مقال

الدكتورة بان زياد.. هل نُحِرَت أم انتحرت؟ قضية تهز العراق

بقلم: د. نجاة الجشعمي

في الرابع من أغسطس 2025، استيقظت مدينة البصرة على خبر مأساوي: العثور على جثمان الطبيبة النفسية الشابة بان زياد طارق داخل منزلها في حي الخليج. لم يكن الخبر مجرد حالة وفاة، بل بداية لعاصفة من الجدل، الاتهامات، والتكهنات التي اجتاحت الشارع العراقي، وطرحت سؤالًا مؤلمًا:
هل ماتت بان زياد منتحرة؟ أم كانت ضحية جريمة قتل؟

من هي بان زياد؟

بان زياد، طبيبة عراقية في مطلع الثلاثينيات من عمرها، متخصصة في الطب النفسي، تخرجت من جامعة البصرة، وكانت معروفة بين زملائها بمهنيتها العالية، طاقتها الإيجابية، وطموحها الكبير. افتتحت مؤخرًا عيادتها الخاصة، وشاركت في مؤتمرات علمية محلية، وكان لها حضور بارز في الوسط الطبي.
بحسب زملائها، كانت بان تخطط للسفر إلى إيطاليا لاستكشاف فرص مهنية جديدة، وكانت تتحدث عن مشروع علاجي نفسي كبير لمرضى البصرة، مما جعل خبر وفاتها صادمًا وغير متوقع.

الرواية الأولى: انتحار تحت ضغط نفسي

عائلة بان، وتحديدًا والدتها، صرّحت في لقاء تلفزيوني أن ابنتها كانت تعاني من ضغوط نفسية ومهنية، وأنها أقدمت على الانتحار بعد تناول مؤثرات عقلية.
بحسب العائلة، كتبت بان عبارة “أريد الله” بدمها على باب الحمام، في لحظة يُفترض أنها كانت الأخيرة في حياتها.

هذه الرواية دعمتها بعض الجهات الرسمية في البداية، حيث أشار محافظ البصرة إلى أن التحريات الأولية لا تُظهر شبهة جنائية، وأن القضية تبدو كحالة انتحار، في انتظار تقرير الطب العدلي لحسم الأمر.

الرواية الثانية: شبهة جنائية واضحة

لكن هذه الرواية لم تُقنع كثيرين.
زملاء بان، وأطباء مقربون منها، شككوا في فرضية الانتحار، مشيرين إلى أن بان لم تكن تعاني من اضطرابات نفسية، بل كانت في حالة نشاط مهني وتخطيط لمستقبلها.
التقرير الطبي الأولي كشف عن جروح قطعية عميقة في الذراعين، كدمات في الوجه والرقبة، وبروز للعظام والعضلات، وهي إصابات اعتبرها البعض غير منطقية في حالات الانتحار الذاتية.

الطبيبة لينا الهاشمي علّقت بأن طريقة الانتحار المزعومة – بشق طولي يصل إلى العظم – لا تُشبه الطرق المعتادة، التي تكون غالبًا بشق أفقي عند المعصم.
كما أشار الطبيب وليد كاطع إلى أن بان كانت في مزاج جيد، ولم تُظهر أي علامات اكتئاب أو ميول انتحارية.

الاتهامات والضغوط الشعبية

مع تصاعد الجدل، بدأت منصات التواصل الاجتماعي تمتلئ باتهامات غير مؤكدة، بعضها اتهم أفرادًا من عائلتها، خصوصًا شقيقها، الذي قيل إنه مدمن مخدرات، وطلب منها وصفات طبية رفضتها، مما أدى إلى خلاف بينهما.
انتشرت مقاطع صوتية وفيديوهات تُشير إلى تهديدات، لكن التحقيقات الصحفية أثبتت أن بعضها مفبرك أو يعود لأشخاص لا علاقة لهم بالقضية.

الضغط الشعبي والإعلامي دفع وزارة الداخلية العراقية إلى تشكيل لجنة تحقيق خاصة، وتحويل الملف إلى بغداد، حيث خضع الجثمان لتشريح دقيق من قبل دائرة الطب العدلي والأدلة الجنائية.

نتائج التحقيق: انتحار مؤكد

بعد أسابيع من التحقيقات، أعلنت السلطات القضائية العراقية أن وفاة بان زياد كانت نتيجة الانتحار، مستندة إلى عدة أدلة:

– وجود رسالة مكتوبة بخط يدها.
– عدم وجود آثار خنق أو تسمم أو اعتداء جسدي خارجي.
– تقرير الطب العدلي الذي استبعد تمامًا فرضية القتل.

هذا الإعلان أنهى رسميًا الجدل القانوني، لكنه لم يُنهِ الأسئلة العاطفية والإنسانية التي ظلّت تُراود الكثيرين:
هل كانت بان فعلاً في حالة نفسية تؤدي بها إلى الانتحار؟ أم أن هناك ما لم يُكشف؟

بين الحقيقة والخذلان

قضية بان زياد ليست مجرد ملف جنائي، بل مرآة تعكس هشاشة الواقع النفسي والاجتماعي في العراق.
بان، التي كانت تعالج الآخرين من الاكتئاب والقلق، وجدت نفسها ضحيةً لما يبدو أنه صراع داخلي لم يُحتوَ، أو ضغوط خارجية لم تُفهم.
سواء كانت وفاتها انتحارًا أو قتلًا، فإن خسارتها تمثل فقدًا كبيرًا للطب العراقي، وللأمل الذي كانت تُجسّده.

ماذا بعد؟

القضية فتحت الباب أمام نقاشات واسعة حول:

– الصحة النفسية للطواقم الطبية في العراق، والضغوط التي يواجهونها.
– دور الإعلام في تداول الشائعات وتأجيج الرأي العام دون تحقق.
– أهمية التحقيقات المستقلة في القضايا الحساسة، بعيدًا عن التدخلات السياسية أو العائلية.
كما دعت منظمات حقوقية إلى تعزيز الدعم النفسي للعاملين في القطاع الصحي، وتوفير بيئة آمنة للنساء العاملات، خصوصًا في المحافظات التي تشهد تحديات أمنية واجتماعية.اذا
قضية الدكتورة بان زياد ستبقى في ذاكرة العراقيين، ليس فقط لأنها مأساوية، بل لأنها كشفت هشاشة الحقيقة حين تُحاصرها الشائعات، وألم الفقد حين يُغلفه الغموض.
سواء كانت بان قد انتحرت أو قُتلت، فإن السؤال الأهم الذي يبقى:
هل كان يمكن إنقاذها؟

ربما لو سُمعت أكثر، لو احتُضنت أكثر، لو فُهمت أكثر… لما كنا نكتب عنها اليوم بهذه الطريقة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى