مقال

اغتيالات طهران النووية: من إرادة رب يشوع إلى قدرات الذكاء الاصطناعي

د. إبراهيم محمد الزنداني | اليمن*

منذ أن تشكّلت المرويات التوراتية بوصفها نواة لهوية قومية وأداة لإنتاج ذاكرة جمعية، تحوّلت القداسة من تجربة روحية إلى تقنية وظيفية للهيمنة واغتصاب الحقوق وسفك الدماء، حيث لم يكن النص مجرد سجل للوصايا بل مشروعا لإعادة ترسيم الجغرافيا وضبط المعنى من خلال آليات العنف المشرعن، فالهدم لم يكن فعلا اضطراريا، بل طقسا ضروريا، وكل روح تُباد أو مدينة تُحرق تُقدَّم قربانا للعهد الإلهي. وهكذا تماهت الإبادة مع الطاعة واختزلت الأخلاق في مدى التزامها بحدود الأرض الموعودة، فغدت الحرب امتدادا للقداسة المضمّخة لا نقيضا لها.

ينساب هذا التلازم في سفر التثنية 20 17-16: حيث يتجلى الأمر الإلهي بإبادة كل ما يدب في المدن المحتلة. هذا اللاهوت العنيف جسده بنو إسرائيل بقيادة ” يشوع بن نون ” الذي قدمه سفر يشوع 8-6 كأول مبتكر لأدوات التجسس والحروب النفسية، فمن خلال راحاب الزانية تجسس على مدن كنعان ” أريحا وعاي ” ثم فرض حصارا عليها وطاف حول أسوارها مع جحافله سبعة أيام كطقس تعبوي نفسي قبل أن يجتاحها ويحرقها تاركا إياها تلالا أبدية بعد أن أجهز على كل حي فيها.

 

وفيما يؤصل سفر التكوين: 34 لتحويل الطقوس الدينية إلى أسلحة انتقامية (ختان أهل شكيم شرطا للصلح كان خديعة حاكها أبناء يعقوب للانقضاض عليهم في لحظة ضعف)، فإن سفر صموئيل الثاني 3:27 يجيز تحويل المفاوضات ومواثيق الأمان في أماكن الحياد – كبوابة حبرون – إلى فخاخ غدر كما فعل ” يؤاب ” قائد جيش الملك ” داوود ” بـ ” أبنير بن نير ” تحت ستار المصالحة وضمان الولاء، مبررا الغدر وصمت ” داوود ” بالمشيئة الإلهية. 

يعيد صموئيل الثاني 8:4 تدوير المشهد في اغتيال ” إيشبوشث بن شاول ” الوريث الشرعي لعرش إسرائيل، حين تسلل ” بعنة وريكاب ” إلى مخدعه بذريعة تسليم القمح واغتالاه في لحظة ثقة عمياء. المفارقة هنا أن النص أيد ما عوقبوا به، مشيرا إلى أن شرعية داوود لا تبنى على الخيانة من الداخل بل على انتظار الإذن الإلهي، حتى وإن استخدم العنف نفسه والأسباب ذاتها.

الهدايا رمز الصداقة والثقة في سفر القضاة 3: 16-23 تحوّلت إلى أداة لقتل ملك ” مؤاب”، فكان خنجر ” أيهود ” لغة للسر، والقتل حوارا مضمرا بين النبي والملك، والخيانة ضربا من ضروب العبادة.

وعلى ذات المنوال، تنتقل سرديات التأسيس إلى نماذج تأصيل، إذ يتجلى في زمن الاحتلال الروماني نمط جديد من القتل، أكثر خفة وتخفيا، حينها حوّل “السيكاري” الأسواق إلى ساحات طقسية للموت، فاختبأ الخنجر تحت عباءة الزحام، وكأن القداسة انتقلت من المعبد إلى الشارع، ومن الكهنة إلى المتطرفين.

ثم جاء التلمود ليصوغ لهذا المسار شرعية جديدة “من يهدد حياتك قم بقتله أولا “سانهدرين  أ 72  ، جاعلا من القتل الاستباقي واجبا دينيا، لا خيارا ظرفيا، والخنجر نصا مقدسا مكتوبا على جسد الضحية، ويعاد تعريف الفضيلة لا كقيمة أخلاقية بل كإرادة بقاء تستمد مشروعيتها من ذاكرة مملوءة بالخوف والتاريخ.

هذا النهج لا يزال حاضرًا حتى اللحظة في سياسات العزل والتطويق والتجويع، حيث يستمر الكيان الصهيوني الذي تأسس على تلك الذاكرة التوراتية في تكرار ذات البنية تحت عناوين محدثة، وفي عصر الثورة الصناعية الرابعة أعادت التكنولوجيا الإسرائيلية الحديثة هندسة ذلك المنطق اللاهوتي العنيف وأضفت عليه هالة من الحتمية العلمية والكفاءة الباردة. فدماء الضحايا التي تجري في شعاب الوعد الإلهي لم تجف بل تسربت إلى دوائر إلكترونية تُمَأسِسُ العنف وتُقدِّسه من جديد ليصبح الضغط على زر القتل طقسا يربط بين الماضي البغيض والحاضر المدجج بأسلحة لا ترحم، وكأن الجغرافيا المقدسة صارت سيرفراً ضخماً تُخزّن فيه أوامر الإفناء وتُعاد مع كل تحديث للبرامج الحربية.

لقد تجسدت الخناجر المخبأة تحت الثياب في طائرات مسيّرة تخطف الأرواح من علو، واستبدلت قدرة رب يشوع التي هزت أسوار أريحا بقدرات الذكاء الاصطناعي التي تخترق الفضاء الإلكتروني، والبرمجيات الخبيثة التي تطوّق الأجساد والبيانات معا، ولقد بات التجسس الذي ابتكره يشوع نظاما شاملا للتنصت على الاتصالات وتتبع المستهدفين عبر الأقمار الصناعية، أما الطواف حول المدن فقد تحول إلى مراقبة ليل نهار بالطائرات المسيرة وبأنظمة التعرف البيومتري وكأن التكنولوجيا أعادت إنتاج الطقس التعبدي للحصار بصيغة رقمية لا تكل ولا تمل.

حتى الخديعة المقدسة التي نسجها أبناء يعقوب تجد تمظهرها المعاصر في حرب المعلومات، فمن خلال انتزاع الخصوصية يتم تعطيل الخصم نفسيا ومعرفيا قبل ضربه تماما كما أُضعف أهل شكيم جسديا قبل إبادتهم.

أما فلسفة القتل الاستباقي التي صاغها التلمود فقد تجسدت في خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تتنبأ بـ التهديدات وتحدد الأهداف للاغتيال قبل أن تتحرك، محولة قاعدة من يهدد حياتك فاقتله أولا إلى معادلة رياضية تبرر إزهاق الأرواح بمجرد اشتباه آلي. هنا يتحول الخنجر المقدس الذي حمله أيهود تحت عباءته إلى صاروخ موجه يُطلق عن بعد، وتُختزل حياة الإنسان في نقاط بيانات قابلة للمحو الفوري، بينما تُقدَّم الضربة كفعل طقسي لا يختلف عن ذبائح سفر التثنية إلا في دقة إصابة الهدف.

بالعودة إلى حرب يونيو 2025م التي استمرت لمدة أسبوعين تكبد فيها الكيان الصهيوني خسائر فادحة ماديا ومعنويا في سابقة لم يرى لها مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية. إلا أنه وفي قلب تلك المعمعة طفى على السطح سيناريو من ضمن سيناريوهات معقدة لم يتم تناولها إعلاميا كما يجب، وذلك حين شهدت طهران في فجر الثالث عشر من يونيو 2025م انفجارات متزامنة أودت بحياة تسعة من أبرز العقول النووية الإيرانية، ولتكريس رمزية مركبة أطلق على العملية اسم ” نارنيا ” تيمنا بعوالم سي. إس. لويس. المتخيلة، وكأنها تورية إنجيلية أضيفت إلى سلسلة المرويات التوراتية بغرض هندسة وعي الحليف الغربي.

يحكي السيناريو عن وقوع طهران وعلمائها في فخ رقمي متقن النسج جهز مسبقا في مختبرات سيبرانية متقدمة في إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، فالوثيقة الرقمية ” ملف pdf ” التي احتفى بها الإعلام الإيراني كإنجاز استخباراتي قيل أنها احتوت على معلومات حساسة عن مفاعل ديمونة الإسرائيلي ربما تحولت عمليا إلى حصان طروادة رقمي ووسيط آلي للموت، إذ تشير التحليلات أن برمجيات خبيثة متقدمة قد تكون مكنت من تحديد مواقع العلماء واغتيالهم بعد أن وصل إلى أجهزتهم الملف عبر أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي كان أرسله المعنيون في النظام المؤسسي الإيراني بهدف تقييمه.

ما يؤيد هذا السيناريو وقائع دونتها دراسات ووثقتها تقارير مراكز بحثية عالمية متخصصة، فمن أوكرانيا التي استهدفت أنظمة الطاقة فيها ببرمجيات خبيثة حيث تنشط الشيفرة بعد فتح الملف لتسقط جدران الحماية وتسرق بيانات الوصول الحيوية، إلى تقارير UNIDIR التي وثقت هجمات سلسلة التوريد الرقمية في آسيا، ومرورا بالبرازيل والأرجنتين اللاتي رصدتا محاولات مشابهة في ميدان الحرب التجارية بواسطة ملفات Exel و AutoCAD تحمل برامج تجسس مخصصة لاستهداف خبراء صناعيين في شركات الطاقة النووية، ووصولا دراسات في جامعة شنغهاي حذر فيها علماء صينيين من فتح وثائق مشبوهة بعد رصد أنماط متطابقة في هجمات سيبرانية استهدفت برامجهم الصاروخية، ولعل ما سبق يؤكد أن البنية المفاهيمية لهذه الهجمات تتكرر في مساحات جغرافية مختلفة وإن اختلفت الأهداف، غير أن القاسم المشترك هو توغل برمجيات التجسس في الأنظمة المعلوماتية محولة كاميرات الأجهزة وأدوات التسجيل واتصال الأجهزة بالشبكات إلى عيون للمهاجم ترصد تحركات ضحاياه ونقاشاتهم السرية تمهيدا للفتك بهم. 

في هذا السياق، تحدث الرئيس الفنزويلي ” نيكولاس مادورو موروس ” خلال برنامجه الأسبوعي عن أن التطبيق الشهير ” واتس أب ” لم يعد برنامجا للمحادثات والتواصل بل وسيط اغتيال رقمي يستخدم للتجسس والقتل، وأنه استخدم لقتل الشعب الفلسطيني ولاغتيال العلماء في إيران.

إن صحت هذه الفرضية، فإن الخطر الأعمق هنا ليس في التكنولوجيا بل في العقل البشري الذي يتعامل معها. إذ أن التحكم في المعرفة لا يعني بالضرورة التحكم في نتائجها، وهذا الفارق هو ما أوقع الأجهزة الإيرانية ربما في الفخ، حيث جرى الخلط بين امتلاك المعلومة والقدرة على إدارتها بوعي استراتيجي.

ومن هذا المنطلق فإن التحدي لم يعد تقنيا فحسب، بل وجودي: كيف نحمي نظاما يفكر من الانهيار في منطقه؟ كيف نمنع وثيقة من أن تتحول إلى طقس لانتحار مؤسسي؟ كيف ننجو من احتضاننا لما يفترض أنه إنجاز؟. إن صح ذلك السيناريو فقد خُطط لتلك الوثيقة أن تصل، لا لتخبر بل لتفجر، لا لتنفذ بل لتقتل، لا لتقرأ بل لتعاش كخيانة لا يدركها أحد حتى تقع.

 في المقابل، لا يزال القانون الدولي بمنطقه الكلاسيكي يشترط وجود ضرر مادي واضح لتوصيف العدوان، في حين أن ما نواجهه اليوم هو ضرر مفهومي مركب حيث تزرع القنبلة في فرضية معرفية وتفجر عبر سلسلة من ردود الفعل المؤسسية المتوقعة مسبقا، دون أن تترك أثرا تقنيا مباشرا يدين المعتدي مما يضع النظام القانوني في مواجهة إشكاليات من ضمنها عدم امتلاك أدوات تفسيرها أو محاكمتها.

هنا تتحول الجريمة إلى فعل سيادي ـ معرفي عابر للحدود، لا تقاس بعدد الضحايا بل بدرجة انهيار الثقة والتآكل في اليقين والعمى الإدراكي الذي يصيب مؤسسات يفترض أنها محصنة ضد الخداع. 

إن أخطر ما في الحروب القادمة هو استهداف العقول، وهو بهذا الشكل يعيدنا إلى مفهوم ” ميشيل فوكو ” حول السلطة السيادية أي سياسة إدارة الحياة والموت، حيث تدار الشعوب لا عبر الحروب فحسب، بل عبر من يسمح له بالعيش ومن يترك ليقتل دون محاسبة أو إعلان حرب رسمي.

……………………….

*أستاذ القانون الجنائي المساعد المتخصص في الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والجرائم الإلكترونية. نائب رئيس الدائرة الرقمية بمكتب الادعاء العام اليمني. خبير غير مقيم في كلية الدراسات العليا بجامعة FTU. مملكة تايلند

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى