30 يونيو .. ثورة استعادت وطنـًا مخطوفًا
أفشلت مخططات تقزيم الدولة وتحويلها كأداة وظيفية لصالح التنظيم الدولى
الكاتب الصحفي سيد سعيد | القاهرة
رئيس مجلس إدارة جريدة “صوت الملايين”
فى الأيام القليلة المقبلة، تكون مرت عشر سنوات بالتمام والكمال على اندلاع واحدة من أعظم وأنبل الأحداث الخالدة فى الضمير الوطنى والحاضرة فى الذاكرة الشعبية، وهى ثورة 30 يونيو، جرت خلال تلك السنوات العشر مياه كثيرة فى نهر الحياة العامة، وتكشفت خلالها حقائق عن خبايا مثيرة ومؤامرات مشينة، لم يكن مجملها معلومـًا لغالبية المصريين، لكن ما جرى الكشف عنه، وما تم تداوله من اتهامات دامغة فى التحقيقات القضائية، يؤكد بما لا يدع مجالا لأى شك، بأن الثورة اندلعت فى الوقت المناسب، وأن أى تأخير سيدفع البلد حتمـًا إلى جحيم الاقتتال الشعبى، وهذه الأسباب تعزز التفاخر بما جرى، وتزيد من التباهى، باعتبارها انتصاراً لإرادة الشعب، فالأسباب الموضوعية الدافعة لاندلاعها، كانت محفزة لانفجار براكين الغضب فى النفوس رغم عدم معرفة الغالبية بما تكشف فى التحقيقات مع قيادات التنظيم، لذا فإنها، أى الثورة، تختلف بصورة كلية عن بقية الثورات التى عرفتها البشرية على مر التاريخ، فهى ليست مجرد حدث أذاح نظام حكم الفاشية الدينية، التى خدعت، بمعاونة استخبارات أجنبية، غالبية الشعب المصرى، إنما هذه حقيقة، وحدث استثنائى فريد وفارق فى التاريخ المصرى منذ نشأة الحضارة على ضفتى نهر النيل، باعتبارها مغايرة فى الشكل والمضمون لكل المفاهيم التقليدية والمصطلحات المتعارف عليها سياسياً و تاريخياً، فالثورات تندلع شرارتها إما ضد الفقر والظلم الاجتماعى، أو القهر السياسى، أو مقاومة الغزاة لتحرير الأوطان من الاحتلال الأجنبى، كجزء من نضال الشعوب بغية التحرر والاستقلال، أما ما جرى فلم يندرج ضمن تلك الأدبيات المألوفة، بل جاءت متفردة فى أهدافها النبيلة «استرداد وطن مخطوف» من أنياب عصابة أو جماعة فاشية، مارقة، احترفت ممارسة البغاء السياسى والعهر الدينى منذ تأسيسها على يد حسن البنا بتمويل استخباراتى بريطانى عام 1928، غاصت خلالها فى أعماق الخيانة، و ارتكبت كل أساليب العمالة، سواء تلك التى عرفتها البشرية أو التى لم تعرفها حتى الآن.
إن مصطلح «استرداد وطن مخطوف» لم يكن تعبيرًا عفويًا عابرًا، أو وصفًا عاطفيًا من قبيل البهجة به، لكنه مصطلح دقيق وملائم، ويعضد من مصداقيته جملة من الحقائق اليقينية الدامغة، التى لا تقبل أى شك، تمثلت فى مشاهد متنوعة، لم تكن بعيدة عن دائرة الرصد من المهمومين أو المهتمين بمصير هذا الوطن، ممن عاشوا الأحداث على أرض الواقع، وتعايشوا مع مفرداتها البغيضة، منذ سيطرة «الجماعة المارقة «على المشهد العام فى أعقاب 25 يناير 2011، بدعم من نخبة شائهة وضالة، مروراً بالسطو على مؤسسة الرئاسة بطريقة مريبة في يونيو 2012، حيث كان الشغل الشاغل لقياداتهم بمكتب الإرشاد، ليس فقط، بلوغ سدة الحكم، بل هناك ما هو أكثر جرمًا وبشاعة من ذلك، وهو اختطاف الدولة بكل مقوماتها، وتقزيم دورها على المستويين الإقليمى والدولى وتوظيفها بكل ثقلها وإمكانياتها ومقوماتها الحضارية والتاريخية والثقافية كأداة، مجرد أداة، وظيفية لخدمة أغراض التنظيم الدولى للجماعة المارقة، لذا لم يدخروا جهداً أو وقتاً لتحقيق ما يصبون إليه، عبر محو الهوية الوطنية، والعمل الدؤوب على اختلاق مبررات واهية لنشر الفوضى، بهدف تفكيك المؤسسات الصلبة، وهى التى يقوم عليها بنيان أى دولة فى العالم «الجيش ـ الشرطة ـ المخابرات ـ القضاء»، بما يمهد الطريق للسطو على المسئوليات الوطنية و الدستورية لتلك المؤسسات.
تبلور ذلك فى وقائع عدة منها المحاولات التى لم تتوقف للاستعانة، سرا، بقيادات بارزة فى «الحرس الثورى الايرانى»، أما الهدف فهو «تأسيس وتدريب فيالق عسكرية وميليشيات مسلحة «تضم عناصرهم وعناصر التنظيمات الموالية لهم، لفرض سطوة التيارات المتاسلمة على المجتمع وإرهاب القوى الوطنية المناهضة لأجندتهم التنظيمية، أيضاً، لتكون بمثابة جيش موازٍ لجيش الدولة وخط الدفاع عن حكمهم فى مواجهة المؤسسات الوطنية الصلبة والضامنة للاستقرار.
ففى أعقاب سطو الجماعة المارقة على مؤسسة الرئاسة، تصوروا أنهم قادرون على تحقيق طموحاتهم ومراميهم الاستراتيجية، و هى بالأساس أهداف ومخططات صهيوامريكية، لذا سارعوا لتوطيد دعائم قوتهم بإعداد قوائم تحوى أعداد هائلة للمحكوم عليهم فى جرائم ارهابية، عبر اصدار قرارات جمهورية للعفو عنهم واخراجهم من السجون، وبخروجهم ظهر على السطح دعاة الفكر التكفيرى بصورة فجة، واصبحوا ضيوفاً دائمين فى الندوات والمؤتمرات وعلى منصات الأحزاب التى تشكلت بصورة عشوائية، وابتكروا طرقا عديدة يبررون بها أسباب المسيرات والمظاهرات وحشد عناصر التيارات التكفيرية، إلى أن صارت من المشاهد المعتادة، ناهيك عن الكارثة الكبرى لمغازلة الفئات البسيطة عبر الفضائيات، والتى أفردت مساحات زمنية واسعة فى برامجها لظهور تلك الفئات، لتطل على الرأى العام بخطاب تحريضى كريه، صار للأسف عنوانا بارزاً لتنامى وتيرة التحريض على الفوضى والتظاهرات التى شهدتها الميادين على اتساع الخريطة الجغرافية للدولة المصرية، فضلا عن الجرأة على الإقدام ، بمبررات شاذة ، تتناسب مع أجندتهم المشبوهة، للتفريط فى المناطق الحدودية ذات البعد الاستراتيجى مثل «سيناء وحلايب وشلاتين»، لصالح أجندات إقليمية وبتمويل إقليمى أيضًا، اتساقًا مع عقيدة فكرية فاسدة تستهين بالانتماء للأوطان وتبغض قدسيتها، وفى ذات الوقت لمسايرة مخططات التفتيت، المعدة سلفًا فى أوكار وكالات الاستخبارات العالمية، وهى ذات المخططات التى تتناغم وتتطابق مع أجندتهم.
وعلى الجانب الآخر ، لم تكن المؤسسات الأمنية منعزلة وبعيدة عن هذا الواقع المرعب فى تداعياته، فهى كانت تؤدى رسالتها الوطنية ببراعة وحنكة، وتباشر مسئولياتها الدستورية للحفاظ على استقرار البلد من دون ضجيج، أو السعى نحو الدخول فى صدام مباشر مع الجماعة وأتباعها من الفوضويين وحركات الاحتجاج الممولة، وذلك لدرايتها الكاملة بحجم المؤامرة الدولية على البلاد ودور الاخوان فيها، لذا فإنها عملت على التصدى لمحاولات الجماعة المريبة نحو بيع جزء من أراضى سيناء لإخوان فلسطين «حماس»، بإصدار الفريق أول عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع آنذاك، قرارات صارمة ورادعة لأى مخططات من شأنها المساس بمقدسات الوطن، مصمونها يدور فى عدم المساس بأى أراضٍ فى سيناء او غير سيناء، وفى السياق ذاته رفضت وزارة الداخلية إصدار تراخيص سلاح جماعية لفرق الاخوان الشبابية، والتى حاولوا الحصول عليها تحت لافتة شركات للحراسة والأمن، وفى السياق ذاته، وقف نادى القضاة ضد محاولات أخونة مؤسسة العدالة والعبث بثوابتها الراسخة.
وسط زهوة الجماعة بتنامى نفوذهم السياسى والإعلامى، وتوطيد علاقاتهم بحكومات إقليمية، لديها مصالح استراتيجية فى تقزيم دور الدولة المصرية على المستويات كافة، فضلاً عن دعم لا يخضع لأى مبررات منطقية أو غير منطقية من النخبة الشائهة التى تشكلت بفعل السيولة وحالة الاستقطاب غير المسبوق فى الحياة العامة، لم يلتفت قاطنو مكتب الإرشاد فى المقطم، لتصاعد الغليان الذى يجتاح الشارع السياسى، والذى بلغ ذروته فى الأوساط الشعبية، كما لم يدرك مرشد الجماعة وتابعه فى قصر الرئاسة، أن السلطة التى آلت إليهم هى بالأساس مسئولية وطنية، والتزام دستورى وقانونى، وليست مغنماً جلبوه على طريقة ونهج غنائم حروب القبائل فى القرون الوسطى، وعليهم توزيعها فيما بينهم أو التصرف في الغنيمة وفق أهوائهم ورغباتهم المنبوذة، لذا فإنهم استهانوا بكل شيء، بل وغضوا الطرف عن المصالح العليا للبلاد، وأصبحت تحركاتهم تدور فى فلك المصالح العليا للجماعة دون سواها، وقد أوصلهم الغرور إلى الاستهانة بالحراك الشعبى الرافض لوجودهم والرامى لانتزاع الوطن من براثنهم ، فهم لم يضعوا فى سياستهم البغيضة أى خطوات من شأنها استقرار البلاد، فقط عملوا على ترسيخ حكمهم وفرض سطوتهم على المشهد العام، كما أنهم لم يدركوا الحقيقة الراسخة فى الوجدان الوطنى، ومفادها، أن المؤسسات الصلبة لن تسمح بأى عبث، أو أى محاولة من شأنها تقزيم الدولة مهما كانت التحديات.
على خلفية الغرور الذى اجتاح أوساط الجماعة وانعكس بالتبعية على قياداتها وعناصرها الوسيطة وقواعدها التنظيمية، تنامت مظاهر الاحتجاج النخبوي والرفض الشعبى، وتشكلت حركات التمرد الوطنى بصورة سلمية فى كل ربوع مصر.
ولم يكن غريباً فى تلك الأجواء المرتبكة والمعقدة، تصاعد سقف المطالب الشعبية ضد مكتب الارشاد ومحمد مرسى الذى وصف فى الأدبيات الشعبية والنخبوية وبعض وسائل الاعلام، بمندوب التنظيم فى قصر الاتحادية، وكانت هذه هى الحقيقة رغم قسوتها على العقل الجمعى والضمير الشعبى، لأن الدولة المصرية أسمى وأكبر من أن يتم اختزالها كأداة لخدمة تنظيم أو تحت إمرة جماعة.
وأما الحقائق التى لا يمكن بحال من الأحوال أن تتوارى او تختبئ بعيداً عن مجمل الصورة وما ظهر منها علنا على السطح، فجميعها يذهب إلى القدرة على التصدى وبقوة لكل المحاولات الرامية لتقسيم المجتمع وترويع المواطنين ونشر الفوضى، بما يعنى التصدى لكل ما كان يجرى سرًا فى كهف المقطم.
ومن هذه الزاوية التى غابت عن حسابات الجماعة المارقة فمفادها أن هدف الثورة يتجاوز فى جوهره، عزل قاطن قصر الاتحادية «محمد مرسى»، فهو لا يملك من أمره شيئا، ولم يكن بمقدوره أن يتخذ قراراً يتعلق بأى أمر سواء كان صائباً أو خاطئاً، باعتباره مجرد قطعة شطرنج أو إحدى عرائس «الماريونيت « التى تحركها أصابع كهنة التنظيم فى المقطم، وجميعهم إن شئنا الدقة فى التوصيف، ليسوا إلا أدوات، تحركها أصابع أجهزة استخبارات عالمية ومصالح إقليمية وأموال للأسف إقليمية عربية، لتفتيت الدولة والعبث بخريطتها وحدودها الجغرافية، وتمزيق نسيجها المجتمعى، لذا فإن هدف الملايين التى خرجت للشوارع والميادين الكبرى على اتساع الخريطة الجغرافية للبلاد، فى مشهد لم يحدث فى تاريخ الثورات، هو استعادة الوطن المخطوف من براثن تيار فاشٍ وخائن.
الثورة المتفردة، أيضاً، اسقطت مشروع التنظيم الدولى فعليا وإلى غير رجعة يوم 3 يوليو 2013 ، حين أعلن الجيش انحيازه لمطالب الشعب بكل مسئولية .
فى النهاية يمكن التأكيد على حقيقة دامغة ترسخت بفعل الوقائع التى جرت على الأرض، مفادها أن ثورة 30 يونيو، لم تكن مجرد حشود شعبية أو زخم نخبوى للإعلان عن رفضهم المطلق لحكم الجماعة المارقة، لكنها ثورة فريدة، صنعها المجتمع بكل فئاته وشرائحه المجتمعية من الدلتا إلى الصعيد ومن مدن القناة إلى الساحل الشمالى، اجتمعوا على قناعة وحيدة من دون اتفاق مسبق بينهم، على استعادة الوطن وانقاذ هويته الثقافية والتاريخية والحضارية، وإسقاط مشروع البغاء السياسى، الذى طفا على سطح المشهد العام بفعل الانفلات الإعلامى وتدليس النخبة الشائهة التى وجدت المناخ خصبًا للقفز على قمة المشهد، بهدف تحقيق مكاسب ذاتية على حساب البلد وهويته وتاريخه العريق، كما أن الثورة أجهزت باقتدار على أساليب العهر الدينى الذى راح يتنامى عبر خطاب تكفيرى محشو بفتاوى قبيحة تحرض على الكراهية واستباحة الدماء.. هذه الفتاوى، ربما تكون خرجت فى أزمنة سحيقة لظروف مغايرة للواقع، أو أنها خرجت وفق معطيات تلائم شريعة الغاب، هذا إن كانت تلك الفتاوى قد خرجت بالفعل.
يقيناً.. جميع ما حاولوا إسناده للدين، لا يمت للدين بصلة، كما أنه لا يتسق بأى حال من الأحوال مع العقل ويجافى المكتسبات التى تشكلت بفعل التطور الفكرى والإبداع الإنسانى فى كل مناحى الحياة.
*نقلآ عن “صوت الجماهير”