أدب

المسرحية.. تطور وتاريخ

د. محمد عبدالعظيم حبيب

دكتوراة في الأدب والنقد

يعد اليونان هم أسبق الأمم فى النهوض بالمسرح، ثم جاء من بعدهم الرومان، فلم يحيدوا عن القواعد التىأرساها اليونان إلى أن أحيا الأوربيون فى عصور النهضة تراث اليونان والرومان مرة أخرى.فالمسرحية تطورت فى العصر الحديث بتأثير الجمهور المشاهد لها وما أصاب الحياة الغربية من تطور واسع. وقد ظلت مع هذا التطور تحتفظ بقيود شديدة، سواء من حيث اختيار الموضوع والأشخاص والحوار الذى تدور فيه أو من حيث البناء العام وما ينبغى أن ينقسم إليه من عرض وعقدة وحل ، أما العرض فتقدم فيه أشخاص المسرحية وتتعقد الأحداث، ويبلغ الصراع ذروته، ثم يكون الحل.

    ويعد اختيار الموضوع أول خطوة لنجاح المسرحية، ويجب الابتعاد عن الموضوعات الوصفية التي لا تصلح للمسرح، وإنما تصلح للقصة. والمسرحية الناجحة يجب أن تراعى الطبيعة النفسية والاجتماعية للأفراد مستعينة بالخيال لمحاكاة الواقع المعيش ومن هنا تكمن صعوبة المسرحية فى كونها تسبر أغوار النفس البشرية ولا تكتفى بالمعالجات السطحية. والصراع فى المسرحية قد تطور من صراع الإنسان مع القدر والقوى الغيبية إلى صراعه مع العناصر الاجتماعية، والنفسية، والعقلية .

     والكاتب المسرحى يقدم من خلال المجتمع  صورا معنوية للجنس البشرى، صورا يستعين فى رسمها بالتحليل النفسى العميق للإنسان، وما يواجهه من مشاكل الحياة وهدفه أن يسوى الصورة التى يأخذ مادتها من مجتمعه على أتم ما يكون من السعة والعمق فى تصوير الطبائع البشرية. والمسرحية لم يعرفها الأدب العربى قبل الحملة الفرنسية إلا أنها لم تؤثر فى العرب عامة والمصريين خاصة إلا زمن إسماعيل حينما أنشئت دار الأوبرا، وظهر يعقوب صنوعفى تلك الفترة، فأعجب المصريون بما يقدمه من فن هزلى اقترن بنقد سلبيات المجتمع. ولم يكن يمثل باللغة العربية الفصحى، وإنما باللغة بالعامية المصرية الدارجة، فمسرحياته وتمثيلياته يخرجان عن دائرة الأدب العربى الحديث.

     ثم جاءت فرق مسرحية شامية؛ فأنشأت مسارح خاصة بها، ومثلت الروايات الأجنبية وخاصة الفرنسية التى مثلت بأسماء مصرية لإرضاء الجمهور المصرى، واشترك المصريون فى هذه الفرق إلى أن ظهرت فرق لمصريين أمثال فرقة سلامة حجازى وفرقة عزيز عيد ثم جاء القرن العشرين، فظهر جورج أبيض الذى درس التمثيل فى باريس، وكون هو الآخر فرقة باسمه ثم انضم إلى سلامة حجازى وكونا فرقة مسرحية. ويظهر نجيب الريحانى باستعراضاته الغنائية والهزلية ويبتكر شخصية كشكش بك عمدة كفر البلاص، ويؤلف  مع عزيز عيد فرقة تعنى بالغناء القصيرة (الأوبرا) وكانت هذه الفرق جميعا تعتمد على ما يترجم ويمصّر لها من تمثيليات وأغانى غربية. وهناك رواد لفن الكتابة المسرحية هم: فرح أنطون، وإبراهيم رمزى ، ومحمود تيمور .

فهذا فرح أنطون الذى ألف مسرحية مصر الجديدة ومصرالقديمةالتى انتقد فيها المجتمع الذى تسرب إليه مساوئ الحضارة الغربية، وهى ضعيفة البناء المسرحى، وألف بعد ذلك مسرحية السلطان صلاح الدين ومملكة أور شليم ،وهى قوية البناء المسرحى، وفيها صور فرح أنطون الصراع بين الشرق العربىالإسلامى الشجاع والغرب الاستعمارى الماكر. وهذا إبراهيم رمزى الذى ألف مسرحية أبطال المنصورة ،والتى تعد أفضل مسرحياته ـ فىرأيى ـ صور فيها البطولة المصرية إبان الحملات الصليبية . وهذا محمود تيمور الذى راعى فى مسرحياته الأربعة: العشرة الطيبة، وعبدالستار أفندى، والهاوية، والعصفور فى القفص قواعد الفن المسرحى إلا أنه كتبها بالعامية ثم نقل من العامية إلى الفصحى بعض مسرحياته وأنشأ أخرى باللغة الفصيحة من بداية كتابتها.

     ومسرحية حفلة شاى تصور نمطا شخصيا، وهو حب الظهور، ومسرحيته المنقذة تصور الصراع بين الاعتراف بالجميل وإنكاره، وهذه ـ فىرأيى ـ مشكلات نفسية فى المقام الأول حاول محمود تيمور إبرازها فى مسرحياته. وتمتلئ مسرحياته أيضا  بالتحليلالنفسى وبالصراع بين العقل والغريزة وبالعقد الباطنة، وبالتالي نجد اضطرابا في شخصياته المسرحية، فلها ظاهرها فى سلوكها، ووراء هذا الظاهر باطن خفى يختلف عن الظاهر. وهذا توفيق الحكيم الذى تعمق بقراءة المآسى الإغريقية التى تستمد من الأساطير والصراعات بين الإنسان والقوى الإلهية ، فعمد إلى  تطبيق ذلك فى أسطورة إسلامية عرضت لها الروايات المسيحية ، وهى قصة أهل الكهف الذى أشير إليها فى القرآن الكريم، وهم سبعة أشخاص ماتوا فى الكهف ما يزيد عن ثلاثمائة سنة، ثم بعثوا، وعادوا إلى الموت بعد أن ظهرت معجزتهم الخارقة، إلا أن توفيق الحكيم جعلهم يستأنفون الحياة ، وجعل لهم مغامرات بناها على صراع عنيف بين الإنسان والزمن، فقد كان كل شىء معدا ليعيشوا معيشة سعيدة، ولكن حائلا يحول بينهم وبين هذه المعيشة، هو الحقيقة التى تصطرع مع الواقع. وظهرت شخصية توفيق الحكيم فى هذه المسرحية رغم تأثره بالأدب الإغريقى ، فقد أخضعها لروح الإنسان الشرقى المتأثر بالقوى الدينية عامة والصوفية خاصة .

     ويظهر فى المسرحية الثانية له شهرزاد صراع الإنسان مع المكان فشهريار قد استنفد فى صاحبته كل ما أراد من متاع ولذة، وتحول قلقا ظامئا يريد معرفة الكون وأسراره . وهنا يبدأ الصراع العنيف بين الإنسان الشقى بقصور فهمه وبين حقائق العالم وأسراره . ويحاول شهريار أن يرحل عن واقعه ومكانه ناشدا للمعرفة، ولكن لا يلبث أن يعود ، فهو لا يستطيع فرار.  فالإنسان فى جميع أطواره لن يستطيع التخلص من مكانه وزمانه والقوى الغيبية، وخير له أن يعتصم بالقيم الروحية ويتخلص من القيم المادية التى أوجدها العقل الغربى. لذا كشفت شهرزاد لزوجها عن معارف فجعلته مشتاقا للمعرفة، ولم يعد يهتم بقيم الجسد،  فقد تحول عقلا خالصا يبحث عن الألغاز والأسرار فكأنه يريد أن ينطلق من قيود المكان لعله يطلع على مصادر الأشياء وغاياتها ، ويعرف كنهها وحقائقها. ويفهم من ذلك أنه أعلى من قيمة العقل بعد أن هاجم العقل ووصفه بالمغرور فى مسرحية سليمان الحكيم، مثله فى هذه المسرحية فى الجن الواهم بطلاقة قدرته، وهاجمه فى مسرحية أوديب ملكا، فهو يحب البحث عن الحقيقة وتصدمه هذه الحقيقة التى قضت على أوديب وأمه .

    أما مسرحيات شوقى الشعرية فهى ضعيفة من حيث التمثيل؛ لأنه كتبها بروح غنائية ومع هذا لا نستطيع أن ننكر أنه درس المأساة الغربية، وأنه حاول جاهدا أن يثبت قدرته على محاكاتها وتقليدها. قسم شوقى مآسيه على الأسلوب الغربى ،فهى تعتمد على الفصول التى تقسم إلى مناظر ومشاهد، تبدأ بفصل للصراع حتى تظهر العقدة ثم الحل . ويبدو تأثره بالمسرح الفرنسىالكلاسيكى، فمآسيه  تخلو من تمثيل الحوادث على المسرح فالحرب بين أنطونيو وأكتافيوس ، وبين قمبيز والمصريين، وبين على بك الكبير ومحمد بك أبى الدهب ، لا نشاهدها على المسرح، إنما نعرف ذلك من كلام الممثلين . وهذا لا يعنى تبعية مطلقة للمسرح الكلاسيكى، فقد استقل عنه، فلم يتقيد بوحدة الزمان، ووحدة المكان، ووحدة الموضوع . جارى شكسبير فى إدخال عنصر الفكاهة إلا أنه لم يبالغ فىذلك . أما عن مسرحية مصرع كليوباترا فعارض فيها شكسبير فى مسرحية أنطونىوكليوباتر محاولا إثبات قدرته فى الشعر التمثيلى بجانب الشعر الغنائى .

وقد خالف التاريخ مخالفة صريحة عند الحديث عن فرار الأسطول المصرىفى معركة أكتيوم ، واعتبر ذلك سياسة ومكرا لتصبح مصر سيدة البحر المتوسط ، وهذا لم يثبت تاريخيا. واستمرت مخالفة شوقى للتاريخ فى مسرحية قمبيز، وهذا ما دفع العقاد لمهاجمته ، والعقاد محق فى هذا الأمر، فشوقى لم يدرس تاريخ مصر فى هذه الفترة ولا تاريخ  قمبيز.ولا ألتمس له العذر في ذلك؛ لأنه لا ينبغى أن يخرج المبدع عن التاريخ المعروف خروجا ملحوظا حتى لا يضعف ذلك من صدقية العمل فى نظر المتلقى. أما عن مسرحية على بك الكبير فهى جيدة من حيث التصميم ،ومن حيث تداخل نوعى الصراع اللذين امتدا فيها ، فقد استمرا متشابكين ومتصلين اتصالا منطقيا. وفى هذه المسرحية أرضى شوقى العواطف الوطنية والإسلامية والعربية فى أكثر من موضع  وربما كانت هذه العواطف أهم الأسباب فى ضعف المسرحية، فهى على الرغم من أنه تتفوق على قمبيزفى البناء المسرحى نراها تقصر عنها فى البناء العاطفى ، إذ جعلها شوقى فوضى بين عواطف مختلفة. وبذلك لم يستطع أن يجلو علينا شخصية على بك الكبير فى القوة التى كان ينبغى أن تعرض بها.

وشوقىفي هذه المسرحية قد صور على بك الكبير تصورين متناقضين، فهو نبيل يرفض أن يسترق زوجته، فأعتقها وعقد عليها حرة كريمة، وعفا عن المصرى الذى حاول قتله بتدبير من محمد أبى الدهب، ولا يأتمر بأمر الروس. بينما هو بهذا الخلق الفاضل العالى كما يقول شوقى نفسه نراه يجرى على لسانه وهو مجروح :

صَيَّرْتُ حَرْبَ الترك وَجْهَ سياستى

حتى اقتنيتُ عداوةَ الأقوامِ

وكفَرْتُ إِحسان الذين خدمتهم

حتى تجرَّأ خادمىوغلامى

وعند النظر للبيتين السابقين يتضح أنه قد طعنه فى أخلاقه فهو قد حاز عداوة الناس ، وكفر بإحسان الترك . والموقف المضطرب يرجع إلى أنه ألف المسرحية مرتين الأولى كان فى باريس أيام  دراسته فى فرنسا؛ فأظهره بالغدر والخيانة لما كان شوقى يظهره من انحياز لحكم الأتراك ومن يمثلهم فى مصر . ثم أعاد تأليفها قبل وفاته بسنوات قليلة فأظهره وطنيا ؛ لإرضاء الجماهير، ولم ينتبه إلى ذلك الخلط .

ويظهر تأثر شوقى بالشعر العذرىفى مسرحية مجنون ليلى ، فقد تأثر بأساليب العذريين وعواطفهم ، وهذه المسرحية  خير مسرحياته تجد فيهااستعدادا للغناء والموسيقى .

أما عن مسرحية عنترة فهى من أهم أسباب عودة التيار الغنائى إلى التدفق  فعنترة شاعر ، وشوقىفى شعره الغنائى اشتهر بمعارضته للشعراء القدماء شأن الشعراء الإحيائيين والكلاسيكيين، وظهرت هذه المعارضة أيضا فى الشعر المسرحى، فعارض شكسبير فى مسرحيته مصرع كليوباترا، وعارض العذريين فى مسرحية مجنون ليلى . وتعد مسرحية أميرة الأندلس آخر مسرحياته، تحول فيها إلى النثر فقد تأثربحملات بعض النقاد عليه وأنه لا يحسن سوى الشعر الغنائى .

أخطأ شوقى حين عدل عن الشعر إلى النثر ،فشوقى لم يخلق إلا ليكون شاعرا. وقد نجح شوقى فى التخلص من التراخىفى الحوار والفتور فى الحركة فى مسرحية الست هدى نظرا لكونها نثرا وملهاة، والبناء التمثيلى للملهاة ليس فيه اضطراب، وأحدث شوقى محاولات فىالمسرح، عاب عليه بعض النقاد نقص ثقافته المسرحية، ولو أنه درس المسرح اليونانى ثم درس المسرح الغربى الحديث وما أصابه من تطورات مختلفة لخرج عمله أدنى إلى الكمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى