هل نجحت حيل السرديين في تجاوز تابوهات النشر؟

عليّ جبّار عطيّة | كاتب عراقي ورئيس تحرير جريدة أوروك

شهد عالم الأدب الكثير من المفارقات في ما يخص المسموح والممنوع من النشر على مدى تاريخ السرد، وحسب طبيعة المجتمعات، وقوة أو ضعف النظام السياسي، ونوع التيار الفكري السائد،والزمن الذي تظهر فيه الرواية. لكن ظلت التابوهات الثلاثة (السياسة والدين والجنس) هي القاسم المشترك في منع الرواية أو سعة انتشارها! ولِمَ لا والممنوع مرغوب، والمرء حريص على ما مُنع.. كما يقال!


كانت هناك رواياتٌ جريئةٌ في طروحاتها ونقدها للواقع السياسي والاجتماعي، ونالت حظها من المنع مدة، غير أنَّ الحظر زاد من انتشارها، لكن لم تجدِ مرموزات بعضهم، ولا استتارهم خلف الكنايات، والاستعارات، والتشبيهات في خلاصهم من المساءلات المجتمعية، ولا الملاحقات القانونية، والأدبية بغض النظر عن جودة المادة أو رداءتها. ولا يمكن للباحث أن يمر بتاريخ الأدب دون أن يتوقف عند نماذج من بعض هذه الروايات المثيرة للجدل كروايتي الكاتب البريطاني جورج أورويل: (1984)، و(مزرعة الحيوان)، كذلك رواية (الساعة الخامسة والعشرون) للكاتب الروماني قسطنطين فيرجيل جورجـيو، وأيضاً روايات الكاتب الألماني إريك ماريا ريمارك: (كل شيء هادىء في الجبهة الغربية)، و(للحب وقت وللموت وقت)، و(ليلة لشبونة). وفي كل هذه الروايات إدانات صريحة للحرب والديكتاتورية.


لا ننسى رواية (السيد الرئيس) للكاتب الغواتيمالي ميغل أنخل أستورياس، وقد أصدر روايته سنة 1946 ونال بسببها جائزة نوبل للآداب سنة 1967 لكن روايته لم تترجم إلى اللغة العربية إلا سنة 1985!! وقد قرأنا هذه الرواية زمن الديكتاتورية، ولم نصدق كيف سمح الرقيب العراقي بنشرها ابتداءً من اسمها المستفز للإعلام الرسمي، والخطاب الحزبي، وانتهاء بمضمونها المتطابق مع الوضع السياسي السائد وقتها! كذلك روايات العملاق الكولومبي غابريل ماركيز وبالأخص رواية (خريف البطريرك)، ورواية (مئة عام من العزلة) كذلك رواية (دكتور جيفاكو) للكاتب بوريس باسترناك، ورواية الكاتبة التركية إليف شافاك (لقيطة إسطنبول)، وفي العالم العربي سلسلة روايات تركي الحمد (أطياف الأزقة المهجورة : العدامة، والشميسي، والكراديب)، كذلك رواية غازي القصيبي (شقة الحرية)، و(حديقة الحواس) للكاتب عبده وازن، و(جمهورية كأنَّ) للكاتب علاء الأسواني، وللكاتب علي بدر رواية (بابا سارتر) التي يتناول فيها بعض الشخصيات المؤثرة في المجتمع العراقي سنوات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات،وتأثير الفلسفة الوجودية في الشباب وقتها، وربما تحدث عن ذلك من وجهة نظر جيله، وهو يوثّق للأماكن والمحلات، والمقاهي، والحياة العراقية كما يراها في الواقع آنذاك.


سأتوقف عند بعض الروايات التي أثارت ضجة كبيرة بحسب ظروف صدورها لنتلمس المفارقات في ذلك، فمثلًا : رواية (وليمة لأعشاب البحر) للكاتب السوري حيدر حيدر تدور أحداثها حول مناضل يساري عراقي هرب إلى الجزائر، ويلتقي بامرأة تعيش الهم السياسي نفسه. هذه الرواية لم تثر أي ضجة حين صدرت في سوريا سنة 1983 لكنَّ إعادة طباعتها في مصر سنة 2000 لفتت الأنظار إليها، وأثارت الجدل بشأنها وطالب علماء الأزهر بمنعها؛ بدعوى إساءتها للإسلام، فهل هذا يدل على تحولات في المجتمع العربي من الانفتاح والتحرر إلى المحافظة والتشدد، أم يعود إلى قوة التيار الإسلامي في نهاية الألفية الثانية؟
لكنَّ الحال مختلف مع رواية (أولاد حارتنا) للروائي نجيب محفوظ (1911ـ 2006) وهي الرواية التي نوهت لجنة جائزة نوبل بها في حيثيات منحها الجائزة للكاتب نجيب محفوظ سنة 1988. تقص هذه الرواية الصراع البشري منذ خلق آدم، من خلال حارة يتزعمها شخص اسمه الجبلاوي، وصراع ولديه أدهم، وإدريس، والشيطان، فيقتل إدريس أدهم ويُطرد من الحارة، وتحفل الرواية برموز واضحة الدلالة على الديانات التوحيدية الثلاث، مع إسقاطات على الواقع الاجتماعي المصري. بدأت مشكلة الرواية بعد نشرها على فصول في جريدة (الأهرام) فطالب بعض شيوخ الأزهر بوقف النشر، لكن رئيس تحرير جريدة (الأهرام) الكاتب محمد حسنين هيكل أصر على نشرها كاملة، وهذا ما حصل وقد صدرت الرواية في بيروت سنة 1968، وتأخر نشرها في القاهرة حتى 2006 وهي السنة التي توفي فيها نجيب محفوظ فأُثيرت الضجة من جديد.


ثمة رواية أخذت شهرةً ليست نابعة من جودتها، وإنَّما من الظروف المحيطة بمؤلفها، وتوقيت صدورها ألا وهي رواية (آيات شيطانية) للكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي. صدرت الرواية في لندن بتاريخ 1988/9/26 م وبعد تسعة أيام تلقت دار النشر الآلاف من رسائل التهديد والاتصالات الهاتفية المطالبة بسحبها من المكتبات .
وقد قامت دول عدة بمنع الرواية من التداول منها بنغلاديش والسودان وجنوب أفريقيا وكينيا وسريلانكا وتايلاند وجمهورية تنزانيا المتحدة وإندونيسيا وفنزويلا وسنغافورة، كما خرجت تظاهرات منددة بها وبالكاتب في إسلام آباد ولندن وطهران وبومبي ودكا وإسطنبول والخرطوم ونيويورك، وأُحرقت أعداد كثيرة من نسخها في برادفورد في بريطانيا 1989/1/14م، وقام كيث مرشح حزب العمال البريطاني إبان فوزه سنة 1989 بمسيرة تندد بالرواية، وتطالب بمنعها لتجاوزها حرية التعبير، ودخولها في إهانة مقدسات ثقافات الآخرين، أما رئيس حزب المحافظين السابق نورمان تيبيت فقد وصف سلمان رشدي بأنَّه شريرٌ وطالبُ شهرةٍ، وأنَّ حياته العامة سلسلة من الفضائح والتصرفات النزقة الشائنة يهين فيها تربيته، ودينه، ووطنه الثاني وجنسيته. وأدانت صحيفة (الفاتيكان)الرسمية الكاتب، وندد أسقف نيويورك بالرواية، وطالب الحاخام اليهودي الأشكينازي أفرام شابيرا بمنع نشر الرواية في إسرائيل، و استنكر المجمع الفقهي الإسلامي (رابطة العالم الإسلامي) بمكة الرواية ووصفها باحتوائها على الكفر والاستهزاء بالإسلام. لكنَّ أقوى رد كان بصدور فتوى في 1989/2/14 من المرجع الديني آية الله الخميني بهدر دم الكاتب سلمان رشدي !


ويمكن القول: إنَّ السارد الناجح هو مَنْ تترتب عليه مسؤوليات مضاعفة فيعمل على طرق أساليب، وابتكارات للتعبير عن أفكاره مراعاةً للظروف العامة لتصل نتاجاته إلى القراء المعاصرين له أولًا، وإلى الأجيال القادمة مستقبلًا، متجاوزاً المحظورات، فلا توجد حرية كاملة في أية زمان ومكان، وأنَّ حفظ الوجود الإنساني أولى من كل الحيثيات المادية والمعنوية، والأمجاد الأدبية الحقيقية، والمزيفة على حدٍ سواء.
ولعلَّ التداعيات الخطيرة التي تتبع نشر بعض الروايات هي التي تجيب عن بعض التساؤلات التي تدور في أذهان الباحثين بشأن سر لجوء الأديب إلى التعبير بالرموز عن العلاقات الإنسانية، والأنظمة الحاكمة بحكايات وقصص الحيوان كما في قصص التراث مثل قصة (كليلة ودمنة)، و(حكايات إيسوب)، وقصص الأطفال وغيرها، بل حتى في تداول الملاحم والأساطير عبر التاريخ البشري الشفاهي، والمكتوب.
أليس في ذلك حسن تخلص من المساءلة المجتمعية والقانونية ؟
بل لماذا يلجأ الإنسان إلى الأمثال في حياته اليومية العادية، أليس في ذلك حيلة ذكية منه لإصابة الهدف بأقل كلفة وجهدٍ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى