مقال

جرحك من تحب سكين في القلب

خالد رمضان | كاتب مصري
وعن الحب يقول ابن حزم الأندلسي في كتابه (طوق الحمامة):الحب أعزك الله أوله هزل، وٱخره جد، دقت معانيه لجلالتها أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة.
في هذه الكلمات القلائل يبين الرجل ماهية الحب، ويؤكد على صعوبة تحديد ذلك الشعور، بل وصعوبة وصفه لدقته ورقته ولاستقراره في أعماق القلوب الوالهة الهائمة.
غالبا ما تكون بدايته بنظرة ساحرة من عين فاتنة تمرق كالسهم من مقل صائبة فتصادف قلبا يهفو اشتياقا وهُياما فتستقر في أعماقه حتى يبيت أسير تلك العيون الناعسة، والرموش الذابحة.
عندئذ يشعر العاشق المسكين وكأن عقارب الساعات قد توقفت عن الدوران، وكأنه بات طيفا خفيفا يهفو فرحا وسرورا في سماء الدنيا لا تراه العيون، ولا تحسه نسمات الهواء العليل.
وسرعان ما تتحول هذه النظرة الوادعة إلى سكون في القلب، وسعادة في المحيا لا تكاد تفارق طيفك ليل نهار، تعزل مفتونها عمن حوله من رفاقه وأخلائه، عن جده أو هرائه، عن أرضه أو سمائه، فيهيم هُيام العاشقين المجذوبين، فلا تقر عينه حتى يراها، ولا تبهج روحه حتى يلقاها، وكما قالت سيدة الغناء العربي:
عودت عيني على رؤياك.. وقلبي سلم لك أمري
وإن مر يوم من غير رؤياك…
ما ينحسبش من عمري
ويستطرد ابن حزم في حديثه عن الحب وعلاماته فيقول:ترى المحب يحب أهل محبوبه وقرابته وخاصته، حتى يكون أحظى إليه من أهله ونفسه، ومن جميع خاصته.
صدق ابن حزم، وأدلل على صدق المحب لمن أحب بهذا الرجل الذي هام بامرأة سوداء، حتى إنه حينما حضرته الوفاة كانوا يقولون له : اذكر الله، فكان يقول: أحب لحبها السودان حتى .. أحب لحبها سود الكلاب.
ويكمل ابن حزم حديثه عن علامات الحب فيقول:والبكاء من علامات المحب، ولكن المحبين يتفاضلون فيه، فمنهم غزير الدمع، هامل الشؤون، تجيبه عيناه، وتحضره عَبرته، ومنهم من هو دون ذلك.
ومن نماذج العشق التي أسوقها إليك ذلك الرجل الذي سألته فتاةٌ يوما عن حمام منجاب، فأشار كاذبا إلى داره، فصدقته تلك الفتاة وبالفعل دخلت الدار، فدخل على إثرها، فلما أيقنت الفتاة أنها وقعت في شراكه احتالت لنفسها، فقالت له:لا يطيب عيشنا إلا بما تقر به أعيننا من طعام أو شراب، فخرج مهرولا لإحضار ما لذ وطاب.
فلما عاد لم يجدها في الدار، فهام على وجهه منشدا:
يا رُب قائلةٍ يوما وقد تعبت
أين الطريق إلى حمام منجابِ
وظل على ذلك أياما وأسابيعا، حتى سمع جارية ترد عليه من شرفة بيتها وتقول:
هلا جعلت إذ ظفرت بها… حرزا على الدار أو قُفلا على البابِ.
فعلم أنها هي، فازداد هيامه، واشتد هيجانه حتى إنه كان يردد عند موته: أين الطريق إلى حمام منجابِ؟
هذا هو حال العشق و العاشقين، دائما لا يفترون عن ذكر من يحبون، وكأن أرواحهم في حواصل طير تهيم بهم في الهواء، فلا يستقر لهم مضجع، ولا يرقأ لهم دمع، ولا يهدأ لهم جفن.
هذا هو الحب الصافي أسمى العواطف وأنقاها؛ فلا تشوبه نظرة المشتهين، ولا تمازجه رغبة الماكرين؛ إنما هو علوٌّ وارتقاء، حنوٌّ وصدق وحنان وصفاء وانتشاء.
إذا ما ضعت في درب..
ففي عينيكِ عنواني
أمات الحبُّ عشاقا..
وحبكِ أنتِ أحياني
ولو أنساكِ يا عمري..
حنايا القلب تنساني.
وأنت أيها المحب، يا من ناط قلبك بمحبوبك، وهامت به روحك لحريٌّ بك أن تحافظ على قلب من تحب، وتضمه بين جنبات قلبك وتفيض عليه من عطفك وحنانك؛ فإنها روح تعلقت بك، وقلب هام وجدا إليك.
وفي خضم هذه المشاعر الفياضة، والأنفاس الحارة، والقلوب الملتهبة لا تسلم لك الحياة؛ فهي دائما خُبلى بالمفاجٱت والصدمات والمكدرات؛ فإذا بك تعرض لك فتنة تخور لها قواك، نسمة من نسمات الحياة، تداعب جبهتك الحارة، تعزف على أوتار قلبك، تهمس في عقلك، حتى تخر لها أسيرا مسكينا متناسيا تلك الليالي الخوالي من حبك القديم، ضاربا به عُرض الحائط، وكأنه كان نسيا منسيا.
ثم تفيق من سباتك العميق، متسائلا محدثا نفسك:
ماذا حل بي؟!
من هذه؟
كيف كان ذلك؟
لا لا يا قلب اتئد.
ثم تعود لحبك الأول نادما متحسرا مادا يديك معتقدا يا أبله أنك ستجدها تفتح لك ذراعيها، أو سوف تلقاكَ – كما كانت من قبلُ – ببسمة من عينيها، فإذا بك تجد نفسك جانيا خلف قضبان جريمتك، منكّس الرأس، منكسر الطرف، حائر الوجدان خجلا مهزوما؛ لقد أصاب سهم فعلتك قلبا أحبك فأدميته، ومزقته، وتركت فيه جرحا غائرا لا يندمل، ولا يلتئم.
ما أشدّ أن تجرح من تحب، أو تقسوَ على من وهبك روحه التي يحيا بها، أو حلمه الذي عاش لأجله!
إن هذا القلب الرقيق لا يحتمل طعناتك الغادرة، ولا يستحق منك تمزيق العهود الماضية؛ إنما أحبك بكل مشاعره الصادقة، وأغدق عليك من فيوض عشقه وهُيامه وحنانه، فلا تلقِ به في مهاوي الردى، وأصلح ما أفسده الدهر؛ فلن تجد لمن أحبك بديلا ولا مثيلا.
أيها المحبون رفقا بمن تحبون؛ فقد أخلصوا لكم وأعطوكم وما حرموكم، وصدقوكم وما كذبوكم، واحتضنوكم وما أهملوكم.
وفي الأخير أقول:
إذا عاد إليك حبيبك مادًّا يديه نادما ٱسفا معتذرا صادقا فلا تردنّها خائبة؛ فلربما كانت زلّةً وذهبت من حيث جاءت، فلا تهدم بها صروح الحب التي شيّدتها مع من تحب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى