حلّت ذكرى حدث بتر الرّجل

د. محمد بن  قاسم ناصر بوحجام | الجزائر

مرّت الأيّام وحلّت الذّكرى العاشرة لحدث بتر رجلي، الذي كان يوم  الخميس: 06 من جمادى الثّانية 1431ه/ 20 من مايو  2010م. الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.. كتبت مقالة بعد الحدث تحت عنوان :” أخيرًا كان البترُ وقُضي الأمرُ “.. فقدُ عضو في الجسم ليس بالأمر الهيّن، وافتقاد رجل ليس سهلاً تقبّله، لكنّ الله تعالى أراد ذلك، فلا رادّ لقضائه، ولا مردّ لحكمه.. فما أراده هو لحكمة قضاها..

نحمده  أنّه ابتلانا بهذا الأمر، فعسى أن يكون لنا فيه أجر الصّابرين المحتسبين، (إنّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير حساب)..كم كنت أطربُ وأنتشي حين أسمع من والدتي الكريمة – رحمها الله – تردّد جملة: ” أنت صبور يا محمد”، وكم أتشجّع وأتصبّر حين تتحفني زوجي العزيزة بجملة: ” نتعلّم منك الصّبر”، كم أتسلّى وأتسلّح بما أسمعه من أصدقائي كلمات تثني على صبري.. فأزداد قوّة وإرادة وثقة في نفسي.. رغم اقتناعي أنّني لست بتلك الصّورة ولا بتلك الحال التي يصفني بها من يريد مواساتي وإعطائي شحنة نفسيّة للمضيّ في نشاطي.. جزاهم الله كلّ خير، ووفّقني لأن أرتقي إلى تلك المنزلة، منزلة الصّابرين؛ فأنال أجر من يتّقي ويصبر، فأظفر بأجر المحسنين.

فقدت بهذا الحدث كثيرًا من الأشياء،  وحرمت من كثير ممّا كنت أتمتّع به قبل البتر، أصبحت أتحرّك باحتراز وتحفّظ، وأحتاط من كلّ شيء، وأفكّر مليّا وطويلا – أحيانًا – في الإقدام على إنجاز عمل، أو القيام على مشروع؛ ممّا كنت لا أفعله بهذه الصّفة  قبل الحدث.

كم مرّة كنت أعتذر عن مشاركة زملائي بعض أنشطتهم وأسفارهم ورحلاتهم وجلساتهم .. لأنّ فقدان الرّجل يمنعني من ذلك، فتلك خسارة ، جنيتُها من الحرمان..

أصبجت أعتمد على غيري في القيام ببعض الأعمال، التي كنت أتولاّها بنفسي، وبجدارة واستحقاق واستعداد كبير..  ولم أعد أقوى على القيام بكلّ أعمالي بنفسي، كما امتنعت من مزاولة بعض الأعمال؛ لأنّها تتطلّب شروطًا خاصّة وظروفًا محدّدة.. كانت متوفّرة عندي قبل الحدث، حرمني منها بتر رجلي..

أصبحت ألتزم البقاء في المنزل أيّامًا لا أخرج إلى الشّارع.. فانقطعتُ من حضور بعض مناسبات الأفراح والأتراح، وصرت مدمنًا على الاعتذار عن تلبية دعوات إخواني للزّيارات والنّزهات.. كم من الفرص والمناسبات ضاعت منّي – وستضيع –  بسبب هذا الحدث المفصلي في حياتي..

 حين أريد السّفر يجب أن أتهيّأ له تهيئة خاصّة ودقيقة ومدروسة جيّدًا، ما كنت أفعل كلّ ذلك قبل الحدث. بعض الشّوارع في بلدتي القرارة لم أرها، وبعض الأماكن فيها لم أضع فيها قدميّ من قبل الحدث.. فأنا أزورها أحيانًا بذاكرتي وبخيالي، وبما أتناوله قصًّا أو حكاية عن ذكريّات فيها، أو حديثًا عنها وتعربفًا بها حين تأتي مناسبة ذلك عنها..  

أشياء كثيرة حرمت منها، وأعمال كثيرة منعت تفسي من مزاولتها.. على العموم  وتيرة حياتي تغيّرت، ووسائل تحرّكي تعدّلت، ومشروعاتي تبدّلت.. مع كلّ ذلك أقول: الحمد لله أن جاء هذا الحدث وقد تقدّمت بي السّنّ، وبعد أن تخطّيت كثيرًا من المراحل في حياتي، وبعد أن أتممت مراحل دراستي، التي أستثمرها اليوم في الكتابة والنّشاط العلمي والثّقافي، وهي تتمّ داخل الحضن المنزلي والحصن الأسري، الذي هو الملاذ ومكان الاعتكاف للتّأليف، الذي وفّره لي الحدث، هو منعني من الخروج بكثرة خارج محراب العلم،  ومنحني الفرص  لإنجاز كثير من الأعمال والحمد لله..

كان الحدث بعد ما قطعت أشواطًا في مسيرتي العمليّة، واكتسبت تجارب وخبرات.. هي الآن لي الـمـعين الذي استقي منه، والخّزان الذي أغرف منه، والمرتع الذي أغذّي به مشروعاتي وأعمالي ونشاطي.. أليس في ا ذلك كلّ الخير..؟؟  

جاء الحدث بعد أن كوّنتُ صدقات مع إخوان فضلاء وخلاّن أصفياء، وبعد أن ربطت علاقات مع ناس كرماء، وشخصيّات محترمة، ومؤسّسات وهيئات وجمعيّات معتبرة.. فأنا الآن أستغلّها في النّشاط والعمل وإنجاز أعمال والقيام بمشروعات علميّة، وحضور ملتقيات وغيرها.. بذلك فأنا لا أشعر بغربة أو وحشة أو نقص أو فقد..

الحمد لله أن جاء الحدث وحولي أسرتي تقوم بشؤوني كلّها: زوجٌ صالحة مجاهدة قائمة على خدمتي بكلّ إخلاص وتفانٍ.. فهي الآن رفيقي في معظم أسفاري داخل الوطن وخارجه.. بين يديّ أولادي: ذكورًا وإناثًا.. لا يقصّرون في توفير الرّاحة التّامة لي والاعتناء بشؤوني، ومعي  أزواج أبنائي اللّائي لا يدّخرن جهدًا في تهيئة ما أحتاجه، وأحفادي وأسباطي من حولي يتحرّكون بقدر وسعهم ولا يبخلون عليّ بما يقدرون عليه..بجنبي إخوتي وأخواتي ومن يتّصل بهم بنسب لا يتأخّرون عن تقديم  عليّ بما يستطيعون من مساعدات، وأصهاري يشاركون في القيام بما أحتاجه، ما أطلبه وما لا أطلبه.. أصدقائي وأصحاب الخير والإحسان لا ينفكّون يحسنون إليّ… ماذا أعدّ وماذا أحصي  من المحسنين الذين يقدّمون لي الخدمات والتّسهيلات لأعيش عيشة هنيئة، وأَحْيَا حياة عاديّة.. والحمد لله.

كلّ هذا من فضل ربّي وكان فضل الله عليّ عظيمًا.. فماذا أعطاني الحدث من الخيرات؟ وماذا قدّم لي من الإحسان؟ هو من دون حساب  أرجو أن يجازي الله المحسنين على إحسانهم بغير حساب.

هذا الحدث في النّهاية هو ابتلاء وامتحان، وفضل من الله  ليبلوني االله آشكر أم اكفر، فإن شكرتُ فلنفسي، وإن كفرتُ فإنّ ربّي غنيّ كريم. صغت مقالة عمّا ابتليت به من أمراض تحت عنوان: أيّام حُبالَى بالآلام وأَلطافٌ من ربّ الأنام “، وثّقت رحلتي مع علاج رجلي في قصيدة عنونتها بــ ” رحلة علاج رجلي” وإن كانت لا تعنبي الرّجل الـمبتورة، إنّما تخصّ الرّجل الثّانية التي ينتابها المرض من حين إلى حين. والحمد لله.. الجامع لينهما هو أخذ العبرة..

هذا الحدث وما جرّه من تبعات هو فرصة لتذكّر النّعم الكثيرة التي نحن نتمتّع بها، لكنّنا لا نقدرها قدرها، ولا نشعر بها، حتّى تؤخذ منّا أو تزول عنّا.. نعم الله علينا كثيرة نعدّها ولا نحصيها. نتمتّع بها ولا ندرك  قيمتها، نتنعّم بها ولا نشكر المنعم بها علينا.  كتبت مقالة في هذا السّياق بعد الحدث عنوانه: ” ومن يُؤْتَ الصّحّة فقد أوتي خيرًا كثيرًا”.

سئلتُ عدّة مرّات بماذا تنصح من ابتلي بمرض مزمن، وأنت منهم.. أجبتُ بما يأتي: على هذا المريض أن يطبّق أربع قواعد أو أن يضع نصب عينيه أربعة أشياء: 1 ـــ أن يتقبّل مرضه، حتّى لا يؤثّر عليه نفسيًّا. 2 ــــ أن ينساه؛ حتّى لا يقلق ولا يضجر ولا يتألّم.. 3 ــــ أن يفهمه جيّدًا؛ حتّى يعرف كيف يتصرّف معه، ويفقه كيف يتحرّك في حياته مع هذا المرض.. 4 ــــــ  أن يقوم بواجب الوقاية والعلاج الضّروريين… بهذه القواعد وهذه الخطوات تكون حياة المريض عاديّة بعيدة عن المضاعفات التي تضرّ به.

ما أنصح به كلّ شخص: أن يعوّد نفسه المطالعة منذ صغره، هذه العادة تكون له نعمة حين يكون ماكثًا في بيته بسبب أو بآخر، خاصّة إذا كان المانع من الخروج من البيت أو الاعتزال فيه هو مرض، يحرمه من ممارسة أنشطة والقيام بأعمال، أو الاتّصال بالناس، أو الاختلاط بالمجتمع.. فيكون رفيقه وأنيسه وصاحبه  في هذا الوضع  هو الكتاب، الذي يبدّد عنه وحشته، ويزيل عنه القلق، ويبعث فيح روح التّفاؤل.. بالإضافة إلى ما يزوّده به من العلم والمعرفة.. فما أصعب أن يعيش الإنسان في فراغ، وأن يكون في معزل عن أيّ نشاط يقوم به.. فإنّ هذا الوضع هو الذي  يسبّب الانهيار النّفسي، وتوتّر الأعصاب والنّفور من كلّ شيء..

نسال الله أن يحفظنا ويقينا من السّوء، وإذا ابتلانا بالخير والشّرّ فتنة، أن نكون من الشّاكرين الصّابرين المجتسبين. في النّهاية نقول: إنّه لن يصيبنا إلاّ مد كتب الله لنا، فلا نقنط ولا نيأس، فإنّ ذلك من صفات الكفّار والضّالين  أعاذنا الله منهم. نسأله أن يجعلنا من المؤمنين الصّادقين الـموقنين..

 

                                           الجزائر يوم  الأربعاء:  27  من  رمضان  1441ه

                                                                   20 من   مايو     2020م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى