سيمياء المعنى الموازي في قصص صلاح زنكَنه

أ.م.د. عمر رعد أسعد
ناقد وأكاديمي عراقي
احتفت نصوص صلاح زنكَنه القصصية بتشكيل المعنى بإطار سيميائي يحال عليه من معنى آخر, أو من معنى موازي ينبثق من المعنى الأول الذي يشكّل بوصفه علامة موزاية دالة, إذ جعل من النّص أفقا ينفسح نحو محايثاث تأخذ مساحة في الإجراء التحليلي وتستدعي حضور السيمياء لاستجلاء المعنى وتأويل أبعاده, لأنّ النص يقوم بصناعة المعنى بناءً على معطياتها المضمونيّة التي تتظافر مدلولاتها باشتغالاتإحاليّة تؤسسها العلامات السيميائيّة, فالنّص شبكة علاقات تنتظم فيما بأسس بنيوية يعد التعرّف إليها شرطا لمعرفة معنى النّص, وهذا الاستدلال لا يجعل للمعنى وجودا تحيزّيا لكون دلالي محدّد, إنّما يمكن للمعنى أن يقيم مسارا دلاليّا جديدا (اشتغاليّا) يحفل بتوالدات موازيّة قائمة على إضاءات تشكّلها المدلولات داخل السيرورات السّردية للأحداث, فقصة (عام الخروف) تتأطّر ببعد سيميائي للحدّ الذي يكون حدث القصة وشخصياتها وحتى الزّمن مستدعى لتشكيل فضاء توالديٍ ينسج عوالم الصّراع بين (الضحية) التي تجسّدها شخصية الخِراف,فتحيل على دلائليّة السّلام والبراءة, وفي مواجهة الآخر القمعي الذي يبرز بصور الوحشيّة في السلوك الإنساني, لترسم القصة حدثا مفتوحا لسيرورة الفعل وردّة الفعل ومقاربته السرديّة بوساطة الحيوانات بوصفها عناصر حكي ودوالّا سيميائية, لنقرأ: ((البشر الأقوياء المتحضرون يتفاخرون بـأنّهم أرقى الكائنات ولا يتوانون في استغلال واضطهاد وافتراس الكائنات المسالمة مثل الخراف والدجاج والأرانب))، فالصّراع قائم وصفية الهيمنة الكوني, والقاص يحيل السرد إلى نمطيّة التّشكيل المؤشّري الذي يجعل الشخصياتتمارس وظائف مرجعيّة ترتبط بتصدير الثقافة الخاصة إلى الآخر غي ضوء الاستشعار بالفوقيّة، فيلاحظ أنّ الطرف المستلَب يرتبطبدلائليّة الحيوانات الدّاجنة التي تستسلم بفطرتها التّكوينية إلى ذلك القمعوي, وبقدر ما يكون النّص مستجلباً للمعنى الممكن والمتحقّق ويدرك المتلقي أبعاده السّيميائيّة, يأخذنا إلى ما يمكن تسميته (الوقفة البؤريّة) التي تجعلنا نستوقف التعاطي مع الفكرة والاستمرار ومضمونها بوصفها الدالّ التحويلي الممكّن من المسك بالمعنى الجديد (الاكتسابي), أو المعنى الموازي الذي تشخّصه المدلولات النصّيةثم تصرف إلى المدلولات القصديّة التي يورايها القاص؛ لينصرف إليها الذهن بوصفها قيمة إحالية ترسم شكلا سيميائيا للواقع, يذكر:((هذا طبع الخرفان منذ الخليقة,، لا تعرف أن تحتجّ وهي راضية مرضيّة بمصيرها المحتوم, لكن الذي حدث سنة 2022 الذي سمي بعام الخروف أرعبهم وجعلهم في حيرة من أمرهم))، فعنصر الدّهشة يناط بممارسة سرديّة (سيميائية)، تجعل المعنى قائما على نسقية التدالّ التحولي, أي في التّموقع الوصفي لقطبي الصّراع, لتبرز الخراف شخصيّة رمزيّة منظورا إليها بالدّموية والتسلط والعداء على غير عادتها, يقول:((الخراف وجدت بني جلدتها ينحرون يوميّا زرافات في الشوارع والمدارس والمساجد والكنائس في المقاهي والملاهي والمستشفيات في الورش والمعامل والمعاقل في الحدائق والفنادق والخنادق في البيوتات والقصور والأكواخ في المراكز والمحطات والجراحات وهم يغنون ويرقصون طربا ويردّدون كلمات مثل الببغاوات…)), فالقاص يجعل من عنصر الدّهشة موقوما معرفيّا يتضامن وما يريد أن يثبته بأنّ الواقع متضامن مع الثقافة المهيمنة التي يمارسها المتسلّط الذي صار ينتمي إليه الجميع, حتى مَن لا يشار إليه بالعدائية, لأنّه عنصر تضامني, وهذا التكوّن يجعل النّص القصصي عند زنكَنه (تشكّل عميق), فبقدر ما يريد مغادرة المدلول للمعنى التّحييني (السّردي) إلى المعنى الواقعي الذي يقصده, يحُكم الدّلالة بمدلول (الزّرافات) وهي الطرف الثالث الذي يتوسّط الخراف الهائجة –بلغة السرد- والبشر القمعي, وهي وإن كانت وجود يمتد من جهة الرّؤية الثقافية إلى المتبوع القمعي, بحيث جعلت الخراف تثور عليها, لكنها شوّهت صورة السّلام حين فتكت بهؤلاء المسالمون, ودلائليّة الزرافات تحيل على التنوّع العرقي والمعرفي, فهم لا يعنيهم ذلك الصّراع ولا تلك الدمويّة التي يسعى الطرفان في ضوئها حيازة المنفعة الذّاتية؛ ليتبدّى في السّرد وجهة سيميائيّة الوقفة التي تجسّد إحالة المعنى إلى الهيمنة التوارثيّة, التي يتلقّاها الواقع الذي يعيشه, وكأنّه يجعل لها دلائليّة توالديّة ومعنى شموليّا ومسارا وصفيّاً (مرمّزا) يعبّر عنه بحذر, لكنّه في عوالم السّرد صوتاً مرتفعاً وموقفا تبئيريّا لسرد الواقع وصراعات الهمينة, وإن كان بالفتك والدّموية والإغارة…, ما يعني أنّ سيميائيّة المعنى معنيّة برسم الهويّة, الهويّة الواقعيّة, الهويّة التكوينيّة, فضلاً عن رسمها حالات النّفس والتّفكير الذاتي والجمعي؛ فالمعنى السيميائي يتشكّل بوساطة مدلولات تمهيدية, تبدأ بطرح إشارية الدلائل بعلاقة مرمّزة, أي علاقة السلوك الذاتي بتجليّاته المرجعيّة التي تستمدّها من الثقافة التي توسم بها المجتمعات, وهي تتنافس على حيازة المكاسب, ليتبدّى في حدث القصّة شخصية الإنسان الإشكالي, وهذه الإشكاليّة تتلخّص في عمليّة تشكّل الهويّة الذّاتية في ضوء السّرد القائم على توظيف طبيعة الحيوانات بوصفها رموزا دالّة, وتمثّلات مقصودة تشخّص الموضوع السرّدي وتعيّن مضمونه السّيميائي, ما يعني أنّ السّرد صار تشفيراً تعاقيبّاً يضمّن وشائج مرجعيّة تنفسح على مدلول نسقي, يسهم بإنتاج المعنى السّوسيوثقافي في نموذجي: السّلطة وطلّابها من جهة, والطرف المحايد من جهة أخرى.
تقوم الإجرائيّة السّيميائيّة بطرح تساؤلات حول المعنى, المعنى الذي يمكن أن تبوح به الدلائل في النص السّردي, وهي بذلك تحيط تلك الدّلائل بمقومات اشتغاليّة في فضاء العلامات الدّالة واشتغالها خطّابا سننيّا, وهو ما يمكن أنّ يرتبط بمفهوم المعنى والمعنى الموزاي, ليصبح تشكيل المعنىعبارة عن مقاربات يحدثها القارئ واستفراغ قدراته التّأويليّة ضمن قاعدة بيانات معرفيّة خاصّة تقف عندماوراء المعنى الآني, فقصة (الخنزير) تجسد التحوّلات السّلوكية والقيم الإنسانيّة في تجارب الشّخصيات في الحياة, إذ يضعنا القاص أمام علامات تحيل على مواقف تجعلنا أمام معايشة أحداثها عبر المؤشّر الفاعل, إذ تضعنا دلائلية (السوط – العكازة), صوب تحوّلات الشخصيّات وتعيد إلى الذّاكرة ممارسات استهلكها الزمن فصارت في مواجهة الواقع, والسّرد يوّجه التحوّل الاستدلالي بإفادة من العلامة المركزيّة (اليد), فهي التي تمسك العكازة اايوم وهي التي حملت السوط من قبل, فمدلولها الآني يحيل على الشّيخوخة والضّعف، وهو المدلول الذي كابده كلّ مَن وقع في يد هذا السجّان الذي كان يقهر بسوطه البسطاء والضعفاء الذين كانوا تحت قهره سوطه, كما قهره الزمن وشاخت يده فصار تحمل العكازة, فقد وصفه حين رآه: ((ما كنت يده تخطئ أو تزل أو ترحم وهي تهوي بالسوط أو بالهرواة أو بالسلسلة الحديدية على جسمي… بقامته المدية وعضلاته المفتولة يتوعدني دوما)), وهذه الدلائلية تجعل السرد القصصي يتنامى بطريقة استدعائية تقابلية, وتجعل الأحدث متوازية بأبعادها ومتعلقاتها, لكنّها مرتبطة عكسيّا بتنائجها ومقدمتها, فالمؤشّر المشاهد بصريّا (العكازة), هو مؤثّر استعادي للمدلول القابع في الذهن في مؤشّر (السّوط), إلّا أن اليد بوصفها مركز العلامتين فقد جسّدت المعنى الموازي, وإنّ كلا العلامتين أنتجت فعلا إدراكيّاً تبعا للقيمة التي يبرزها المؤشر الدّال, جاء على لسان الرّاوي العليم: ((كنت أتمنى أن أراك وأنت أجسن حالا وأكثر حيوية كي أقتص منك)), وهذا الاستنتاج يجعل العلاقة بين الدّال والمدلول قائمة على مخرجات المناسبة الظرفيّة, وأنّ تحصيلها النّتائجي مندمج في الرّوابط الإنسانية والقيم الاجتماعية التي تتكوّن في ذات الشّخص فتثير في نفسه قيمة إنسانية معيّنة, مما جعلته يتجاوز شعور الانتقام إلى الرّأفة والصّفح, لأنّ العلامة دالّة لكنها غير فاعلة, وقد أطلق سوسير على هذا النّمط التّحصيل بـ(الاعتباطية الجذريّة أو المطلَقة), وذلك عندما تكون إنتاجية المعنى بين الدال والمدلول تخضع إلى تقسيم اعتباطي للمادة السيميائية أو العلامات المتجسد في الأفكار اللحظية والاستدعائيّة, وقد لاحظنا كيف تعود الشخصية المستلبة إلى الماضي وتسترجع الأحداث وربطها بالقيمة التحصلية, ثمّتأكيد قيمة العلامة المستعادة (السوط)بخطاب الهيمنة والتسلط على الإنسانية, مما جعل هذا البعد ينعكس قيما للحالة المشاهدة فتثير فيه (العكازة) معاني الاستعطاف عبر ذات اليد, لتشكّل المعنى الموازي (العكسب) باشتغال يحيل على التأمل والبحث في المعنى.