سياسة

الحصُّ وحطيط وجورج قرم.. وداعًا

الشيخ سالم بن محمد العبري| سلطنة عُمان

ما دعاني لكتابة هذه السطور ثلة من القادة العظام الذين نبارك لعائلاتهم ومنظماتهم ذلك الفوز العظيم في الآخرة والدنيا ففي أيام قلائل فقد لبنان ثلاث قامات عربية خسرها العرب جميعًا لا لبنان وحده وهم: دولة رئيس الوزراء الأسبق سليم الحص، والمفكر الاقتصادي جورج قرم، والخبير الاستراتيجي العميد أمين حطيط.

لقد تُوج هذا المُصاب الجلل بوفاة الشريف العظيم الذي يشهد له رفقاؤه وغير المماثلين له أمانةً وجهدا وأصالة وشرفاً إنه الوزير ورئيس الوزراء الأسبق سليم الحص الذي لا يتناسب لقبه مع عمله وسمعته فاللقب المناسب لتلك الشخصية شبه النادرة في هذا العالم وخصوصا عالم المسؤولية والمال هو (الأمين يوسف). وكأنني أراه الآن حين أوتي له بالمال الوفير فقال لهم: (إنكم بهديتكم تفرحون) فخرج على الإعلام ليقول عن تلك الهِبَة أو سموها كما تشاءون ضعوها في حساب الدولة، وكأنه استشار عبد الناصر الذي أخذ مبلغا مماثلا فبنى به برج القاهرة الغني عن التعريف والوصف.

وأتذكر حين كنَّا في مجلس إدارة النادي الثقافي في التسعينيات من القرن الماضي طُرح اقتراح باستضافة شخصه الكريم فحلّ بمسقط ضيف دولة لرجل دولة تصم الأمة حين تُقرأ مناقبه ومواقفه التي لا يخطها إلا الكبار وإذا به مساء الثاني والعشرين من يناير 1992 يعتلي منصة النادي الثقافي بقامته وهيئته وبراعته وكأنه يعتز وهو يحاضر للأمة العربية من وطنها الشرقي عُمان الذي يسابق المحتفي به في كل الصفات والمواقف يصوغ تاريخا مجيدا خالدا خلود السموات والأرض لبضع آلاف من التاريخ، وإذا النخبة العمانية من أهل العلم والفكر والأدب والتاريخ من العمانيين وغيرهم من العرب المقيمين بعُمان يحجون إلى النادي الثقاقي بُعيد المغرب ليصغوا لحديث سليم الحُصّ وما به من رسائل وخبرات للأمة وهو يكاشفها بحقيقة مسارها وما يراه لها من مسار يصحح ما اختلّ من توجهات لا تحمد عقباها، وإذا بقاعات ومكاتب وأفنية النادي الثقافي تمتليء عن بكرة أبيها مكتظة وزاحم أجيال الشباب آباءهم. وكأن الحص أتى لينوب في إلقاء خطاب عن زعيم الأمة جمال عبد الناصر، وإذا بالشوارع والطرقات والممرات الضيقة ومداخل المسكان ومواقفها قد زخرت بالسيارات بمختلف أنواعها وأشكالها وألوانها وإذا الجميع يستغيث بالمرور وأقسام الشرطة ويتساءلون:ماذا يحدث وإذا تلك الإدارات لا تملك جوابا فتتصل بجهاتها العليا وإذا بهاتف معالي يحيى المنذري وزير التربية والتعليم المشرف على النادي يرن بلون أحمر وهو يرد: تحملوا وهدّئوا الناس فلا غرابة ولا استغراب إن النادي يستضيف الدكتور سليم الحص ويرسل لهم السيرة الذاتية ليعرفوا أنّ مَن يحاضر بالقاعة ويحاضر للعروبة شخص يبدوأن يديه قابضتان على الجمر.

ومن أقواله المأثورة: (القوة الاقتصادية العربية تؤهلنا لمكان مرموق في عالم جديد)، وإسرائيل لن ترضى برسم حدودها لأنَّ ذلك يخالف عقيدتها الداعية” لأسرائيل الكبرى).ونحن أعضاء إدارة النادي نفسح لحضور المحاضرة ونتابع حديث الحصّ من زوايا مختفية ضيقة.

أما الشخصية الثانية؛ فهو الخبير العسكري أمين حطيط المميز في مواقفه وتحليلاته الخبرية المميزة والموفقة فقد تابعته على مدار عقدين وكان لرأيه وتحيلاته سندا لقناعتي وتبشيري بأن سوريا صامدة منتصرة من الأسابيع الأولى لتلك الجريمة التي اقترفها الغرب الصهيوني وبعض العرب الذين أعمت قلوبهم نعم الله بوفرة المال، ثم تابعنا معه معركة طوفان الأقصى من أيامها الأولى وحتى وفاته – رحمه الله- وأسكنه فسيح رحمته ونعيمه الذي وعد به المجاهدين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

ثم أتت وفاة الاقتصادي الكبير والشريف الدكتور جورج قرم، والذي يُقال عن مثله من الشرفاء (ففي الليلة الظلماء يفتقد البدر). ويقول البعض عنه: لوكان هو على رأس المصرف المركزي اللبناني لَمَا نُهِبت الملايين، فهو شبيه النبي يوسف عليه السلام في مسؤوليته فلو اعتلى سُدّة المصرف المركزيّ لقطع أيدي اللصوص وأوقع المتآمرين في حبائل العدالة.

واليوم نحن نستذكر تلك الأيام وتلك القامات بعد أن غيبتها حتمية الفناء دون أن تصل وتسمع كلماتهم أُذن (من به صمم)، ويظهر جليا أن الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين ليس له حدود ولن يرسم حدودا، فهو غُدة سرطانية لا تتراحع، بل تقضم وتقضي وتتوسع، على حساب أوطاننا. وإنّ ما يجري بغزة والضفة والمنطقة بأسرها دليل وبرهان ساطع لمن يبصر على حجم المؤامرة على وطننا العربي الكبير من المحيط إلى الخليج

لقد كان كل الشرفاء من مجاهدين وشهداء كإسماعيل هنية وغيره يتمنون الشهادة ويرجونها؛ فقد كان دائمًا يردد على مسامع مرافقيه وحراسه قبيل اغتياله بسويعات أو أيام قائلا: بلغت من العمر 67، فلا رغبة في المزيد وأرجو من الله أن يختم عمري بالشهادة. وكل المجاهدين رددوا هذا القول ولم يطلبوا يوماً بلوغ الثمانين. كما يقول الشاعر الكبير الخالد زهير بن أبي سلمى:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش // ثمانينا حولًا لا أبا لك يسئم

وهكذا كبار الشخصيات، ويقال: إن الشيخ نور الدين السالمي لما صلى الجمعة بنزوى وأقام بعض الحدود شرع يدعو الله أن يقبضه إليه، فكان له ما أراد، وفي طريقه إلى الحمراء لمقابلة أستاذه الأول الشيخ العلامة ماجد بن خميس بن راشد العبري سقط من على راحلته حيث اصطدم بجدار (شجرة أنبا/المانجو)، وقلت في ذلك شعرا أذكر منه:

فنام قرير العين يحمد ربه // ويرجو لقاء بالشهادة يعضد

فسار إلى الحمراء يقصد شيخه // ليجري حوارا للبرية يرشد

فعاجله وعد من الله سابق // أعد له زادا وظل له يشد

(تنوف) وقد شرفت يوما ببيعة // لك الشرف الباقي إذا هو يرقد

وهكذا كل العظام ينشدون حسن الخاتمة بالشهادة فلا غرو أن يكون كل المجاهدين من قادة أو جنود.

فتحية إكبار وإجلال لتلك القامات وأمثالها وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى