قراءة في ديوان فراس حج محمد على حافّة الشعر ثمّة عشق وثمّة موت [1]
فاطمة عبد الله سلامة [2]| فلسطين
على الرغم من أن الكتابة حول هذا الديوان لن تفيَه حقّه، وسيظل هناك قصائد كثيرة نغلق عليها التأويل، إذ من العسير علينا لملمة انفعالات الشاعر التي ميزت شخصيته وأسلوبه ووجدانياته المتفردة بمزاجه العاصف، وروحه المليئة بالتوتر، إلا أنني حاولت.
حين يكون الإهداء “إلى من مروا على لغتي وأقاموا فيها صلاتهم”، فهل يكون علينا المرور على لغة متخيّرة الألفاظ، عذبة المعاني، منتخبة جيدة السبك مرور الكرام؟
بالطبع لا. فحين نقف بين يدي لغة فراس حج محمد نقبل عليها بأفعال وأعمال التذوق، والتفسير، والتعليل، والتحليل، وبخشوع لنقيم صلاة، والصلاة تحتاج طهارة، وطهارة القلب هي المرادة، فاغمس قلبك بالحب وأقبل.
“على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت”[3]، والعشق والموت واحد، ففي تعريف للعشق قال محيي الدين ابن عربي “العشق التفاف الحب على المحب حتى خالط جميع أجزائه”[4]، والعشق هو الإفراط في الحب والشغف بالمحب،تُفقد فيه السيطرة على العقل ليجمح ثورة القلب.وفي سيرة لابن العربي كتبها محمد حسن علوان “موت صغير”[5] عنى به العشق.
وللمرور إشارة تضاء ليدخل بها الشاعر ديوانه، قصيدة (إشارة مرور) ص11.
في زحمة عاطفية
أكتب كي أمرّرني بين خطوط ملتوية
فثمّة امرأتان ونصف كائن بشريٍّ هناك
امرأة أحبّها وتصمت
وأخرى تحبّ أنايَ فأصمت
وأنا أخلع في الفراغ كياني وأمرّ…
الشاعر في هذا الديوان يكتب القصيدة خارجاً عما ترسخ في الأذهان أن القصيدة هي التي تكتب الشاعر…والشعر إلهام، والشاعر يوحى إليه…
أول ما يعثر عليه المتلقي في هذه القصيدة الألم وملامح شكوى تشير إلى نفس حساسة مرهفة الشعور، وهذا جانب من جوانب الشاعر، له بواعثه ومقدماته، ونتائجه، على طول صفحات هذا الديوان.
في المجموعة الأولى من الديوان “من غمسة الريشة” يتدفق حبر الإبداع وينسجم بين الخيال واللغة المدققة المنمّقة، وقوة الديباجة وزهو الزهور والورود بين أبيات الشعر:
الشّعر سيّدةٌ زهراءُ هائمةٌ
تختالُ زهوتُها بينَ البساتينِ
تمشـي بأحْرُفِها في غُنْجِ فاتنةٍ
تسقي الورودَ بأقداحِ الحساسينِ
وتعزِفُ الفردَ من ألحانِ نشْوَتِها
جَذْلى يعانقُها بوْحُ الأَفانينِ
شمّاءُ فرعاءُ لا تلهو بأَظْفُرِها
نَجْوى الجَلالِ بأفياءِ الرَّياحينِ
من قصيدة (الشعر سيدة لسيدة الشعر)ص15.
ست قصائد في هذه المجموعة تفوح مفرداتها برائحة الورد والياسمين والرياحين والنرجس.
في المجموعة الثانية “منمنمات” ليس هناك شك في صدق العاطفة وحرارة الانفعال التي تصل إلى المتلقي. (منمنمة على شغاف القلب) ص29:
أتت على فرعين من لغةٍ
محمّلةً بوهجٍ
مثل موجٍ
طائراً غنّى على برْجٍ
وهاجْ
حطّت على فرعي
ومعي معي
وتسرّبت في أضلعي
مثل ألسنة السّراجْ
قطفت من الشّفتين كِلْمةْ
ومن القلب المضمّخ شمّهْ
ومن العناقِ على العناق أمتعَ ضمّةْ
مثل ماء الوصلِ في صفو امتزاجْ
قصيدة (على صهيل الحب ) ص31 يحلق الشاعر بروحه وشاعريته إلى السماء بإنشادة رائعة:
أحبّك قدر ما في الكون من حبٍّ
ومن مطرٍ
ومن ذكْـرٍ ومن شعرٍ ومن نثْرٍ
ومن شهوةْ
ومن شمسٍ ومن ليلٍ
ومن أملٍ ومن يأسٍ
ومن ضعف ومن قوّة
أحبّك قدر سمائنا بنجومها
وبضوئها
وخيالها
شغفا بصهيل المهرة الحرّةْ
وقدر الأرض كلّ الأرضْ
بمحبّة نافت عن القدرةْ
وقدر ما في الزّهر من عطرٍ
وما في الغيم من قطرةْ
أحبّك قدر ما في لوحنا المحفوظ من قدَرٍ
أتى يشدو الغرامَ بقمّة النّشوةْ
قصيدة لها لحن خاص يصعد ويهبط، يرسم لوحة تتسع بالضوء وتضيق بالظل، وحرف العطف الذي لا يكاد مطلع سطر يخلو منه وإن غاب أحضر الشاعر مفردة أحبك. يفعم قلوبنا بالحب والتعاطف معه وهو مؤمن بالقدر المكتوب باللوح المحفوظ.
في اعتقادي استطاع الشاعر أن يعبر عن عمق شعوره وصدقه ويسجل همسات قلبه بكل ما فيها من ضعف وقوة ويأس وأمل بأنغام، وألوان متكاملة شجية وفي قطع موسيقية لا تخلو من الإبداع والتميز.
في هذا الديوان أيضا ظاهرة وسعت الشعر والنقد، يبحث في العلاقات انسجاما بين الخيال والواقع، فنجد فراس الناقد الاجتماعي والفني والأدبي والمفكر،بعين الناقد يقرع طبولا كثيرة وبإحساس الشاعر يصوغ قصيدة تعكس البعد الثقافي لشخصيته.
المجموعة الثالثة- إللات: محاولة في القفز على حواجز اللغة
القصيدة الأولى في هذه المجموعة (إلى الحفيدات: عن الفتيات اللواتي لا يعرفن جدّهنّ)
قصيدة تنساب من شعور يتفق ومزاج أصيل يدركه المتلقي ويعايشه، فتنساب الكلمات بلا تكلف ولا صنعة ولا اختلاف، ينطلق بالقصيدة ودون زخرفة يرسم لوحة حسبما يتفق وذكرياته وذوقه يحصي فيها خسارة الحفيدات دون أجداد.
يكتب الشاعر إلى أصدقاء وصديقات يكنّ لهم الوفاء، وإلى شعراء وأدباء نقدا وتقديرا، وإلى نساء يجهر أو يرمز إليهن، ولهن مكانة خاصة لديه، يقودنا إلى عالمه الخاص فنقف أمام صور شعرية ندرك فيها شعورا إنسانيا ينمّ عن مدى العمق والشمول، في الاتصال بالكون والحياة ويرسل تعابيرَ موحية لنقف على الدلالة المعنوية والذهنية للألفاظ والعبارات. كقصيدته إلى الشاعر أشرف فياض (كيف أنجو من الأيديولوجيا؟)ص100، وقصيدة ( إلى ايرما جارسيا من زوجها جو) ص111، وقصيدة (إلى ابراهيم نصر الله روائيا: الصعود إليّ قَبلا) ص103، والتي سبق وتناولها فراس حج محمد في إحدى مقالاته النقدية، ويتناول في القصيدة شخصيات الرواية ويدخل في مكوناتها. وكما فعل في قصيدة (إلى جاد عزّت :كأنه “الناقص مني” أنا أيضا) ص83، وانغماسة روحية في ديوان الشاعر جاد عزّت.
و(إلى الشاعر العباسيّ أبي تمّام باحثا عن وصْل الشعر) ص135.
هذا الشاعر الذي شغل القدماء والمحدثين في تناول أشعاره ونال شهرة في حياته وبعد مماته، ذلك لأنه عني بمفهوم الشعر انشغالا بوظيفته، لقد سيطر على عقله مفهوم الشعر بشكل غير مسبوق فكان يدعو إلى التأني إليه ومن ذلك قوله[6]:
ولكنه صوب العقول إذا انجلت
سحائب منه أعقبت بسحائب
والصوب هنا المطر ، وهذا البيت يعني أن دلائل الشعر لا نهاية لها، ومعانيه لا يحجزها فضاء، فالشعر ليس وحيا فقط، إنما هو العقل والثقافة وسحائب متتابعة.
أما البيت الذي اختاره فراس حج محمد فهو بيت عجيب يأتي به أبو تمام بوعي صريح مباشر قاطع (الشعر فرْج)[7] إنه لا يوارب ولا يقارب، يقول لك صراحة إن الإبداع هو هذه العلاقة من التداخل والتمازج والمتعة، وكل متعة تحتاج إلى رعاية واجتهاد، فلا معنى دون معرفة، ولا معرفة دون بحث وتعمق وتأمل، وأبو تمام يرى القصيدة امرأة حلوة لا يسهل على العابرين إتيانها، وفراس حج محمد يأتي ببيت أبي تمام، بقصيدة يقودنا إليه ويعبر عنه، يهتك أسرار بيت الشعر ويمزق حُجبه.
هذا الديوان بشكل عام معرضا لتفنن الشاعر وتنوع موضوعاته، ولهذا كان من الصعب على القارئ تناول الديوان دفعة واحدة، إذ من الصعب جدا خلق جو نفسي عام لتلقي تنوع الموضوعات فعلى القارئ الخروج من حالة ذهنية إلى حالة ذهنية أخرى، ومن نقلة نفسية إلى أخرى. ولكن أيضا في هذا الديوان ما يطرد السأم من النفس، فتتركه برهة لتعود إليه بشوق محدثا فيك المتعة والدهشة.
يمضي الشاعر في قصائده إلى صوفي ، مهداة إلى امرأة لا تمل من الحب، تنوع هنا أيضاً بين الشعر المقفى وشعر التفعيلة وقصيدة النثر يسرد انفعالاته وأحاسيسه ويصور جزيئات شعوره حينا وعاطفته الملتهبة، وثورة جسده حينا آخر، يغرق في الغزل وتفوح القصائد بالحب، الذي لا يخلو من الوجع والمعاناة كما في قصيدة (مشهدان لوجع يدعى الحب)ص170
(يا كلّ صبـــحٍ ناقضٍ متــــناقضٍهلا اتَّقيتَ الله في القلبِ الشّقيْ)
(1)
الحبّ أنّك موجعٌ دون سببٍ ظاهرٍ
تُعجزُ الطبّ والأدوية
وتفسد اختراع الطمأنينة والهدوءْ
تلغي قوانين الطبيعةِ
والشتاء الطويل الكثيفُ يصبح أقصرَ من فروع الشجرةْ
الحبّ لغة تسبح في بياض القلبِ
صمتِ الشفاهِ
احتدامِ التأمّلِ
اضطراب المنطقِ المعتلّ أصلاً
الحبُّ حبّة قمح فاسدة تستقرّ في قعر تربةِ القلبِ
تفسده عن آخره
تجعله هشّاً كقبضة قطنٍ
طرياً مثل الزغبْ
شائكا كجملة رعويّة المعنى تماماً
مائعاً كالهواء ساعة الفجر الأوليّ
الحبّ تعثّرٌ، وتلعثمٌ، وتغرّبٌ، وتبعثرٌ
وإضاءةٌ فضّاحةٌ لمجرى الدمْ
الحبّ هذا الكلامُ الذي يوجع الوقتَ
ويكتب الحدَّ
يقتل اشتهاءات المجاز في سلّة الذاكرةْ
(2)
ثمّةَ ما أعددْتُه لامرأةٍ أخلفت موعدَها الوحيدَ معي
ولم تأتِ
فصارت كالحجرْ
ونَسيتُها، ونسيتُ ما شكلُ الكلامِ
قصيدةً وبريةً المعنى تنام على يديّ كوهج نارْ
ونسيتُ موعدَها…..
فيطلق هنا بواعثه النفسية ولوعة الحب وما يصيب المرء به من الإطراق والصمت والشرود.
في المجموعة الرابعة “في مديح النهد” وهذا ورد في المجموعة الثالثة أيضا، قد يضيق صدر بعض المتلقين من زاوية أخلاقية بشعر فراس ويسقطونه في هوة لا قرار لها، ويتبرمون ويتحرجون منه في المقاييس النقدية،ويعتبرونه متهتكا مستهترا، ويعتبرون شعره لا يصح للناشئة أن تطلع عليه، لما قد يحدثه من أثر رديء في نفوسهم ويضر بأخلاقهم.
هنا الشاعر ليس واعظا أخلاقيا، وهذه المادة ليست تربوية، فالشعر هنا يرتبط باللذة الجنسية، ويبدع في منحها طاقة تصويرية هائلة، والجميل أن فراس كان صادقا مع نفسه وهو يكشف ما يختلج فيها، صادقا في تجربته وبالخبر الذي يقدمه، صادقا في أمور قد يتهم فيها بخلقه وتدينه، ومخلصنا في القضاء على مسافة ما يشعر به وما يقوله.وإن كان الشعر قائما على التخيل وليس لنا عليه البرهان الصادق، فألذ الشعر أكذبه، إلا أنه ينهض بمخيلة السامع.
يقول الناشئ الأكبر وهو أبو العباس عبد الله بن محمد في تعريف للشعر ووصفه:”الشعر قيد الكلام،وعقال الأدب، وسور البلاغة،ومجال الجنان، ومسرح البيان، وذريعة المتوسل، ووسيلة المترسل، وذمام الغريب، وحرمة الأديب، وعظمة الهارب، وعذر الراهب، وفرحة المتمثل، وحاكم الإعراب وشاهد الصواب”[8].
المجموعة الأخيرة: في حبسة الكوفيد التاسع عشر
يتناول الشاعر الانقطاع عن العالم، وما أحدثه هذا الفيروس من تغيرات في حياة الناس وأمزجتهم، وإحساس الشاعر بالضجر والملل والكآبة والملل، يضع الشاعر القارئ بين فكي الإحباط والتخبط، والانتظار والترقب بلغة شعرية وصور مبتكرة، كما في القصيدة الأولى من هذه المجموعة (رسائل الشبح الصغير) ص204
ماذا حلّ بالحداثة يا ولدي؟
يقولون إنها أضحت في مأزق وجوديّ كبير
يقف الشبح الصغير المحتال ضاحكا من بارودة الجنديّ في مشهدٍ عبثيّ لطيف؛ مؤلم في الحالتينْ
الشبح الصغير يحقّق انتصاراته دون عناء يذكر
يجلس مرتاح البال يلتقط الضحايا في كلّ مكان
يحاصر المحاصرينْ
هذا الشبح الذي سبب الخوف والهلع وأدخل العالم طلاسم الخروج من هذه الجائحة.يختم الشاعر قصيدته
حتما “هذا الوقت سيمضي” ويكون للعالم وجه آخرْ
(هذا الوقت سيمضي) مقولة لوزير هندي يصل إليها الشاعر في نهاية القصيدة، ولهذه الجملة قصة معروفة، وهي جملة ذات قيمة في الحياة بإمكانها أن تعيد التوازن للنفس البشرية بأنْ لا شيءَ دائم.
الهوامش:
[1] مداخلة خاصة لندوة دار الفاروق الخاصة بمناقشة الديوان، نابلس، 15/7/2023.
[2] كاتبة من القدس، صدر لها العديد من الروايات، وعضو لجنة دار الفاروق الثقافية.
[3] صدر الديوان عن دار بدوي للنشر، ألمانيا، 2022، وهو الديوان الثامن للشاعر.
[4] الفتوحات المكية، ابن عربي، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، المجلد الثالث، ط1، 1999، ص484.
[5]رواية “موت صغير” للروائي السعودي محمد حسن علوان. صدرت الرواية لأوّل مرة عام 2016 عن دار الساقي في لندن. حازت على الجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2017، المعروفة باسم “جائزة بوكر العربية”.(الويكيبيديا)
[6] شرح ديوان أبي تمام، الخطيب التبريزي، دار الكتاب العربي، ط2، 1994، ج1، ص118.
[7] السابق، ص413.
[8]البصائر والذخائر، أبو حيان التوحيدي، ت: وداد القاضي، دار صادر، بيروت، 1988، ج5، ص218.