الذين يزرعون الحياة وسط الركام

مجدولين الجرماني| كاتبة سورية
في بلاد الحرب، يصبح الموت أكثر حضورًا من الحياة. لا يأتي على هيئة صدمة، بل كروتينٍ يومي، مألوف ومُرهق في آنٍ معًا. في سوريا، كما في فلسطين، واليمن، والسودان، لم يعد السؤال: “من مات؟” بل: “كم ماتوا اليوم؟”.
إن موتًا بهذا التكرار، لا يُفقد الحياة معناها فقط، بل يُفقد الموت هيبته. ففي السنوات الأخيرة، تحوّل الغياب إلى عادة. صار الناس يودّعون أبناءهم بلا يقين، يدفنون أحبّاءهم بلا عدالة، ويواصلون العيش فوق ركام الوطن، كمن يسير على أطلال ذاته.
في سوريا، على وجه الخصوص، الموت ليس لحظة انفجار فحسب، بل زمنٌ طويل من الاختناق. من لم يمت بالقصف، مات على الحواجز، أو في السجون، أو في طوابير الخبز، أو من الحنين إلى منفى قاسٍ. المشهد ذاته يتكرر في اليمن حيث الجوع والقصف وجهان لعملة واحدة، وفي السودان حيث الموت يتسلل من فوهة بندقية أو من شقوق النهر، وفي فلسطين حيث كل بيتٍ يحتفظ باسم شهيد.
مشكلة الموت في بلادنا أنه بلا معنى سياسي، بلا محاسبة، بلا ذاكرة رسمية. يتحوّل الإنسان إلى رقم، تُحصيه التقارير، ثم يُنسى. تُهدم البيوت ولا يُعاد بناؤها، تُقتلع العائلات من جذورها ولا أحد يسأل: من المسؤول؟ من يحاسب؟ من يعتذر؟
ومع ذلك، هناك من يكتب، من يوثق، من يبكي علنًا، من يزرع زهرة على قبر لا اسم عليه. هؤلاء لا يصنعون نهاية الموت، لكنهم يؤكدون أن الإنسان، حتى وسط الردم، قادر على أن يُعلن الحياة.
إن ما يحدث في بلاد الحرب ليس قدرًا، بل نتيجة خيارات بشرية، لحكومات، وميليشيات، وقوى دولية قرّرت أن الجغرافيا أغلى من الإنسان. والردّ على هذا الجنون لا يكون بالصمت، بل بالتسمية. أن نُسمي المأساة بأسمائها، أن نرفض تطبيع الموت، وأن نتشبث بفكرة أن حياةً واحدة، بريئة، تستحق كل الصخب.