مقال

الأجوبة المُسْكِتَة عند العرب

أ. سعيد مالك| معلم لغة عربية
كانت البلاغة عند العرب تاج الفصاحة، وزينة المروءة، وسلاح الحكيم في مواجهة الخصم والموقف الحرج. فالعربي في جاهليته وإسلامه، كان يرى الكلمة موقفًا، والردّ ميزانًا للعقل والشجاعة. ولقد خلد التاريخ العربي صفحات من أبلغ الردود التي تفيض ذكاءً، وتجمع بين الحكمة والجرأة، حتى أصبحت مضرب الأمثال وسلوى الأدباء والبلغاء على مرّ العصور.

الردّ سلاح العاقل
لم يكن العربيّ يرفع سيفه إلا عند الضرورة، لكنه كان يرفع لسانه بالحق متى وجد الجدال سبيله. فالكلمة عنده كانت سهمًا يصيب موضعه. ويُروى أن الأحنف بن قيس، وكان من عقلاء العرب، سبَّه رجل. فقال له الأحنف بهدوء: “إن كُنتَ صادقًا غفر الله لي، وإن كُنتَ كاذبًا غفر الله لك.”؛ فكان رده أبلغ من كل تهديد، لأنه أخمد نار الغضب بالحكمة والخلق الرفيع.

بلاغة الملوك والقادة
ومن أروع الردود ما رُوي عن عمرو بن العاص حين قال له أحدهم: “إنك داهية!” فأجابه مبتسمًا: “لا، إنما أنا رجل أُدبّر بقدر ما أُقدّر.” فجمع في كلماته بين التواضع والدهاء، وبين الذكاء والتلميح، فكان رده مرآة لفكره السياسي اللامع. وكذلك قال المأمون العباسي لرجل خاطبه بغلظة: “يا أمير المؤمنين، إني أقول الحق ولا أخاف في الله لومة لائم!”، فردَّ عليه المأمون قائلاً: “وأنا لا أسمع في الله إلا الحق، فقل ما شئت.”؛ فكان رده مثالًا للحاكم العادل الذي يسمو فوق الانفعال.

ردود غلبت السيوف
وفي مواقف الجدال، كانت الكلمة تغني عن ألف معركة. فقد سأل أحدهم الحسن البصري: “ما بالك لا تخاف من سلطان زمانك؟” فقال: “لأني لا أرى أحدًا فوق الله سلطانًا.” ففي هذا المثال سمعنا كلمة واحدة قلبت ميزان القوة، وأظهرت ثبات المؤمن في وجه الجبابرة. أما الخنساء، الشاعرة العربية، فلما سُئلت بعد إسلامها عن بكائها على أخيها صخر، قالت: “كنتُ أبكيه للدنيا، وأنا اليوم أبكيه للآخرة”؛ فكان ردُّها أبلغ من ألف قصيدة، جمع بين صدق العاطفة وعمق الإيمان.

فن الرد في المجالس
كانت مجالس العرب تزخر بالمناظرات، وفيها يتبارى الشعراء والبلغاء. ومن أجمل المواقف أن رجلًا قال لـ الفرزدق: “ما أنت إلا كلب!”، فقال الفرزدق هادئًا: “إذا نبح الكلب عرفنا أنه حي.”؛ فكان الرد ساخرًا ذكيًا حفظ له هيبته دون إسفاف.

بلاغة الصمت
وأحيانًا، كان الصمت عند العرب أبلغ من الكلام. فقد قال الحكماء: “الصمت جواب الجاهل” وقد روي أن أحد السفهاء شتم الإمام علي بن أبي طالب، فاكتفى الإمام بابتسامة وقال: “إني لأكره أن أكون لجاهلك نَدًّا”؛ فكان رده بالصمت أرفع من أي كلام.. لقد كانت أبلغ الردود عند العرب مرآة لعقول راقية ونفوس كبيرة؛ لأنها لم تخرج من فمٍ غاضب، بل من قلبٍ واثقٍ وعقلٍ حكيم. والبلاغة في الرد ليست بكثرة الألفاظ، بل في اختيار الكلمة التي تضع الجواب في موضعه الصحيح؛ فتطفيء نار الجهل، وتزرع احترامًا حتى في قلوب الخصوم.
وفي الأخير أقول لكم: ما أحوجنا اليوم إلى أن نتعلم من أولئك الحكماء فن الرد الجميل، الذي يجمع بين الأدب والقوة، وبين العقل والكرامة، لنثبت أن الكلمة ما زالت أداة الرقي لا السخرية، وسلاح الوعي لا الجدال العقيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى