الثقافة الأبوية

جميل السلحوت | فلسطين

الثّقافة الأبويّة
الثّقافة الأبويّة إحدى افرازات عقليّة القبيلة والعشيرة أيضا، ففي القبيلة شيخ القبيلة هو من يتحكّم بمصيرها ومصير أبنائها، وقد يقودها إلى الهلاك دون أن يعترض عليه أحد من أفراد القبيلة، لأنّ سياسة القطيع هي السّائدة، وهي مغروسة في ذهن كلّ فرد، حتى أصبحت سلوكا، وإمعانا في ذلك فإنّ الخوف من موت شيخ القبيلة يبقى هاجسا يؤرّق أبناءها، والخوف عليهم وعليها من الضّياع، لأنّ ثقافة القبيلة تعتبر شيخها ظلّ الله في أرضه، وهذا ينعكس على دول القبيلة أو القبائل، تماما مثلما ينعكس على الأفراد والعائلات، وإذا كان سداد الرّأي محصور في شيخ القبيلة، أو في رأس الدّولة، فإنّه أيضا محصور في رأس العائلة وحتّى الأسرة، فالتّربية القبليّة تمنع الابن من الحديث أو ابداء الرّأي في مجلس يتواجد فيه أبوه، حتى لو كان عمر الابن سبعين عاما فهو يعامل كطفل بوجود أبيه، وإذا ما توفّي الأب فإنّ القيادة تنتقل للابن الذّكر الأكبر، ولا وجود للإناث في عقليّة القبيلة، وتقود هذه التّربية إلى اتّكال الابن على الأب، أو الجدّ في حالة وجوده، أو إلى الأخ الأكبر مما يولّد الاتّكالية، التي تورث الكسل والخمول وكبت الإبداع الفرديّ، وقد يكبر الابن ويتزوّج ويصبح أبًا وهو لا يعرف شراء قميص له على سبيل المثال، لأنّ شراء القميص من تخصّصات الأب الملهم! وإذا ما أخطأ رأس القبيلة أو الأسرة فإنّ براءته جاهزة بردّها إلى القضاء والقدر، مع ما يحمل هذا من فهم خاطئ للدّين ولمفهوم القضاء والقدر.
وتنسحب ثقافة القبيلة التي تعصم “الكبير”عن الخطأ إلى مختلف مناحي الحياة، فعلى المستوى الدّيني هناك ممّن يدّعون العلم بأمور الشّريعة يحرّمون الاجتهاد، ويعتمدون في “فتاويهم” على كلّ شيء قديم وموروث من اجتهادات وتفسيرات الأقدمين، وليس على القرآن والسّنّة. وهناك من يغضب ويرغي ويزبد ويتنطّع لمن يعلمون دينيّا، ويدعون على سبيل المثال إلى إعادة تفسير القرآن بما يتناسب والمستجدات العلميّة وتطوّرات الحياة، أو يدعو الى تنقية السّنة النّبويّة من الأحاديث الموضوعة، بل إنّهم يكفّرون أصحاب هذه الدّعوات، ويتناسون أنّ من فسّروا القرآن، ودوّنوا الأحاديث النّبويّة بشر يخطئون ويصيبون كبقيّة البشر.
وثقافة “عصمة الكبير” تنسحب على مختلف مجالات الحياة، دون الانتباه إلى التّطوّر العلميّ والحياتيّ، فعلى سبيل المثال هناك من ورثوا مصانع عن آبائهم الذين أنشأوها في زمانهم، ودرّت ثراء على صاحبها الذي بناها وأدارها بطريقة تناسب عصره، وعند وفاة الأب الباني فإنّ الورثة الذين التزموا بنفس طريقة الأب، ولم يواكبوا التّقدّم الصّناعيّ لا يلبثون أن يخسروا إلى درجة الافلاس أمام صناعات منافسة حديثة ومتطوّرة ورخيصة.
وكذا الأمر في الشّأن الثّقافيّ، فجيل الآباء لا يعترف بقدرات وابداعات الأبناء، بل لا يعيرها انتباها، وربّما يخاف منها، ومثال على ذلك محليّا “مبادرة شباب البلد” في جبل المكبر قضاء القدس، أبدعت فكرة أطول سلسلة قارئة حول سور القدس التّاريخي، وهذا حدث غير مسبوق عالميّا، ومع ذلك فإنّ مبدعي هذه الفكرة الرّائعة لم يجدوا الانتباه الكافي من “أبوات الثّقافة” وممّن يتحكّمون بمؤسّسات ثقافية تنفق الملايين سنويّا، ولم يحاول أحد الاستفادة من قدراتهم الابداعيّة الخلاقة، تماما مثلما لم يجدوا تغطية إعلاميّة لائقة من وسائل الاعلام، وربّما هناك مَنْ تخوّف مِنْ هذا النّجاح الذي أبهر العالم، والسّبب طبعا هو ثقافة القبيلة التي تغيّب الصّغير أمام جبروت الكبير.
ولا يفهمنّ أحد من هذا بأنّ على الأبناء أن يتمرّدوا على الآباء، بل عليهم الاستفادة من خبرتهم وتجاربهم، كما على الآباء أن يؤهّلوا أبناءهم للحياة، وأن يطلقوا عنان قدراتهم، وفي نفس الوقت على الآباء أن لا “يأخذوا دورهم ودور أبنائهم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى