فلترقد بسلام في ضريحك الأبديّ أيها الحبيب!

فراس حج محمد | فلسطين

أحبّ أن أقيم علاقة ألفة مع الأشياء التي أمتلكها، لأنني لا أمتلك شيئا من باب الفضول أو الترف، ولذلك يكون لهذه الأشياء علاقة حبّ خفية، ما بيني وبينها، لن يفهمها أحد سوانا، وتظل معي ولن أتخلى عنها، حتى لو توقفت عن العمل.

ما مناسبة هذا الحديث؟ ربما هو أمر نادر أن تودّع شيئا من أشيائك. وربما هو صعب كذلك، لاسيما إن كان هذا الشيء قد صحبك فترة طويلة، وارتبط بذكريات جميلة، وجاء إليك في ظروف خاصة جدا. إنني أتحدث عن جهاز (الآيفون) الذي صحبني مدة تزيد عن ست سنوات. فلماذا استحق كل هذه المكانة عندي؟

دعوني أبدأ بهذه الحادثة التراثية: فقد روى أن الشاعر الشمّاخ بن ضِرار مدح عَرابة الأوسي بقوله:

رأيت عرابة الأوسي يسمو

إلى الخيرات منقطعَ القرين

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين

إذا بلَّغتني وحملتِ رحْلي

عَرابةَ، فاشرَقي بدمِ الوتين

ويعلق المبرّد على عجُز البيت الأخير بقوله “عاب بعض الرواة قول الشاعر: “فاشرقي بدم الوتين”، وقال كان ينبغي أن يُنظر لها مع استغنائه عنها بعين الرأفة والرحمة، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصارية المأسورة بمكة وقد نجت على ناقة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد أن قالت: “يا رسول الله، إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها”. فقال النبي: “لبئس ما جزيتِها”.

هذا الخبر ذو دلالة قوية في احترام ما كان له فضل عليك، بشرا كان أو شيئا أو دابة، ولذلك لم يكن الشاعر موفقا، ولم تكن الأعرابية موفقة في نذرها، إن حالي مع هذا الجهاز كحال الشاعر والجارية مع ناقة كل منهما، ولذلك لن أقوم بإتلاف هذا الجهاز، بل أجعله ضمن أشيائي المحتفظ بها، وأرجعه إلى علبته التي ما زالت على حالها منذ ذلك الحين جديدة لم يمسسها سوء، بيضاء نقية، مع أنها سوداء ضاحكة، كأنّ هذا الأسود أجمل ما يكون!

والآن، ما هو فضل هذا الجهاز عليّ؟ بداية لم أكن أحلم يوما أن يكون لي جهاز (آيفون) آخر صرعة في حينه، ويتجاوز سعره راتب شهر كامل، فأنا كنت مكتفيا بجهاز متواضع يبلغني من أريد في اتصالاتي القليلة النادرة. ولذلك فقد أحدث هذا الجهاز نوعا من الفخامة و(البرستيج)! نعم. إن معي آيفوناً حديثا كالباشوات وأصحاب رؤوس الأموال. يا لسعادتي! ويا لذلك الحسد الذي كنت أراه بعيون الآخرين، وهو يزهو بين أصابع يدي أنيقا متناسقا، حيويا، مبهرا.

في إحدى حواراتي مع صديقة تونسية، وقد أتينا على ذكر أنواع الأجهزة التي نستخدمها أنا وهي، عبرت عن انبهارها الشديد لامتلاكي هذا الجهاز، وقالت لي: من يمتلك آيفونا عليه أن يسجل ذلك في سيرته الذاتية، أعادتها مرة أو مرتين. كانت تتوق لاستخدام الآيفون وامتلاكه. لقد شعرت بالزهو كثيرا لحظتئذ، فأنا معي آيفون. إنه لأمر جلل.

هذا أحد المواقف التي أحب أن أسجلها لهذا الجهاز الذي قاوم معي لآخر ما يستطيع من عمره الافتراضي، إذ إن لكل جهاز عمرا افتراضيا مقدّرا في عُرْف من صنعه، وأظن أنه تجاوز هذا العمر، وهو من الأشياء القلائل التي جازت عمرها المفترض.

لقد ساعدني هذا الصديق الوفي الجميل، وحل محلّ الورقة والقلم، وصرت أكتب فيه مقالاتي الطويلة والقصائد وأحتفظ بها وأخزنها بسلاسة ويسر، بل إنه أزاح من حياة الكتابة حاجتي الماسة لاستخدام الحاسوب الشخصي (اللابتوب)، فصارت الكتابة عندي أسلس ومطواعة أكثر، وأكتب كل حين. لقد كان له الفضل العظيم في استحضار الكتابة وجاهزيتها كلما عنت فكرة بالبال. فأنا من بدل بالدفاتر والأقلام آيفونا، ولذلك صرت أكتب أكثر وبغزارة واضحة. فقد ساعدني على أن أكون متقنا وسريع بديهة، فقد شهد هذا الجهاز ولادة قصائد ديوان “الحبّ أن…” جميعها، بل إنه تسلل إلى داخل السرد وصار شخصيّة فاعلة في إحدى القصص القصيرة جدا، وكان موجّها ذكيّا للأحداث، كما أنه كان مرافقا أمينا في فعاليات ثقافية كثيرة، فوثّق بحب وأمانة مطلقة كل تلك الفعاليات، واستطاعت عدسته الحاذقة الصافية التقاط أبدع الصور وأطرفها.

لم يخذلني هذا الوفي يوما حتى وهو في فترات مرضه القليلة، فهو لم يمرض قبل تقاعده الأخير وشيخوخته إلا مرة واحدة، وأنقذته بعملية أعادته إلى الحياة شهورا إضافية. فعاد حيويا كما كان صلبا عنيدا مقاوما، يحمل أحزان الكتابة وأسرارها، ويتحمل نزق الحروف ونزف الجروح التي كانت تسيل من دمي كلمات كلما برح بي الشوق وأضناني السهر، وأشقاني الغياب، كان مؤنسا وحبيبا وصديقا لا يُملّ.

لم يخذلني هذا الحبيب حتى في أيامه الأخيرة، وهو في نزاعه الأخير، سرعان ما كان يفيق من غيبوبة مرض الموت والشيخوخة، ليطمئنني عنه، وتسطع شاشته بضحكة صافية قائلا: “شبيك لبيك حبيبك بين يديك”. نعم كان يصارع الموت، لكنه كان متشبثا بالحياة والصداقة.

لم يخذلني هذا المقاوم العنيد، على الرغم من تلك المرات التي كان يسقط فيها أرضا، ويقع على وجهه، فلم ينكسر له خاطر، ولم يتعكر له صفو، ينهض لا مكروه أصابه، في حين أسمع عن حالات كثيرة لأجهزة كثيرة، لا روح لها، سرعان ما تتشظى بمجرد وقعة خفيفة على الأرض. إنه يمتلك روحا صلبة تستعصي على الكسر.

بمثل هذا الجهاز الحبيب القريب العاطفي الودود تقيم النفس حفلة شكر وعرفان وتقديس، فهو لم يكن مجرد جهاز كأي جهاز بل جهاز لا مثيل له في الأجهزة قاطبة، في شرق الأرض وغربها، عند العرب وعند الأعاجم أيضا.

لن أقول وقد امتلكتُ جهازا جديدا أحدث وأكثر تطورا، فلتشرق بدم الوتين كما قال الشماخ والجارية، بل ستكون حيث يجب أن تكون محتلا مكانتك الوثيرة في خاطري، ولن يملأ مكانك أي جهاز غيره، مهما غلا سعره، ومهما تطورت أدواته وبرامجه. وإن القلب ليحزن لفراق استخدامك، ولكنني لن أتخلى عنك لتكون في سلة المهملات، ولن أسمح لعامل نظافة أن يتأملك بيديه، وهو يلتقطك من بين الركام، بل إنني حريص على أن تظل حيا في أدراج سرير نومي نتبادل التحايا كل صباح ومساء. ولترقد بسلام هناك في ضريحك الأبدي كأعظم الأشياء قداسة في حياة كاتب، كنت له صديقا وملهما وحبيبا أبديا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى