيرين، ثم تكتشف هذه الأخيرة أن شخصًا آخر كان يراسلها منتحلًا شخصية صديقها ليث، والسؤال هنا: هل إلى هذا الحد تلتبس الأمور على سيرين وليث؟ وما دام الفيسبوك قد لعب دورًا بارزًا في الرواية، ويمكن احتسابه واحدًا من أهم التقنيات التي استخدمتها هناء عبيد، فهل مثل هذا الالتباس ممكن من دون اكتشاف الحقيقة إلا بعد وقت طويل؟! هل هو اللعب بأعصاب المتلقي قبل كشف الحقيقة؟ أم هي الرغبة في تطويل السرد من دون مبرر معقول؟
4
فيما يتعلق بتقنيات الكتابة الأخرى؛ فقد استعانت الكاتبة بتعدّد الأصوات الساردة، حيث تناوب على السرد أغلب شخوص الرواية، لنكتشف في النهاية أن سيرين واسمها الحقيقي سارة إنما كانت تراسل ذاتها، وتعبر عن أزمة نفسية أصابتها، ربما من تأثير الغربة ومن تأثير البعد عن الوطن، ويصبح واضحًا عدم وجود امرأة أخرى اسمها سارة، وبذلك تكون هناء عبيد قد لعبت لعبتها الفنية وأتقنت التمويه على القارئ إلى حد غير قليل، ويظل الأمر متعلقًا بمدى قناعة القارئ بمخاوف سيرين من انكشاف تكتّمها على جريمة قتل سارة لزوجها، إذ يمكن طرح الأسئلة التالية: هل يمكن في هذا الزمن الحديث أن تُرتكب جريمة قتل ولا يشار إليها في الصحافة وفي مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث لا يظل الأمر طي الكتمان؟ وهل يمكن لامرأة أن تقتل زوجها ثم تختفي وتواصل مراسلة صديقتها عبر الفيسبوك من دون أن يتمكن أحد من العثور عليها وتحديد مكان إقامتها؟
ومن دون أن نتوقّف طويلًا عند هذه الأسئلة، ومع قليل من التغاضي، ومن التواطؤ مع الكاتبة والاقتناع بما ترتئيه، فقد نجحت هناء عبيد في كتابة رواية جيدة.
وكتبت روز اليوسف شعبان: اختارت الكاتبة أحداث روايتها، في مدينة إيفانستون الأمريكيّة. من الجدير ذكره، أنّ الكاتبة هناء من مدينة القدس، مغتربة في أمريكا.. تدور أحداث الروايّة حول الشخصيّة المركزيّة سارة فوزي التّامر، الّتي سمّت نفسها أيضا سيرين. تعاني سيرين من اضطراب نفسيّ، فسيرين، تكتب عن شخصيّة سارة، توأم روحها وصديقة طفولتها، الّتي هاجرت معها إلى أمريكا، تكتب سارة رسائل عبر الميل لسيرين، تحدّثها عن حياتها القاسية مع زوجها رمزي، الذي يهينها ويذلها ويضربها، فتتخلّص منه بقتله، وبذلك تكشف سارة لسيرين عن هذا السرّ الخطير وتطلب منها أن تكتب روايتها وقصّة حياتها منذ طفولتها وحتى تنفيذها لجريمة القتل. تقع سيرين في دوّامة؛ فكيف تكتب رواية أحداثها حقيقيّة وتبوح فيها بهذا السرّ الخطير؟ وإذا كتمت السرّ ألا تكون شريكة في الجريمة؟ تساعد فاطمة صديقة سيرين وهي فلسطينيّة من الخليل مغتربة في أمريكا، في اكتشاف الحقيقة، فلا وجود لشخصيّة سارة الوهميّة، ولا وجود لجريمة قتل، فسيرين هي سارة الّتي تعاني من مرض نفسانيّ( اضطراب نفسيّ)، أو ما يسمّى اضطراب الهويّة التّفارقيّ، والمعروف أيضا باسم اضطراب الشّخصيّة المتعدّدة، في هذا الاضطراب، يكون لدى الشّخص أكثر من هُويّة أو شخصيّة، كلّ منها يمكن أن تكون لها ذكرياتها وسلوكيّاتها المختلفة.

وقد ينبع هذا المرض نتيجة الظروف الصّعبة التي يمرّ بها الإنسان، هاجر أهل سارة من القدس بعد النكسة عام 1967 إلى الأردنّ، وقد ولدت سار في مخيّم اللّاجئين، وعاشت مع أهلها فيه. بعد مقتل والدها بأيدي الجنود الإسرائيليّين، حين كان في زيارة للقدس، انتقلت مع والدتها للعيش في بيت خالها في عمّان، ثمّ توفيت والدتها فعاشت مع خالها وزوجته وأبنائه الأربعة. في الأردنّ حين كانت طفلة تعرّفت سارة على الطفل ليث الذي هاجر مع عائلته من العراق بعد حرب العراق، التي شنّتها أمريكا عليها، بمساعدة بعض الدول العربيّة. نشأت بين الطفلين علاقة حبّ استمرّت حتّى الكبر، وتواعدا على الزّواج، لكنّ ليث اضطرّ للانتقال إلى النرويج ليتعلّم فيها هندسة الميكانيكيّات، وهاجرت سارة إلى أمريكا لتجد فرصة لها للعيش والعمل في مهنة التّمريض. عملت سارة ممرّضة، مرافقة للعجوز الأمريكيّة نانسي، وتعيش معها في الفيلّا. ترسل سارة الرّسائل إلى ليث عبر الميل، تعاتبه كيف تركها وتخلّى عنها، وليث لا يعقّب، بعد سنوات من المراسلات يردّ عليها باقتضاب، ويخبرها أنه لا يمكنه مراسلتها بعد أن أخبرته أنّها تزوّجت، سارة تنكر ذلك فهي لم تتزوّج وتنتظره. يلتقي ليث مع سارة، بعد أن يتواصل مع صديقتها فاطمة، في مقهى ايفانستون، يتعاون ليث وفاطمة في مساعدة سارة، ويذهبان إلى الشّقة الّتي ادّعت سيرين أنّ توأم روحها سارة سكنت فيها وقتلت زوجها رمزي، ليكتشفا أنّ من عاش في هذه الشّقة امرأة عزباء، اسمها سارة فوزي التّامر، وأنّه لم تحدث جريمة قتل في الشّقة. تنتهي الرّواية بدخول سارة إلى عيادة الطبيب النفسانيّ، في حين ينتظرها ليث وفاطمة ونانسي في غرفة الانتظار.

شخصيّات الرّواية:

تختار الكاتبة هناء عبيد شخصيّات مثاليّة لروايتها. ففاطمة الفلسطينيّة الجذور من الخليل، تدير ندوة أدبيّة عبر الزّوم، في فترة الكورونا، يلتقي فيها الأدباء من مختلف الدّول لنقاش رواية كلّ أسبوع، كما أنّها تهتمّ بالتراث الفلسطينيّ، وتقيم فعاليات ومعارض من أجل الحفاظ على هويّة الشعب الفلسطينيّ، وسرد روايته أمام الغرب. إلى جانب ذلك، فهي تتقرّب من سارة(سيرين) وتدعوها للاشتراك في النّدوة، وتهتم بها، وتساعدها في اكتشاف مرضها. تمثّل فاطمة المرأة الفلسطينيّة المكافحة الأصيلة، المتمسّكة بالوطن والجذور والتراث.

شخصيّة خالد: خالد هو فلسطينيّ من غزّة، سافر إلى النرويج بعد حصوله على منحة ؛ ليتعلّم الطّب، ويساعد أهل غزّة الّذين يتعرّضون للقصف من قبل الجيش الإسرائيليّ، أصابت إحدى القذائف بيت خالد فانهار البيت وقتلت أخته مريم ثمّ قُتل والده في إحدى الغارات، فعوّضت والدته دور الأب الماديّ، فكانت تحضّر المعجّنات وتبيعها. يتساءل خالد:” لماذا قتلوا أحلامنا؟ لماذا يستكثرون علينا السّعادة؟ لماذا لا نستطيع العيش بسلام؟”. ص 91. التقى خالد مع ليث في النّرويج، وقدّم له مساعدة، وأسكنه في شقّته لمدّة أربعة شهور مجّانا، وبعدها تقاسما الأجرة. تبرز الكاتبة، إنسانيّة خالد، فالفلسطينيّ إنسان محبّ للحياة، متعاون، خلوق، محبّ للعلم، مثقّف، طموح، بعكس ما يصوّره الإعلام الإسرائيليّ والغربيّ.

شخصيّة سارة:

ذكرنا أنّ سارة كانت شخصيّة مضطربة، مع ذلك فهي تحبّ وطنها فلسطين وتحلم بالعودة، وقد يكون سبب حالة سارة النفسيّة، إضافة إلى ظروف حياتها القاسية، شعورها بالاغتراب. إنّ الإنسان، كما يراه وطفة (1998)، هو كينونة جوهرها العقل والحريّة والعمل والانتماء، وكلّ ما من شأنه أن يمسّ هذه الأبعاد الأساسيّة لجوهر الشخصيّة بضرر ما فهو يدفع الشخصيّة إلى حالة اغتراب واستلاب. الاغتراب في حدود ما ينظر إليه وطفة هو الوضعيّة التي ينال فيها القهر والتسلُّط والعبوديّة من جوهر الإنسان، وهو الحالة التي تتعرّض فيها إرادة الإنسان أو عقله إلى الاغتصاب والقهر والاعتداء والتشويه. وبالتالي فإنّ أدوات الاغتراب هي أدوات القهر نفسها، وهي كلّ ما من شأنه أن يعاند نموّ الشخصيّة الإنسانيّة وازدهارها وتطوُّرها. في هذا السياق يمكن القول إنّ مظاهر الاغتراب تتبدّى في أشكال أحاسيس مُفرطة بالدونيّة، واللامبالاة، والقهر، والضعف، والقصور، والسلبيّة والانهزاميّة(وطفة، 1998، المظاهر الاغترابيّة في الشخصيّة العربيّة، بحث في إشكالية القمع التربويّ”، مجلّة عالم الفكر، الكويت: د. ن.، أكتوبر، مج. 27، ع. 2.ص. 241-281.).

ولعلّ الاقتباسات التالية تثبت مدى الضّعف والقصور والسلبيّة والانهزاميّة التي تعاني منها سارة:” الخوف أصبح يلازمني، وكأنّني أنا الّتي قتلت رمزي، أمشي على الرمال، غاصت أفكاري بين ذرّاتها، أحصيها وكأنّني أحصي أيّامي المتبقيّة من التّوتّر والقلق، يبدو أنّها لا تنتهي، دوّامة دائرة تجرف معها كلّ حلم، أستغرب الفضاء الشّاسع الّذي أعيش فيه، ومدى ضيق الدّائرة الّتي تخنقني ضمن محيطها، كيف تضيق الحياة في هذا الأفق الواسع؟”. ص 132.

وفي اقتباس آخر على لسان سارة، تبدو في حالة من الانهزاميّة والضعف:” أنا الرّيشة الّتي يحرّكها كلّ عابر، لا قرار لي، وكيف سيكون لي قرار وأرضي مائجة، قدماي تتعثّران بشوك الغربة، غربة الأرض والروح”. ص 149. وفي اقتباس آخر تتساءل سارة عن سبب عدم شعورها بالسعادة رغم أنّها تعيش في فيلا مع نانسي ولا ينقصها شيء:” ما الذي ينقصني لأكون بسعادة نانسي، هل لأني غريبة في أرض ليس لي فيها جذور؟ أم أنّ الندبات الّتي تلحق بنا في طفولتنا لا يمكن لأمها؟” ص 59.

ويبدو أنّ سارة لم تتخلّص من تأثير وفاة والدها قتلا. تقول: “عادت لي الكوابيس ثانية، سارة، ليث، فاطمة، أمّا الأكثر ربّما فقد كان حديث خالي عن والدي. هل كان مخطئا حين سرد لي سبب موته؟ شاهدت نشرة الأخبار مع خالي، لم أستطع أن أنسى المشهد المؤلم لمجموعة الشّبان وعظامهم تتلقّى ضربات أعقاب بندقيّات جيش الاحتلال، صوت صراخهم يبعث إلى الموت. أيّ ظلم هذا؟ هل هناك من يسمع صرخاتهم؟ هل هناك من سينقذهم؟ هل هناك من سينتقم لهم ويعاقب من عذّبهم؟ لم أكن أدرك في تلك الأثناء ان العدل مسحوق في هذا العالم الذي سيطر عليه القويّ”. ص 224-225.

شخصيّة نانسي:

تبدو شخصيّة نانسي مثاليّة في هذه الرواية. فهي تسكن في حيٍّ راقٍ في إيفانستون، تطلّ على بحيرة مينشغان، وهي إنسانة اجتماعيّة، تشترك في مجموعة من المنّظمات التي تعتني بحقوق الإنسان. تقول نانسي:” ما دمنا نتنفّس فلا بدّ أن يكون لنا دورنا في إصلاح الكون”. ص 36. تشترك نانسي في الكثير من النشاطات التّطوعيّة، ترأس جمعيّة تعتني بذوي الاحتياجات الخاصّة من الأطفال.

تنتقد نانسي النظام الرأسماليّ المتمثّل في شخصيّة ترامب( رئيس أمريكا السّابق)، رغم كونها تنتمي إلى هذه الطبقة، فهي ثريّة جدّا. فترامب لم يفرض لبس الكمامات في فترة الكورونا، خوفا على اقتصاد البلاد وعلى مركزه، يخشى أن يتدهور الاقتصاد في عهده فيكون مؤشّرا سلبيّا لفترة حكمه، وهو يريد أن يرشّح نفسه مرّة أخرى. كما تنتقد نانسي الديموقراطيّة الأمريكيّة الشّكليّة، وتأتي بمثال عن فرقة الروك ( الخنافس) الّتي اشتهرت في السّتّينات في بريطانيا، وبدأت تؤثر على أفكار الشّباب، وتدخّلت في انتخابات الرئاسة الأمريكيّة في فترة رونالد ريغان؛ فمنعت السلطات لها حفلا كان سيقام في أمريكا. ص 43.

تحبّ نانسي الشعب الفلسطينيّ وتؤمن بعدالة قضيّته، تزور فلسطين، وتشترك في أمريكا في نشاطات تقوم بها الجالية الفلسطينيّة، تقتني من معارض الأعمال اليدويّة الفلسطينيّة من أجل دعم الشعب الفلسطينيّ.

إضافة إلى كلّ ذلك، فإنّ نانسي إنسانة سعيدة رغم كبر سنّها وعجزها، وجلوسها في مقعد متحرّك، فهي دائمة التفاؤل؛ وقد يعود ذلك إلى تطوّعها وعطائها اللّا محدود.: “رغم تقدّمها في العمرـ إلّا أنّي أجدها أكثر شبابا منّي، هي التي ترسم الابتسامة على وجهي وتمدّني بالتفاؤل”. ص 22. وتقول سارة عن نانسي أيضا:” كيف يمكن لإنسان في أواخر عمره أن يملك هذا الأمل، وهذه الروح المفعمة بالحياة؟” .ص 59.

محاور هامّة في الرّواية:

* انعدام العدالة في العالم وضياع الحقّ
* التعذيب الّذي يتعرّض له الفلسطينيّون من قبل جنود الجيش الإسرائيليّ.
* زيف الأنظمة الديموقراطيّة وسيطرة الفكر الرأسمالي والامبرياليّة على الشعوب الضعيفة.
* ظروف الحياة القاسية والظلم الذي يعاني منه المغتربون والمهجّرون عن أوطانهم، وشعورهم بالاغتراب الّذي قد يصل إلى الاغتراب الذّاتي والنفسانيّ، ممّا قد يسبّب أمراضا نفسيّة لدى المغتربين.
* أهميّة حفظ التراث وإحيائه خاصّة في صفوف المغتربين.
* الهموم العربيّة متشابهة، فقد يفقد العربيّ كرامته وحريّته في وطنه نتيجة لاحتلال الوطن بأيدي الغرباء، وقد يكون نتيجة تخاذل وتعاون العرب ضد بعض الدول العربيّة كما حدث في العراق.
* أهميّة العطاء والتطوّع وإنشاء الجمعيّات الداعمة للفئات الضعيفة في المجتمع. هذا العطاء بدون مقابل هو الّذي يجلب السعادة للإنسان.
* هاجس الوطن والحنين والعودة سيبقى ملازما لكلّ فلسطينيّ بالشتات وفي بلاد الغربة. تقول سارة:” ما زلت أحلم بالعودة حتّى لو كانت عصا الجلّاد من حديد صلب”. ص 131.
* للمرأة الفلسطينيّة دور كبير في بناء الأسرة، فقد عاشت الويلات، الفقد علّمها الصّلابة والشّجاعة والصّبر.
* استنكار جرائم القتل تقول الراوية:” أتّفق معها أنّه لا توجد عدالة، لكن القتل لن يكون حلّا في يوم ما. القتل قد يبرّر حينما يكون دفاعا عن النّفس أو الأرض المسلوبة”. ص 137. في هذا الطّرح إشكاليّة كبيرة، فقد يدّعي كلّ قاتل أنّه دافع عن نفسه، أما بخصوص الأرض، فقد يدّعي كلّ طرف أنّ الأرض له وسلبت منه، لذا سيستعيدها بالقتل، وهذا يدخل الطرفين المتنازعين في قتل دائم.
* الشّعور بالاغتراب داخل الوطن. يقول ليث:” عدت إلى أرض أبي وأمّي، لم أجد أهلي، كلٌّ مشغول في حاله، شعرت بغربتي داخل أسوار الوطن، لكنّي قررت البقاء فيه”. ص 21.
* أهميّة وجود ندوات أدبيّة، وإتاحة الفرصة للكُتّاب، لتداول رواياتهم وكتبهم للنّقد البنّاء، وإن كانت الكاتبة تشير إلى عدم وجود مثل هذا النّقد، فالغالبية تمتنع عن إبداء الرأي، الذي قد لا يرضي الكاتب.
يمكن القول إنّ رواية هناء عبيد ثرثرة في مقهى إيفانستون، رواية اجتماعيّة رمزيّة شائقة، تطرح فيها الكاتبة الاضطرابات في شخصيّة الإنسان، التي قد تحدث نتيجة للظلم، الفقر، الاغتراب، واستلاب الحقّ. ومن خلال هذا الطرح، تتعرّض الكاتبة لقضايا إنسانيّة، وجوديّة، سياسيّة، كما تبرز أهميّة العطاء دون مقابل، فالعطاء هو الذي يشعر الإنسان بإنسانيّته، وبالتّالي يشعره بالاكتفاء والسّعادة.

أمّا السّرد فجاء بأسلوب الرؤية مع”، أو “الرؤية المصاحِبة”: وهي رؤية سرديّة كثيرة الاستخدام، إذ يُعرض العالم التخييليّ من منظور ذاتيّ وداخليّ لشخصيّة روائيّة بِعينها، من دون أن يكون له وجود موضوعيّ ومحايد خارج وعيها. إنّ السارد في هذه الرؤية، على الرغم من كونه قد يعرف أكثر ممّا تعرفه الشخصيّات، إلّا أنّه لا يقدّم لنا أيّ تفسير للأحداث قبل أن تصل الشخصيّات ذاتها إليه. تُحكى الروايات التي من هذا النوع بضمير المتكلم، وبذلك تتطابق شخصيّة السّارد مع الشخصيّة الروائيّة.( بوطيّب، 1993، مفهوم الرؤية السرديّة في الخطاب الروائيّ”، مجلّة عالم الفكر، الكويت: وزارة الإعلام، مج. 21، ع. 4، أبريل-مايو-يونيو، ص. 72-73.) ويستخدم السرد في هذه الرؤية ضميرَي المتكلّم أو الغائب، مع المحافظة على تساوي المعرفة بين السارد والشخصيّة(شبيب، 2013، البنية السرديّة والخطاب السرديّ في الرواية”، مجلّة دراسات في اللغة العربيّة وآدابها، ع. 14. ص. 117.).
أمّا لغة الرّواية فجاءت سهلة انسيابيّة، تخلّلتها محسّنات بلاغية، وجمل وصفيّة، كثرت فيها الحوارات الخارجيّة والحوارات الدّاخليّة، التي من خلالها تعرّفنا عل شخصيّة سارة واضطراباتها النفسيّة، فنجد في حواراتها الدّاخلية الكثير من التعابير الّتي تدّل على الخوف، القلق، التّوتر، اليأس، والاغتراب.
ثرثرة في مقهى إيفانستون، تصوير لنفسيّة الإنسان المضطربة، في عالم يكتنفه الغموض، وتنعدم فيه العدالة، رغم ذلك، تبقى الإنسانيّة، هي الطريق الذي يقودنا إلى السّعادة والفرح.
وقالت عبدالله دعيس: لا ينفصل الفلسطينيّ عن هموم وطنه مهما عاش في الشّتات، وتفرّقت به السّبل في أصقاع الدّنيا. فإن كان ابتعد بجسده عن أرضه فهو يعيش فيها بوجدانه وتعيش هي في قلبه. لقد استطاع الفسطينيّون الذين ثبتوا في ديارهم وكذلك الذين أخرجوا من ديارهم أو نزحوا منها، أن يثبتوا أنّ هذا الشّعب حيّ لا يموت، وأنّ هذه الأرض لهم وطن ولن تكون وطنا لغيرهم، وإن ذهب الكبار فإنّ الصّغار لن ينسوا وسوف يعودون مهما طال الزّمن. لذلك نجد الأدباء الفلسطينيّن في المهجر، يكتبون عن هموم أبناء شعبهم وعن حبّهم لوطنهم، وكذلك فعلت الكاتبة هناء عبيد في روايتها ثرثرة في مقهى إيفانستون.
تتناول الكاتبة معاناة الفلسطينيّين من زاوية قلّ تناولها من الكتّاب، على أهمّيتها. فهي تتناول موضوع الصّدمة النّفسيّة التي تصيب الأطفال الفلسطينيّن الذين يعانون آلام الفقدان والحروب والتّهجير في طفولتهم، فترسم هذه المعاناة شرخا في أنفسهم، تؤثّر على سلوكهم مدى الحياة، وهم في أمسّ الحاجة للمتابعة النّفسيّة فيما يعرف بآثار ما بعد الصدمة. فنجد الأطفال في كلّ العالم الذين يتعرّضون للعنف أو يفقدون والديهم، تعني بهم المؤسسات الاجتماعيّة والخبراء النّفسيّون حتّى يخرجوهم من صدمتهم ولا يكون لها تأثيرا كبيرا على مسار حياتهم. بينما يرى الأطفال الفلسطينيّون في كلّ يوم ويلات الحروب والدّمار والتّهجير والإصابة وقتل إخوتهم وأصدقائهم وآباءهم وأمهاتهم، ولا يُلتفت كثيرا لوضعهم النّفسيّ، بل ربما يحتفي بهم الإعلام ويصوّرهم أنّهم أبطال لهم قوى خارقة كأبطال الحكايات وأفلام الكرتون، ويتناسون أنهم أطفال، أنفسهم وأجسادهم هشّة ويحتاجون إلى أقصى العناية النّفسيّة من أجل أن يخرجوا من محنتهم حتّى لا يعيشون بقيّة حياتهم يعانون من الأمراض النّفسيّة المزمنة.
وقد أحسنت الكاتبة بتناول هذا الموضوع الهام عن طريق الشّخصيّة الرئيسيّة – سارة – التّي هُجّرت من وطنها وتعرّضت للعنف في طفولتها وفقدت أمّها وأباها، ووجدت الرّعاية من خالها الذي ضمها لعائلته، لكنّها لم تجد الرّعاية النّفسيّة اللازمة، فأصيبت بإحدى الحالات النّفسيّة التي كادت تدمّر حياتها.
ترتبط سارة أو سيرين بطلة الرّواية، والتي هجّرت عائلتها من فلسطين إلى الأردن واستشهد والدها على أرض القدس، بعلاقة حميميّة مع ليث الذي هجّر وعائلته من العراق إلى الأردن، لتتّحد معاناة البطلين، وليستعين أحدهما بالآخر لتجاوز محنهم. والكاتبة بذلك تحاول أن تربط بين أبناء الأمّة العربيّة الواحدة، والذين جميعا يعانون من آثار العدوان الغربيّ الاستعماريّ عليهم، فهمومهم واحدة، وعدوهم واحد وإن اختلفت أسماؤه وصوره، وهذه لفتة جميلة تُحسب للرواية. وكذلك تربط الكاتبة ليث العراقيّ بخالد ابن غزّة، وتربط سيرين ابنة القدس بفاطمة ابنة الخليل. لكنّ الكاتبة ذكرت فلسطين والأردن وأماكن أخرى صراحة ورمزت إلى العراق ببلاد النخيل ولم تصرّح باسمها أبدا خلال الرّواية، ولم أجد تفسيرا لذلك.
تحاول الكاتبة خلال روايتها أن تبرز كثيرا من المعالم التراثيّة للشعب الفلسطينيّ مثل الطعام والملبس والعادات المختلفة، وتتخذ من هذا أسلوبا لتعزيز صمود الفلسطينيّين ومحاربة سرقة العدو إرث هذا الشعب العظيم ونسبته إلى نفسه؛ ليخلق نوعا من الروابط بينه وبين هذه الأرض التي لم ولن ينتمي إليها.
تستخدم الكاتبة أسلوب الرّاوي الذّاتي الذي يحكي عن نفسه وعن مشاعره وعلاقاته بالآخرين عن طريق رسائل الإيميل المتعدّدة التي تصل إلى الشّخصيّات المختلفة. لكنّ الراوي كان يختلف في كلّ فصل من فصول الرّواية، وكان هذا مربكا للقارئ في بعض الأحيان.
قد تكون الثرثرة إحدى وسائل للعلاج النّفسي، فيخرج الشّخص ما بداخله ويبوح به كيّ يخفّف من ثقله على قلبه ونفسه، وما أحوجنا إلى الحوار الهادئ، ولو كان ثرثرة، كي نفهم بعضنا البعض ويعذر بعضنا البعض ونخفّف من الكآبة التي نعانيها بسبب كلّ ما حلّ بأمّتنا من ويلات. والثرثرة تتطلب حرّية في التّعبير عن الرأي دون خوف أو وجل، وهذا مالا يتوفّر في جميع أوطاننا المنكوبة. فالعنوان ثرثرة في مقهى إيفانستون التي تقع في شيكاغو هو عنوان موفّق يدلّ على مراد الكاتبة من الرّواية، والرّواية في حدّ ذاتها إضافة جميلة مفيدة للمكتبة العربيّة وللأدب الفلسطينيّ.
وقالت خولة سالم:
رواية الكاتبة المقدسية هناء عبيد التي لا تخلو من – الثرثرة – وهو مصطلح يطلق على الكلام الكثير الناتج ربما عن الكبت فيكون بمثابة اسقاط ما في الروح من ضيق . الرواية ذات طابع حداثي تتجول بين فصولها العشر ترافق شخصياتها بشغف فهم قريبون جدا منك . لا تكاد تترك الرواية حتى تعود اليها بسرعة لتواصل
شغف التفاصيل التي تخصك ، تشعر كانك جزء من كل فصل فيها ، فنمط التواصل الاجتماعي والرسائل والية التفاعل بين شخصيات الرواية يبدو محببا وقريبا من القاريء الذي تحول بفعل التكنولوجيا وبرامج التواصل الى خبير في اساليب التواصل الالكتروني وبناء علاقات افتراضية سرعان ما تتحول الى واقعية حينما يتاح الوقت لذلك . اسلوب الكتابة وفنية العمل الروائي هنا مختلفة بعض الشيء عن نمط الروايات التقليدية ، فالاحداث في مجملها لا تعرف مكانا محددا رغم ثبات الزمان تقريبا بفارق بسيط ، تجوب الأحداث عدة مدن ودول غزة ، القدس ، الخليل ، شيكاغو النرويج …. وغيرها ، تكاد تزور كل مدينة تقريبا وانت تتابع حركة الشخصيات وتفاعلها مع بيئآتها المختلفة في كل مرة تتنقل فيها بين ثقافات مختلفة أيضا. فهنا وصف لغزة وحروبها وتفاصيل الدمار والخراب نتيجة الاحتلال وروعنته ، وهناك القدس بكل جمالها وقدسيتها تتربع على عرش السرد ، وكاني بالكاتبة تنحاز لعشقها لمدينتها كيف لا وهي المقدسية المهجرة ! ثم تعرج على الخليل حيث الجذور والعلاقات ووصفا جميلا يكاد يأخذك طواعية لقدسية توأم الروح وفندق الأمانة وشارع عين سارة واطلالته المميزة على الحرم الابراهيمي ومعاناته ، كل تلك المشاهد حاضرة في الرواية وفي شيكاغو – أمريكا حيث مقهى الثرثرة ولقاء الشخصيات المقتلعة من جذورها قسرا ، وحنينها المتواصل للوطن وأهله وتفقد كل ما يختص به من ذكريات وأشجان ولوعة وفراق . كيف لا والرواية في مجملها رسائل الكترونية بين ابطالها فهذه سارة ترسل روايتها الحقيقية كاملة لصديقتها فتنشرها وتتحمس الكاتبة لنشر تفاصيلها بلا ادنى تفكير في النهايات الغير متوقعة ، مما يؤدي الى تحمل الكاتبة وزر تفاصيل النهاية والتي تكون جريمة قتل حسب ما ورد من المرسلة فتشعر الكاتبة بمسوؤلية عن كل فصل فيها تقريبا وترى نفسها مدانة امام القانون ، تكتبها سيرين بطلة الرواية وشخصيتها الرئيسية ، والتي يتضح في النهاية انها ذاتها سارة تراسل ذاتها ، ويتضح فيما بعد انها مصابة بمرض يجعلها تخترع شخصية اخرى تحاورها وتكتبها كشخص اخر في ذات الوقت .
خيال الكاتبة ادخلنا دوامة شخصية شوزفرينية ارهقتنا قفزا نحو النهاية .
حوارات الشخصيات مدهشة تسبر روح الشخصيات ودقة ملامحها ، حتى تكاد ترسم تفاصيل وجوهها ، البطلة سيرين او سارة هي ذاتها الكاتبة لأحداث الرواية . ما يميز العمل هنا أن المؤلفة تتشارك مع شخصية من شخصيات الرواية في كتابة فصولها ، تارة الكاتبة وتارة بطلتها سيرين ، وهي تخطو خطواتها الاولى في التأليف والكتابة ، تتواصل سيرين وشخصية أخرى أيضا لها باع في الكتابة الأدبية ، فاطمة الاديبة ، المغتربة ، وايضا وبالرسائل الالكترونية تكمل فصولها، تسبر غور اللقاءات الادبية الوجاهية والالكترونية ،وكأن الروائية هنا تنقلنا الى نوع جديد من التواصل بين الكتاب والادباء في عصر الانترنت والكتابة التفاعلية بشكل يوثق ويؤسس لادب يبدو مختلفا عن النمط التقليدي في الكتابة والتواصل لا سيما وان شخصيات الرواية تتفاعل بطريقة حداثية ، تجعل الروائية متميزة في هذا النوع من الكتابة . رواية جديرة بالاقتناء ، حبذا لو تتم مناقشتها والوقوف على جمالية الابداع فيها.
مبارك للكاتبة إصدارها وفي انتظار المزيد المتميز دوما .
وقالت نزهة أبو غوش:
أرى أنّ العنوان كان موفّقا من حيث الجاذبيّة، إِذ يوحي بأنّ الرّواية قد تتناول حوارات ومحادثات ونقاشات، وأسرار، ودراما… بين شخصيّات مختلفة في بيئة المقهى؛ والمقهى هو مكان مناسب تلتقي به الشخصيّات مختلفة الطّبقات والأطياف. تعدّد المكان والزمان: تعدّد الأماكن: في رواية الكاتبة عبيد تعدّدت الأماكن ما بين مدن وقرى فلسطينيّة، وبعض الولايات الأمريكيّة، والنرويج، وبعض الدول العربيّة….إِنّ لهذا التّعدّد ميّزة خاصّة؛ حيث تتيح للقارئ أن يتعرّف على بيئات مختلفة من عدّة نواح: اجتماعيّة، وجغرافيّة، وثقافيّة، وسياسيّة؛ كما أنّها تساهم في تطوّر ونموّ شخصيّات الرّواية على طول مساحتها، وبالتّالي تساهم في خلق التشويق عند القارئ. أمّا عن زمن الرواية، فقد ذكر على لسان معظم الرواة أزمنة قد وقعت، أو ما زالت واقعة: زمن انتشار مرض الكورونا، والحرب على غزّة، والحرب في أوكرانيا… وغيرها. الزمن هنا أيضا يساهم في تطور أحداث الرّواية، ويكشف عن الذاكرة والحنين؛ وخاصّة الحنين إِلى الوطن الأمّ، كما حدث في رواية” ثرثرة في مقهى إِيفانستون” حيث أنّ معظم شخصيّات الرّواية تعيش مغتربة خارج الوطن. الصراع في الرواية: في رواية عبيد، بطلة الرّواية شخصيّة مضطربة نفسيّا تعاني من تناقضات مختلفة، بين ما هو الخطأ وما الصواب؟ وأيّ منها يعمل لمصلحتها؛ فهي تعاني من صراع داخلي عميق ما بين القلق والاكتئاب والتّوتّر: هل تدعم الشخصيّة – الّتي قتلت زوجها؟- أم تبلّغ عنها دعما للحقيقة؟ هذا، يجعلنا نتساءل: هل الغربة والشّتات في بلاد الله، هما المؤثّران على نفسيّة البطلة سارة، أم حياة الطّفولة البائسة الّتي عاشتها في ظلّ زوج أمّ متسلّط وعنيف؛ أم كلاهما معا؟ تعدّد الرواة في الرواية: لقد تعدّد الرواة في رواية هناء عبيد، حيث نجد أنّ كل شخصيّة قد عبّرت عن نفسها، فمن خلال هذه التقنيّة تمكّن القارئ من فهم نفسيّة الشخصيّة الداخليّة: صفاتها، مشاعرها، توجّهاتها، وجهات النظر؛ حتّى يمكن أن يكون تغيّرا في أسلوب السّرد من شخص لآخر؛ بينما في هذه الرّواية نجد نفس الخطاب عند معظم الشخصيّات، وجميعها كرّرت نفس المشاعر، وحبّ الوطن الأمّ، وذكرت تاريخه وثقافته، وحضارته؛ ونفس المعاناة؛ ونفس الألم. يمكننا أن نوعز هذا التّكرار، لكون الكاتبة هناء عبيد، امرأة فلسطينيّة تعيش غربتها بكلّ تفاصيلها. لقد لخّصت الراوية سيرين الغربة في ص26: “كلّنا تتشابه أحلامنا، نتجاوز الأماكن، قد تدفعنا إِلى السباحة عكس التيّار؛ قد ننجو وقد نغرق” الإِنسانيّة في أسلوب الكاتبة: لقد سيطر على أسلوب الكاتبة في الرواية الناحيّة الإِنسانيّة، فقد رفضت القهر والظلم، وإِراقة الدماء؛ وهناك الصّبر والعزيمة، والتحدّيات؛ والتّعاون والصداقة والتعاطف مع الآخر…. اللغة في الرواية: لغة نحوية سلسة ورقيقة تحتوي على المحسّنات البلاغية، فكثرت بها الاستعارات والتشبيهات والوصف الدّقيق؛ ممّا أضاف للرّواية قيمة أدبية محبّبة تبعد عن الأسلوب التقريري المباشر.
وقالت رفيقة عثمان أبو غوش:
قراءة العنوان للوهلة الأولى، يذكّرنا برواية الكاتب نجيب محفوظ، وكأنّ هذا العنوان فيه تناص، من رواية “ثرثرة فوق النّيل”. إنّ اختيار مقهى إيفانستون؛ تأخذ القارئ لعالم الغرب، وتستدعي البحث عن هذا الاسم، ومكان وجوده. من خلال قراءة الرّواية، اتضّح بأنّ اسم “إيفانستون” هو اسم لمقهى قرب جامعة “نورث ويسترن” في وسط “إيفانستون”، في ولاية “إلينوي”. صفحة 159. مدينة “إيفانيستون” من ضواحي “شيكاغو” الأمريكيّة شمالًا” وتقع على بُعد 19 كم شمال وسط مدينة “شيكاغو”. (مصادر إليكترونيّة). إنّ اختيار الكاتبة للمكان (مقهى إيفانستون)، مصدر لانطلاق سرد أحداث الرّواية؛ لذا يحمل أهميّة كبرى في التقاء شخصيّات الرّواية بهذا المكان.
لا شك بأنّ هذا الاختيار يجذب القارئ، لاقتناء الرّواية. اتّسمت لغة الرّواية بلغة بليغة، سلسة، ذات ألفاظ ومحسّنات بديعيّة، وصور شعريّة وبلاغية جميلة؛ تجذب القارئ نحو قراءة متواصلة. اهتمّت الكاتبة بوصف مدينة القدس، والتّعبير عن الحنين والشّوق، لهذه المدينة المُقدّسة (النوستالجيا)، وهي الوطن الأوّل والأم، كما وصفت على لسان البطلة سيرين؛ ومن ثمّ وصف بعض المعالم في مدينة عمّان وتقدير أفضالها عليها، والّتي قضت فيها طيلة سنوات الدّراسة الجامعيّة.
حظيت مدينة القدس، بمكانة عالية، وبوصف جميل تطغى عليه العاطفة النّابعة من القلب كما ورد صفحة 98 “القدس ليست كغيرها من مدن العالم، لها هيبة، تجمع كل الدّيانات السّماويّة.”. كذلك صفحة 99″مدينة القدس لن تمحوها الذّاكرة حتّى لو عطب الذّهن، فقد يفقد الذّاكرة، إلّا من صورتها البهيّة”؛ ذكرى القدس جميلة، لكنّها تحمل الأسى؛ أسى الظّلم والقهر. اقتبست الكاتبة من قصيدة الشّاعر الفلسطيني: تميم البرغوثي قائلًا في القدس: “وفي القدس تفرّقت في النّاس تحمينا ونحميها… ونحملها على أكتافنا حملّا… إذا جازت على أقمارها الأزمان… في القدس أعمدة الرّخام الدّاكنات.. كأن تعريق الرّخام دخان…ونوافذ تعلوالمساجد والكنائس… أمسكت بيد الصّباح تُريه كيف النّقش بالألوان.” صفحة 97 الاقتباس الثّاني يدعم الانتماء للوطن والأرض، للشّاعر الفلسطيني محمود درويش قائلًا:”أنا الأرض والأرض أنت…خديجة لا تغلقي الباب… لا تدخلي في الغياب… سنطردهم من إناء الزّهر وحبل الغسيل.. سنطردهم عن حجارة هذا الطّريق الطّويل… سنطردهم من هواء الخليل.” صفحة 170. إنّ استخدام الاقتباسين المذكورين أعلاه، دعم أفكار الكاتبة، ومشاعرها نحو الوطن؛ وكان استخدام الاقتباس ملائمًا وليس مبالغًا فيه. زمنكيّة الرّواية: دارت أحداث الرّواية في زمن انتشار مرض “الكورونا”، في ولاية شيكاغو الأمريكيّة، وفي العالم كافّةً عام 2020. دارت أحداث الرّواية ما بين الأمكنة التّالية: (شيكاغو ومدينة إيفانستون)، وعمّان ومدينة القدس، ومدينة الخليل، والمخيّم الكائن في منطقة رام الله. إنّ استخدام أسماء الأماكن الفلسطينيّة في الرّواية يؤكّد أهميّتها لدى الكاتبة، وتأثيرها على نفسيّتها؛ نظرًا لارتباطها الرّوحي بها. إنّ اختيار الأمكنة في الرّواية تعتبر فضاءً يحتوي كل العناصر الرّوائيّة؛ بما فيها من حوادث وشخصيّات، وما بينها من علاقات، وأعطتها المساحة الكافية؛ للتّعبير عن خلجات النّفس ووجهات النّظر. وظّفت الكاتبة تقنيّات وأساليب متعدّدة في سرد الأحداث مثل: كتابة الرّسائل الإلكترونيّة المُتبادلة بين شخصيّات الرّواية، واستخدام “الفلاش باك”– التّذكّر أو الاسترجاع؛ بالإضافة لاستعمال الحوارات: الدّاخليّة والخارجيّة؛ ممّا أضفت إثارة وتشويقًا لأحداث الرّواية. تعدّدت أصوات الرّواة في الرّواية بصوت الأنا، وأتاحت الكاتبة للشّخصيّات مساحة واسعة؛ للتّعبير عن نفسها، بالإضافة لتدخّل صوت الرّوائيّة نفسها في متن الرّواية أيضًا. هذه الأصوات أثرت الرّواية بتعدّد الأفكار والمشاعر الصّادرة عن أفواه أصحابها؛ والّتي لا يستطيع الرّوائي الكشف عنها مثل أصحابها أنفسهم، برأيي الشّخصي هذا الاختيار ينحاز لصالح الرّواية. تمثّلت أصوات الرّواة بالشّخصيّات التّالية: سيرين، وليث، وفاطمة، وسارة، ونانسي، وخالد، بالإضافة لصوت الرّوائيّة نفسها. تطرّقت الكاتبة لموضوع الغربة والحنين للوطن، وحق العودة “النوستالجيا”، فموضوع الغربة كان (الموتيف) الهام في الرّواية؛ حيث تكرّر التّعبير عن المشاعر، على لسان معظم أصوات شخصيّات الرّواية المغتربين، سواء في شيكاغو، أو في النّرويج: كما ورد على لسان سيرين: ” مؤلمة غربة النفس، رغم كلّ من يحيطني، أجدني وحيدة، تائهة، حائرة” صفحة 180. ” البعد عن الأرض نار وجحيم، والبعد عن الأهل حُرقة” صفحة 151. “قدماي تتعثّران بشوك الغربة، غربة الرّوح، وغربة الأرض” صفحة 143. “أتوق للعودة حيث الرّوح والجذور” صفحة 147. “حاولت الاستمرار في النّرويج، البلد الّذي ضمّني على أرضه؛ ولكنّني لم أستطِع التّأقلم فيه، يبدو أنّ الغربة نخرت عظامي” صفحة 180.” الأحلام لن تموت يومًا، وما زلت أؤمن بالعودة”. صفحة 123. من البديهي أن يكون (الموتيف) عند الكاتبة هو موضوع الغربة والحنين للوطن القدس فلسطين، نظرًا لكون الكاتبة مغتربة في شيكاغو منذ سنوات طويلة. تُصنّف الرّواية ضمن الرّوايات الواقعيّة والخياليّة؛ نظرًا للحديث عن إنسانة مزدوجة الشّخصيّة للبطلة سيرين، والّتي عاشت دور سارة وسيرين في آن واحد، دون علم سيرين بإصابتها بالإضطّراب النّفسي،ومعاناتها من(فصام الشّخصيّة)أي “الشيزوفرينيا” لو صحّ التّشخيص لهذه الحالة. تنطبق أحداث الرّواية حول البطلة سيرين، ومواصفات سلوكها، وتفكيرها، واضطّرابها؛ كما تفسّرها “ويكبيديا”:”الفُصام، كما يُعرف باسم السكيزوفرينيا (باللاتينيّة) وأيضًا الشيزوفرينيا: “وهواضطّراب نفسي يتّسم بسلوك اجتماعي غير طبيعي وفشل في تمييز الواقع.”. من خلال وصف هذه الشّخصيّة (سيرين) نجحت الكاتبة في خلق شخصيّة خياليّة؛ تكوّنت نتيجة غضب سيرين، بعد سماعها بمقتل والدها، ورغبتها في الانتقام له؛ ولذلك ظهرت شخصيّة سارة في الّلاوعي، لعدم قدرة سيرين الحقيقيّة بالانتقام. برأيي من خلال هذه الشّخصيّة استطاعت سيرين التّعبير عن مشاعر الغضب ورغبة الانتقام من قاتل والدها. من خلال السّرد استعرضت الكاتبة عددًا من مظاهر التّراث الشّعبي الفلسطيني مثل: الألبسة كالثّوب الفلسطيني، والمأكولات الشّعبيّة مثل: المسخّن، الزّعتر والزّيت، السّمّاق، الميراميّة، واللّهجة الفلسطينيّة؛ والألعاب الفلسطينيّة مثل: السّبع حجار، الكرات الزّجاجية (غلول)، بالإضافة للدّبكة الشّعبيّة كما ذكرت الكاتبة صفحة 77: “يظنّون أنّ سرقاتهم ستمحو ذّاكرة التّاريخ، يعتقدون أنّ بناءَهم الحديث سيطمر حجارة بيوتنا وأصالتها، يعتقدون أنّ صواريخهم ستُدخل الرّعب في قلوبنا، وتعطب ذاكرتنا”.
زخرت صفحات السّرد في رواية “ثرثرة في مقهى إيفانستون” بوصف ومعلومات تُغني القارئ حول حضارة فلسطين وتراثها الشّعبي؛ وهي مصدر تعريف عن الحضارة والتّراث الشّعبي الفلسطيني. يُعتبر هذا الاستخدام طريقة لحفظ الموروث الشّعبي، وغرسه في عقول وقلوب الأجيال الجديدة.
رواية “ثرثرة في مقهى إيفانستون” رواية تستحق القراءة، توضح معاناة الإنسان العربي أو الفلسطيني خاصًّة، أثناء الغربة، والحنين للعودة للوطن؛ ناهيك عن استعراض مظاهر التّراث والحضارة الفلسطينيّة؛ وذكر الأماكن بطريقة شيّقة.
وقال عفيف قاووق:
ثرثرة في مقهى إيفانستون للكاتبة المقدسيّة هناء عبيد والمقيمة في شيكاغو، صدرت في طبعتها الأولى العام 2023 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان- الأردن. كتبت بلغة سردية وبأبعاد فلسفية ونفسية، حيث صنعت نسرين في مخيلتها طيفا لشخصية سارة واعتبرتها توأم روحها.ومن خلال هذا الطيف أطلقت الكاتبة العنان لسارة للبوح بكل معاناتها وعذاباتها التي بدأت مع طفولتها ورافقتها في كل أيام حياتها.
إذا أردنا تجنيس هذه الرواية نجد انها تنتمي لعدة اجناس أدبية منها: الأدب السياسي، الأدب الإجتماعي وحتّى أدب الرسائل، إلا أن ما يجمع هذه الأجناس كلها هو أدب الإلتزام الذي يبدو جليًا من خلال ما تتناوله الكاتبة من قضايا وموضوعات في رواياتها ملتزمة بإثارة القضايا الوطنية والسياسية التي تمس في جوهرها ما يواجهه الفلسطيني سواءً في الأرض المحتلة او في المنافي وبلاد الإغتراب.
امتازت الرواية باعتماد تقنية الإسترجاع في أكثر من موضع، وتماشيًا مع تقنيات العصر وبما ان الرواية تضمنت نفحة من أدب الرسائل فقد اعتمدت الكاتبة على التكنولوجيا فجاءت رسائلها عبارة عن إيميلات عبر البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الإجتماعي الرائج إستخدامها في عصرنا الحالي. ومن التقنيات المتبعة في هذه الرواية أيضا هو انها لم تعتمدعلى الراوي الواحد او السارد العليم بل أفسحت المجال لأكثر من راوٍ وهو ما يعرف بتعدد الأصوات، بحيث كانت حيادية ومانحة الفرصة لكل شخص من شخوص روايتها بأن يبوح بكل ما يعتمر بداخله وانطلاقًا من وجهة نظره وفهمه لما يمر به دون تدخل أو إيحاء من الكاتبة، وهذا ما يضفي على الرواية الكثير من المصداقية والواقعية. ولكي لا يقع القارىء في حال من الملل كان ما يشبه تقطيع المشاهد عن طريق الإنتقال إلى الإسترجاع او الفلاش باك مما يدخل عنصر التشويق لدى القارىء ويحفزه لمواصلة القراءة ومعرفة ما ستؤول إليه الأحداث لاحقًا. وإلى جانب تعدد الرواة فقد شهدنا أيضا تعددأ للأماكن بدءًا من الاردن الى اميركا وإيفانستون مرورا بالنرويج مع الإشارة إلى بعض مدن فلسطين كالخليل وغزّة والقدس.
رواية ثرثرة في مقهى إيفانستون، رواية ذات وجيهن ظاهريّ وباطنيّ، ففي وجهها الظاهريّ يمكننا القول أننا أمام رواية إجتماعية ذات بعد نفسي، تعالج مسألة الإنفصام أو ما يسمى بالإضطراب الوهمي، والذي غالبا ما يصيب الفرد نتيجة تجارب مؤلمة ورغبات مكبوتة يصعب تحقيقها،بحيث يصبح المرء عاجزا عن التفريق بين الحقيقة والوهم. وهذا بالضبط ما قدمته لنا الكاتبة من خلال شخصية سارة المتخيَّلة – والتي هي بالواقع نسرين- حيث تفصح سارة أنها عاشت طفولة بائسة مع زوج أمها ثم تزوجت لتصبح زوجة مهملة من زوجها رمزي الذي يعاملها بفظاظة وخشونة مما حملها للتوهم بأنّها قتلته وجشّت رأسه بحجر، لتختفي بعد ذلك وتضع نسرين في دوامة البحث عنها وعن حقيقة ما إذا كانت فعلا قد قتلت زوجها كما تدعي.لنكتشف في النهاية أن سارة ما هي سوى نسرين المضطربة نفسيًا نتيجة لموت والدها قتلًا على يد الإحتلال في القدس. ولقد أبرزت الرواية الصراع الأزلي داخل النفس البشرية بين الشر والخير، ففي أحد الحوارات تقول نسرين لسارة”أنتِ كثيرًا ما تتذمرين بينما أنا أجد ملاذي في إسعاد الآخرين، تمتلىء نفسك بالغل والحقد ورغبة في الإنتقام”(ص16).كما عبرت عن هذا الصراع الذي يعتمر في النفس البشرية من خلال ما درجت عليه نسرين من عادة في طلب فنجانّي قهوة أحدهما حلو والآخر مُر، فكيف لشخص أن يشرب قهوة تحمل طعم الحلاوة والعلقم في الوقت نفسه؟ إلا إذا كان يعيش صراعا داخليًا وتشتتًا ذهنيًا.
إضافة إلى هذا فقد تناولت الرواية الآلام النفسية التي يعانيها الشباب العربي نتيجة إغترابه وإبتعاده عن جذوره كما عبَّر عن ذلك ليث وخالد كل على طريقته. ونتيجة للأوضاع المتردية في معظم البلاد العربية بعد ما سُميَ بالربيع العربي أصبح الإغتراب القسري هو ما يتشارك به الشباب العربي من مختلف الأوطان ولكي لا تقع الكاتبة في فخ تسمية هذه الأوطان فقد لجأت للترميز واختارت ان تسميها ببلاد النخيل القادم منها ليث الذي يقول: لم أختر الغربة يومًا،لكن أحلامي تلاشت فلم يعد مسقط رأسي وطنًا صالحًا بعد أن امتلأ باللصوص ومدمري الأحلام” (ص56).
لقد إستفاضت الكاتبة على لسان شخوص روايتها في الإشارة إلى ضرورة التمسك بالجذور مهما بعدت المسافات، تقول فاطمة ابنة الخليل: “كيف سينسى الفلسطيني جذوره المتغلغلة في وجدانه؟ (ص80). وفي موضع آخر تفصح عن وصية والدتها لها: ” لا تقطعي رحلاتك إلى الأرض، هذه أرضنا وحلمهم أن ننساها” (ص116). وبهذا المعنى وردت عبارة في الرواية لا يجب ان تمر مرور الكرام لما تحمله من موقف سياسي ووطني لافت، وهي ما قالته نسرين من أن الأردن وطن دافىء إلا أنّه لن يكون يومًا وطنًا بديلًا عن فلسطين” (ص111).
هذا بإختصار ما يمكن استخلاصه من الرواية إذا تمّت مقاربتها من هذه الزاوية النفسية والإجتماعية، ولكن جوهر الرواية كما قلنا يكمن في مكان آخر وفي منحى مختلف تماما وأكثر تشعبًا. وهنا لا بد وأن نسجل للكاتبة براعتها في اعتماد ما يشبه التورية فقدمت لنا هذه الرواية على أنّها تعالج أزمات نفسية ما نتيجة القهر او الإغتراب، ولكنها في الحقيقة هي رواية ذات بُعدٍ سياسي ووطني وهذا ما نلمسه إذا ما حاولنا فك شيفراتها والقيام ببعض الإسقاطات على الواقع العربي عمومًا والفلسطيني خصوصًا.
بداية ليس مصادفة أن تنتقي الكاتبة شخصياتها بمجملها من العرب والفلسطينيين – بإستثناء السيدة نانسي المرأة الآتية من النرويج لتستقر في أميركا – .وهذا ما يمكنها من الإطلالة على ما يعانية الفلسطيني المغترب والمُبعد عن أرضه.
وبالإنتقال للبعد السياسي والترميز في هذه الرواية، فلو إستمعنا إلى سارة وهي تقول: ” كنت صغيرة حين إحتلّ هذا الغريب الدار ورأيته يطلق النار على رأس أبي بعد أن كسّر عظامه بعقب البندقية،هذا الرجل الغريب –زوج أمي الوحش- كان دومًا يلبس بدلة عسكرية كاكية اللون ويحمل على ظهره بندقية، لقد طردني من بيت أبي وأمي وإدعى انّه مالك البيت ولديه حاجيات فيه قبل وجودنا نحن”. إذا أردنا التمعن فيما قالته سارة نجد ان قولها هذا بالتأكيد يرمز إلى المحتل العسكري الذي يدعي زورًا أن له الحق في هذه الأرض التي إغتصبها عنوةً.
وفي موضع آخر وتحديدًا الصفحة 137 تقول سارة ما مضمونه أن زوجها يريد أن يُسكِن صديقه وزوجته معهم في الغرفة الفارغة متساءلة كيف لها ان تعيش بحرية مع أغراب تتقاسم وإياهم المنزل. أليس في هذا القول إشارة إلى حركة الإستيطان التي تمارس في مصادرة البيوت والأملاك؟.
إشارة رمزية قد لا تخلو من البعد السياسي والوطني وهي عندما تفصح سارة عن وصية والدتها لها: ” واصلي الرسالة يا سارة، كانت تحمل بيدها حجرًا أخذته منها حينها قالت لي هذا هو إرثي لك” (ص12).هذه الوصية من الأم لإبنتها تعيدنا بالذاكرة إلى إنتفاضة الحجارة وتعلن بوضوح ان المقاومة ولو بحجر هي السبيل الوحيد لإسترجاع ما خسرناه.
لقد حضرت فلسطين بقوة في هذه الرواية وفي مفاصل كثيرة، وتضمنت إشارة تذكيرية بيوم الأرض الذي لا يمكن إختصاره بتاريخ يوم واحد فكل يوم من ايامنا هو يوم الأرض، وأيضا يأخذنا خالد إلى مدينته غزّة وكيف ان الحياة فيها يغلفها القلق الدائم وهي تنتظر الغارات القاتلة لسكان عزّل لا يحملون غير حقيبة من الأحلام المؤودة. ومشيرًا إلى الغارات التي تستهدف الأماكن المدنية بحجة انها تشكل خطرًا على الإحتلال.لكن هذا لا ولن يمنع غزّة من ان تنجب اطفالاً يرضعون مع الحليب العزّة والكبرياء. أمّا فاطمة تقول ان لها ابنة أسمتها فلسطين وصبّي اسمه خليل متمنية ان تنجب المزيد من الأبناء لتحضن يافا وجنين وبيسان وصفد وتأخذنا الى الخليل بعين والدتها التي تعتبر الخليل قطعة من جسد الوطن ولا يمكن بترها مهما حاولوا إقتلاعها، لقد إنحفرت الخليل في قلبها كوشم أبدي وهي تستذكر المسجد الإبراهيمي وما حدث فيه من مجزرة أقدم عليها العنصري جولدشتاين العام 1994. والحديث عن فلسطين لم يقتصر على الخليل وحده بل كان للقدس نصيبها التي تستحقه ، فالقدس كما تقول نانسي لها نور خاص يدخل السكينة إلى القلوب، والأماكن المقدسّة فيه تتشابك فكنيسة القيامة توجد في الجهة المقابلة للمسجد الأقصى. وللقدس أبواب عريقة كانت تغلق لتحميها من الطامعين أمّا الآن وبعد أن احتلوها فهي تغلق في وجه أصحابها بحجة أنهم إرهابيون.
الى جانب ما ذكر فإن التراث الفلسطيني كان حاضرًا أيضا من خلال جمعية إحياء التراث الفلسطيني كالحديث عن ضرورة التمسك بالثوب الفلسطيني حيث يحمل كل ثوب تاريخ مدينة فلسطينية، كي يتم تناقله بين الأجيال، فالإحتلال يسعى لسرقته كما سرق الأرض والوطن، مع الإشارة الى الأكلات الشّعبيّة الفلسطينيّة التي تعتبر من صميم التراث الفلسطيني والذي يحاول الإحتلال أيضا طمسه ونسب تلك المأكولات إليه.
كما ان الرواية قاربت مسألة الإعلام وأيضا كتابة التاريخ الذي يغلب عليه الكذب، يكتبه المنتصر أو الظالم في معظم الأحيان. وأيضا تشير إلى الإعلام الموجّه الذي لم يكن صادقًا يومًا.فهو يتبع القوي ويغسل الأدمغة ويعمل على تفريق الشعوب، كما تقول نانسي.(103).
مسألة أخرى بدأت تلوح في الأفق وهي مسألة بداية التغيير في الرأي العام الأميركي وتحديدًا أولئك القادمون من بلاد أخرى كالسيدة النروجية نانسي المتعاطفة مع القضية الفلسطينية والتي رفضت أثناء زيارتها للقدس أن تستمع لشروحات الدليل السياحي خشية منها ان يسرد التفاصيل التي تتناسب مع تاريخ الإحتلال، وتقول لا مصداقية يمكن أخذها بدقة إلا ممن عاش على هذه الأرض على مر العصور.(106).
قضايا أخرى تناولتها الرواية ولو لمامًا كمسألة الزواج غير المتكافىء كما حدث مع سارة التي تزوجت من شخص لا تعرفه وتسأل كيف لشخصين أن يعيشا في بيت واحد؟ كيف يمكن لها أن تتعامل مع قلب مغلق وكيف للروح أن تتواصل مع عاطفة ميتة؟ (ص37).
لا بد وان نسجل للكاتبة متابعتها لما يدور في الأوساط الثقافية والأدبية من خلال إشارتها إلى رابطة الأدباء العرب حيث تتم مناقشة الأصدارات الأدبية سواء وجاهيا ام عبر تقنيات الزووم كما يحصل حاليا في معظم الملتقيات الأدبية. ولكن ما لفتني هنا شجاعة نسرين – أو الكاتبة لا فرق- في طرحها لسؤال إشكالي بعد مناقشة روايتها فتقول: لا أدري إن كانت الآراء تحكي الحقيقة أم أنّها مجاملات؟ كل الآراء متشابهة “قلم جميل واعد،لغة متينة،أفكار عميقة” فهل هذا قالب معدّ حتى يضمن كل كاتب ألا يهجو أحدٌ أعماله”؟ سؤال برأيي يجب التوقف عنده خاصة إذا كانت مناقشة الروايات او الكتب تتم بحضور كاتبها، فإلى أي مدى تكون مساحة الحرية والجرأة والموضوعية متاحة امام من يريد ان يدلي بمداخلته.
ختامًا مبارك للأديبة عناء عبيد هذا الإصدار الهادف وإلى المزيد من التألق والنجاحات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى