سياسة

هذه وصايا الشّهيد أنس الشّريف، فهل من معتبر ومدّكر؟

الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام| الجزائر
الغدر والخداع والنّكث قيم عند العدوّ الضّعيف الجبان. والصّمود والتّحدّي والتّصدّي قيم عند القويّ الشّجاع..المراوغة والمناورة والنّفاق قيم يتحلّى بها ضعفاء النّفوس وفاقدو المروءة والكرامة.. والثّبات والصّدق والوفاء قيم يتمتّع بها أصفياء القلوب وأصحاب الشّهامة..
صاحب الدّعوى بامتلاك الحقيقة والحقّ، يخفق في إثبات ذلك فيلوذ إلى الوسائل الدّنيئة لاغتصابهما، فإذا عجز عن تحقيق مرغوبه لجأ إلى الأساليب الدّنيئة والطرّق الخبيثة لانتزاعهما بالقوّة والغطرسة والقهر والمكر.. وضعيف النّفس الإمّعي التّبعي، الذي لا يملك إرادته ولا حريّته.. يسير في ركابه فينقاد لإرادة من يتحكّم فيه، وينفّذ أوامر من يسوقه ويدعّه دعّا.. ويجبره على القيام بكلّ ما يريد بلوغه، من دون نقاش ولا محاولة الفهم ولا إدراك المصير الذي يؤول إليه.
هذا ما يحدث في ارض الواقع في القضيّة الفلسطينيّة المقدّسة (المدنّسة من الخونة والعملاء) وطوفان الأقصى المبارك (المهان من فاقدي المروءة والكرامة) وقطاع غزّة (العزّة والشّهامة). فسالت الدّماء، وانتشر البلاء، وكثر الابتلاء، وسقط الشّهداء، وتأثّر المصابون الضّعفاء، وتوسّع الجوع، وتزايدت الإبادة، وكثر التّهديد بالتّهجير.. والأعداء منتشون أنّهم محاطون بطوق من الأمان لتنفيذ مخطّطاتهم، وتمرير مشروعاتهم، السّياج يبنيه الأقربون، والتّمويل يضمنه الأسخياء المتواطئون. والتّسليح يأتي منهم بقوّة،فلا غضاضة أن يكون ذوو القربى أشدّ ظلما ومكرا..الحال تستمرّ على هذه الوتيرة، من دون حَرَج، ولَا جُرْحَ ينكأ قلوبهم لِـما يتعرّض له ذوو قرباهم (شكلا) في موطنهم المقهورين فيه..
في خضمّ هذه الحال المزريّة تأتي وصيّة ” أنس الشّريف” (الشّريف بعمله الصّحفي المسؤول) لتنضمّ إلى بقيّة الوصايا التي يتركها أحرار القضيّة الفلسطينيّة والقضايا العادلة؛ لتحمّل الأحياء مسؤوليّة مواصلة الجهاد بعدهم، فلا تتوقّف برحيلهم، بل تتجدّد دماؤها، ويتكاثر أبطالها، وتتّسع دوائرها؛ لأنّ الحياة جهادٌ، مَنْ يَنَمْ يَوْمَهُ دَاسَتْهُ أَقْدَامُ الرَّزَايَا،كما قال الشّيخ إبراهيم أبو اليقظان.. فالعدوّ المتغطرس المستبدّ لا ينفع معه إلّا الثّبات والصّمود والتّحدّي ومواصلة الكفاح حتّى النّصر بإذن الله تعالى. فما ضاع حقّ وراءه طالب، فالمطالب (والدّنيا) تؤخذ غلابا كما قال أحمد شوقي.
قام الكيان يوم 11 من أغسطس 2025 باغتيال صحفيّين فلسطينيّين من بينهم “أنس الشّريف” والمصوّر ” محمد قريقع”.. ظانّا منه أنّه يغتال الكلمة القويّة، ويسكت الصّوت الحرّ.. نسي أنّه بمحاولاته اليائسة قتلَ الكلمة الحرّة يَلْقَى لكماتٍوكمائنَموجعةً من الأبطال الأحرار البواسل..هذه الحوادث والوقائع متواترة في يوميّات المجاهدين المرابطين في كلّ الجبهات، فلا تزيد القضيّةَ الفلسطينيّة إلّا وقودا وزادا وطاقة للاستمرار في النّضال حتّى تحقيق النّصر المبين بإذن الله تعالى.
أهمّ ما في موضوع الاغتيال الوصيّة الثّمينة التي كتبها “أنس الشّريف” قبل شهور من اغتياله؛ فهو يعرف أنّ مصيره لن يكون آمنا، كما آمن أنّه من الضّروري القيام بما يضمن استمرار العمل الجهادي مع من يمكن له أن يواصل..فرأى من تمام واجبه الدّيني والإنساني أن يترك وثيقة، تتضمّن وصايا من واقع تجربته النّضاليّة، ومن منطلق التّعاون الكامل مع الجميع لبقاء جذوة الجهاد حيّة في النّفوس، ومن منطق ربط الأجيال المتعاقبة بالقضيّة الفلسطينيّة؛ حتّى لا تموت ولا تنمحي من ذاكراتهم ومن يوميّاتهم، حتّى الحصول على المبتغى وتحقيق التّحرّر الكامل للأرض المغتصبة: أرض فلسطين الغالية الحبيبة.
وصايا الشّهيد أنس الشّريف عديدة، كلّها مهمّة وفي الصّميم، تنوّعت بين وصايا عامّة وأخرى خاصّة. في افتتاحها ذكر أنّه مستهدف، وأنّه في مرمى الطّغمة الظّالمة. آمن بضرورة الجهاد وتيقّن من تعرّضه للتّعدّي عليه، وكان يتوقّع اغتياله؛ بسبب الخطر الكبير الذي يشكّله على مؤامرات الكيان الصّهيوني ومن يشايعه وبناصره ويؤازره، فكتب بنفس المؤمن الموقن بالشّهادة، من دون أن يتردّد عن الصّمود في ميدان الإعلام الخطير على العدوّ: ” هذه وصيّتي ورسالتي الأخيرة: إن وصلَتْكم كلماتي هذه فاعلموا أنّ إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي.. بداية السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته” .
نقول لك يا شهيد الكلمة والصّوت: وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته في الأوّلين والآخرين ومع الشّهداء الأبرار الأطهار الطّيّبين.هذا موقف المؤمن الموقن بقضاء الله وقدره، الذي يدفعه للمضيّ في عمله وجهاده من دون خوف ولا تردّد؟
بعد أن ذكّر الجميع بما بذله من جهود في خدمة القضيّة الفلسطينيّة، بكلّ حماسة وصدق وإخلاص، وما تعرّض له من مضايقات وما لاقاه من عنت وتعب ونصب – كما وضّحه في الوصيّة – قال: “عشتُ الألم بكلّ تفاصيله، وذقتُ الوجع والفقد مرارا، ورغم ذلك لم أتَوانَ يومًا عن نقل الحقيقة كما هي، بلا تزوير أو تحريف. عسى أن يكون الله شاهدا على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا،ومن حاصروا أنفاسنا، ولم تحرّك أشلاءُ أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكنا ولم يوقفوا المذبحة التي يتعرّض لهاشعبنا منذ أكثر من عام ونصف.”
رسالة عميقة وكبيرة يرسلها الشّهيد أنس للمتخاذلين في نصرة إخوانهم المقهورين المجوّعين الخائفين المروّعين، غير الآمنين في وطنهم، فضلا عن لمتعاونين مع العدوّ في هذا القهر والضّيم، بالإضافة لمن يوفّر له العبش الرّغيد والرّغيف والسّلاح وكلّ آلات الدّمار ليقتل الشّعب الفلسطيني..ويمنع كلّ هذه المساعدات عن أهلغزّة المحاصرين.. هذه رسالة قويّة لمن كان له قلب أو القى السّمع وهو شهيد.
عرّج بعد ذلك على فلسطين فأوصى بها خيرا: “أوصيكم بفلسطين، درّة تاج المسلمين، ونبض قلب كلّ حرّ في هذا العالم. أوصيكم بأهلها وبأطفالها المظلومين الصّغار، الذين لم يمهلهم العمر ليحلموا ويعيشوا في أمان وسلام. فقد سحقت أجسادهمالطّاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصّواريخ الإسرائيليّة، فتمزّقت، وتبعثرت أشلاؤهم على الجدران.”
يكفي هذا التّصوير المريع المرعب لحال أطفال فلسطين المستهدفين بالتّنكيل والتّعذيب والتّمثيل بهم؛ ليكون محرّكا لضمائر ذوي القربى أوّلا، للقيام بواجب حماية الطّفولة البريئة من القهر والحرمان من الحياة الكريمة، ثمّ استنهاض همم الأحرار في لعالم للوقوف ضدّ المجازر والمناكر والمحارق المرتكبة في فلسطين الجريحة المكلومة.. وبالتّبع أوصى بفلسطين عامّة بخير.
القصد من هذه الوصايا التّحريض على الثّبات والصّمود والتّحدّي والوقوف أمام الاستبداد، مهما تكن غطرسة الأعداء وأساليبهم في تحويل المجاهدين عن الجهاد: ” أوصيكم ألّا تُسكِتَكُم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود، وكونوا جسورا نحو تحرير البلاد والعباد، حتّى تُشرِق شمس الكرامة والحريّة على بلادنا السّليبة.”
تحرير فلسطين أمانة في أعناق المسلمين، ودين في سِجلِّ واجباتهم الدّينيّة، الجهاد في سبيل تحريرها فرض عيني؛ لذا فلا القيود تعوقهم عن العمل، ولا السّدود تقف أمامهم، ولا الحدود تمنعهم من المضيّ في النّضال، ولا التّهديدات والمضايقات والتّنكيلات تكون عذرا لعدم الاستمرار في درب الكفاح…هذه الوصيّة نداء ورسالة، لا يمكن التّهاون أو التّفريط فيها.. فلا يجوز أن تقابل بعدم المبالاة، كما قال محمود سامي البارودي، وهو يحرّض الشّعب أن يثور ضدّ الاستعمار الإنكليزي:
أَهَبْتُ، فَعَادَ الصَّوْتُ لَـمْ يَقْضِ حَاجَةً // إلَـيَّ، وَلَبَّانِي الصَّدَى وَهْوَ طَائِعُ
لم ينسَ الشّهيد أن يوصي بأهله خبرا: والدته وزوجه وابنه وبنته، ثم قال:” أوصيكم أن تلتفّوا حولهم، وأن تكونوا لهم سندا بعد الله عزّ وجلّ إن متُّ، فإنّني أموت ثابتا على المبدأ، وأشهد الله أنّي راض بقضائه، ومؤمن بلقائه، ومتيقّن أنّ ما عند الله خير وأبقى”
هذه هي العقيدة الصّحيحة التي تدفع للعمل الصّالح، وتسوق إلى ميادين الخير، وتدعو إلى القيام بالواجب، وتزرع اليقين في القلب، وتعطي الثّقة في النّفس للإقدام على الأعمال الكبيرة، منها الجهاد في سبيل الله.. فأنس الشّريف أحد هؤلاء الرّجال الذين صُنِعُوا على العقيدة الصّحيحة المتينة، فكان منه هذا الجهاد، وصدرت منه هذه الوصايا الغالية..
أَنْهَى وصاياه بالدّعاء – وهذا شأن المؤمن الصّادق المخلص: “اللّهم تقبّلني في الشّهداء، واغفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر، واجعل دمي نورا يضيء درب الحرية لشعبي وأهلي. سامحوني إن قصّرتُ، وادعوا لي بالرّحمة، فإنّي مضيتُ على العهد ولم أغيّر ولم أبدّل. لا تنسوا غزّة، لا تنسوني من صالح دعائكم بالمغفرة والقبول”أنس جمال الشّريف.. 6/04/2025م.
هذه شيمة المؤمن الموفّي الصّادق، يستعين بالدّعاء ويستجير بمن لا مجير إلّا هو، ويتواضع ويتذلّل رغم كلّ ما يقدّم من أعمال البرّ والإحسان، ويطلب الصّفح والسّماح من غيره؛ مخافة أن يكون قد قصّر في حقّهم، ويُشهِد الجميع أنّه بقي وفيّا بالعهد في نصرة دينه وقضيّته، لم تغيّره الظّروف والصّروف، لم تبدّله الأحوال والاهوال، فمضى إلى ربّه راجيا منه الرّحمة، وطالبا من الجميع تزويده بما يرفع من درجاته في الجنّة.
هذه المشاعر هي وصايا ورسائل للأحياء: أن يكونوا كما يجب في الصّدق والإخلاص والوفاء والثّبات، والمرابطة في سبيل تحرير فلسطين، والمضيّ من دون تردّد ولا تسويف ولا خوف ولا رهب من كيود الأعداء..في طريق الجهاد حتّى النّصر المبين بإذن الله تعالى.
هل وعينا الدّرس؟ هل فقهنا رسالتنا؟ هل تعلّمنا من الشّهيد أنس ما نستأنس به في جهادنا؛ فنعطي الثّقة لأنفسنا لنواصل مسيرة الجهاد؟ ونقدّم لله وله عهدا على عدم التّخلّي عن واجب نصرة غزّة العزّة والكرامة، ونحن أصحاب الهمم والشّهامة.
هنيئا لك يا أنس حيًّا تكافح وتقاومبالصّوت والكلمة، وسُقْيًا لك ميّتا وأنت تناضل وتجاهد بالكلمةوالوصيّة.. بموقفك هذا تذكّرنا بقول أبي الحسن الأنباري في رثاء عضد الدّولة البويهي:
عُلُو ٌفي الـحَياِة وَفي الـمَمَاتِ// لَـحَقٌّ أَنْتَ إِحْدَى الـمُعْجِزَاتِ
أَعْجَزْتَ العدوّ وأنت حَيٌّبجهادك، فلم يجد سبيلا للتخلّص منك إلّا باغتيالك، وأَعْجَزْتَهُ مرّة أخرى وأنت مَيِّتٌ: أن أبقيت صوتك مدويّا برسائلك ووصاياك التي ستكمل مسيرتك النّضاليّة بإذن الله. وأَعْجَزْتَ الخونة والعملاء بنقلك حقيقة المقاومة المظفّرة التي أَحْرَجَتْهُم أمام العالم وأنت حَيٌّ، وَأَسْـمَعْتَهُم أنّ الجهاد يستمرّ وأنّ ما يقومون به لن يؤثّر على المقاومة، وأَقْلَقْتَهُم وأنت مَيِّتٌ: أنّ الخيانة والعمالة التي تقود إلى اغتيال الكلمة وصاحبها، لن توقفها عن الصّدع والانتشار وقوّة الفعل في النّفوس الأبيّة والضمائر الحيّة..
رحمك الله يا أنس ومن معك من الشّهداء يوم ولدتُم ويوم مِتُّم ويوم تبعثون أحياء، فتَلْقَوْنَ الجزاء الأوفى والأغلى والأبقى، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم.

الجزائر يوم الإثنين:18 صفر 1447ه/ 12 أغسطس 2025م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى