لو يمهلني عمري
محمد الدرقاوي | المغرب
غدا لن أكون هنا، الليلة سأغادر وكرا بلا فواصل،عشا بلا خصوصية، غدا قدتكون نهايتي أو خلاصي من ليالي الأرق، والإحساس الداخلي بعريي أمام نظرات الجيران.. فقدان الرعاية وكتم الأنفاس، وماض من سنوات عمري فوق لحاف من تبنمهترئ، خانق برطوبة ،تزاحمني فيه أختي الصغيرة..
دمعات أمي الزائفة وخوفها الكاذب من الغد يذكرني بيومنعى فيه أهل الحي موتأبي، كانت أمي تهتز بشهقات وأنا أحملق فيها بهدوء نفس لا أجد سببا لعويلها ولاأثق في دموعها؟ ألم يكن في رحيلة راحة مما عانيته بعلمها وأمام عيونها من انكسار قاهر مذل: آلام نفسية وحروقات أشد من طعنات السكاكين؟ ربما كانت تشهق لفقدان رجل كان بادئ الليل يؤنس سريرها،ثم لا يلبث أن يتركها مدمدما أو زافرا، وأحيانا لاعنا غاضبا قبل أن يندس الى جانبي! ..ألم تكن تعلم أني كنت أسمع وأرى؟.. بلى ..كانت تعلم لكنها كانت تتناسى وجودي ككيان من لحم ودم وإحساس! ربما بنت الخامسة التي كنتها في عرف أنانيتها سريعة النسيان، لا إدراك لها ولا وعي بما حولها، فأحرى أن تمتلكه أختها الصغرى في عامها الثالث الوجلة بين أحضانها.. صاحيتين كنا، تتسربل دموعنا،لسان أخرس وقلب يتصدع فرقا،حين يرتمي أبونا إلى جانبنا حيث لامكان غير هذا قد يأوي إليه في كوخنا القصديري.. ربما كانت أمي تستلذ بفعله، وبه تطمئن، راضية، لأننا كنا لها قربانا هو أهون عليها من أن يتحول زوجها إلى امرأة أخرى غيرها تشاركها نذالته ووساخته أو قد تستأثر به عندها ..
لم تخبرني أمي شيئا عما قد يحدث لي غدا، رغم تساؤلات الرعب التي كانت تقرأها في عيوني، لقد تركتني لنفسي وكأنها لا تدري مصيري المنتظر إذا ما صرت وجها لوجه مع رجل بلا حماية، كما كانت لا تدري أثر استغلال أبي لجسدي بعد غضبه حين ترفض له رغبات سريره ..
صديقة عاشت تجربتي هي من تكفلت بحالي، لازمتني لتشجعني، وتذيب مخاوفي، محاولة وأد الفزع بين أضلعي:
ـ لا تخافي، مصطفى لم يخترك زوجة إلا انبهارا بجمالك وتعلقا بك مذ كان يسكن قريبا من حينا، واحمدي ربك أنه مقطوع من شجرة؛ الكبسولة التي معك ستبعده عن كل سوء ظن أو ارتياب، تشجعي، أغلب بنات حينا مررن بنفس اللحظة واستطعن الخروج بسلام.. منهن من اكتفت بكبد دجاجة، ثم لا تنسي قوة التميمة التي سأعطيها لك، يكفي أن ترددي في نفسك وهو يخلع عنك ثيابك: “بزولة أمو تلقم فمو” ..ثم تظاهري ببعض الألم إذا ما حاول أن يعاود مسك..
كنت أسائل نفسي:أين تعلمت صديقتي كل ما تريدني أن أتلبس به من خداع ومكر، أوهام، ودسائس؟
مرت الليلة بسلام، فقدكان زوجي لطيفا لبقا، خفف عني الكثير من التوتر الذي انتابني من جراء ما استبد بي من رعب، فقد كنت مستعدة للانتحار إذا ما كشف زلتي.. فما ذنبه إن كان رجلا لازال يؤمن بالبكارة كعلامة للشرف والعفة ثم يجد نفسه ضحية بلا سفك دم؟ وما ذنبي وقد تم سفك دمي اغتصابا بلا إرادتي لكن برضى من كان عليها أن تقاوم نذالة أبي؟
لم تحاول أمي أن تسأل كيف مرت ليلتي؟ أشك أن يكون الخجل هو ما منعها!..فمثلها لا يعرف الخجل، ربما تعمدت ألا تثير ماض عانته مع أختي الصغيرة وهي من فضحت سلوكيات أبي وخالي من بعده بين أترابها، أو ربما هي الثقة التي وضعتها في خبرة صديقتي وقد مرت بنفس التجربة وهي اليوم أم بتوأمين..
مع الأيام شرعت تنتابني آلام حادة أسفل بطني كلما جامعني زوجي، احتفظت بالسر في نفسي لأني خشيت إن أنا أخبرت أمي أن تتنمر علي كما فعلت ذات صباح حين أخبرتها بأن أبي قد أذلني وأسال دمي بلا رحمة ولاكرامة، شدت بخناقي وقالت: سر يجب أن يظل في صدرك وإلا قتلتك إذا خرج لغيرك، أن تكوني أنت خير من أن يهجرني أبوك ألى غيري..
هكذا خافت أمي على رجل أن يتركها لغيرها ولم تأبه لحرمة وشرف ومستقبل ابنتها، ربما هي نفسها قد أتته بلا شرف وقد التقطها متسولة تطرق الأبواب..
تفاصيل كثيرة شرعت ألاحظها على مصطفى زوجي، لا أنفلت من رقابته، يمنعني من زيارة أمي إلا إذا كان معي، ولفترة قصيرة محدودة، يكره زيارتها لي خصوصا في غيابه، كما أنه يقلق من وجود أختي عندي؛ كنت أحاول أن أتجاهل سلوكه حتى لا أفاجأ بما قد يكون يعرفه عن أختي وأمي، وما صارتاه بعد مغادرتي الوكر،فألسنة النميمة لا تنخرس أبدا فهي كبخور الأضرحة إذا لم يكتسحها دخان تنشر روائحها ..
توقفت آلام أسفل بطني بعد زيارة لطبيب خاص والذي زف لزوجي خصوبة رحمي بعد شهرين من زواجي، ثم زودني الطبيب إثر زيارة ثانية بأدوية تخفف من تعبي الشديد وإرهاق منعني من القيام بواجباتي نحو زوجي، خصوصا وقد تلبسني خوف مما كان يستحوذ على أمي ويثير هواجسها:هل يتركني زوجي إلى غيري مبكرا؟..ما يحيطني به مصطفى من عناية يُكذِّب ذلك، وإنصافا له فقد شرع يحاول أن يحسسني بالأمان والرعاية،كف عن الجلوس في مقهي الحي أسفل سكننا بعد نهاية عمله حتى يساعدني في أعمال البيت، يمدح كل مجهود أبذله لإرضائه ..وبصراحة فقد تعلقت به كإنسان ثم كزوج شرع يمحو بسلوكه معي كل أثر سيء عن بعض الرجال..
صرت أعاني بعضا من مضاعفات الحمل، ارتفاع الضغط وتراكم السكر في دمي مع آلام حادة في القدمين.. ربما كنت السبب في تفاقم ذلك، فقد أفرطت في الأكل وقد تفتحت شهيتي لخير زوجي وما يجلبه من أطعمة وحلويات أحبها..
تَم نقلي ذات مساء على وجه السرعة إلى المستعجلات، ثم لزمت سرير المستشفى أياما في شبه غيبوبة حتى أظل تحت المراقبة.. لم يزدد أمري إلا استفحالا بعد عودتي إلى البيت، وفي إحدى الليالي أيقنت موتي لا محالة..
كان زوجي لا يفارقني، أفقد الوعي ساعات وحين أصحو لا أجد غيره بجانبي..كنت أحس قلقه علي وأتابع رغم وهني مزيجا من نظرات الحب والشفقة والعطف في عينيه..
بدأت الوساوس تأكلني، لماذا يمتنع عن الاستعانة بأمي؟ حتى أختي يرفض أن تظل بجانبي؟ لا شك أنه يخفي سرا يؤخر البوح به حتى لا يضاعف به آلامي خوفا على ما في بطني منه.. مسكت بيده في إحدى لحظات صحوي وتوسلته أن يستدعي أمي..وضع يدي بين راحتيه ثم رفعها إلى شفتيه ؛ انفتقت صرة غيم في عينيه.. كانت أول مرة أرى دمعة تتدحرج على خد زوجي.. قال :
ـ أنا أحببتك كوثر لجمالك وقلبك الطيب العطوف رغم الحزن الساكن في عيونك والألم الذي يعصرك مما مورس عليك من ظلم وتطاول ولا أريد أن أتعبك أكثر خوفا على جنينك، لكن إصرارك على استدعاء أمك يلزمني بالصراحة.. هي ليست أمك، فلا أم تغض الطرف عما فعله بك أبوك الندل الوضيع إلى أن مات مقتولا في معركة لم يكن في مستواها، أما أختك فلا داعي لتعرفي ماصارته وحتى أختصر لك الطريق فلك الخيار بعد الوضع، بيتك أو بيت أمك؟
أكملت في سري: أو مأواي الأخير ..
لم أكن في حاجة إلى أن أصارحه بواقعي، فقد كان يعرف كل التفاصيل، أدركت الآن أنه منذ أن تعرف علي وإلى اليوم قد مارس معي بلا تبجح ولا تعالٍ أوفرض سيطرة فضيلة الستر بدل مذلة الفضيحة وهذا لا يقوم به إلا رجل شهم يريد المرأة لذاتها وما يثيره فيها من صفات، وأنه لايأبه بما يمارسه غيره من سلوكات وكما عبر عن ذلك مرة :”كل شاة برجلها معلقة “..
تم نقلي قبل الفجر إلى المستشفى:كنت موقنة من نهايتي.. لو يمهلني عمري فأشكر يدا اصطفتني باختيار ونفسا رفعت قدري بعد انحطاط، وعقلا قرأ دواخلي بوعي وتقدير ومراعاة ..
بعد أسبوع من غيبوبة والكل من حولي متأكد بمن فيهم الطبيب والممرضات أني لن أصحو منها.. فتحت عيني لأجد بنتي تبكي قريبة مني وأجد زوجي يمسح عرق جبهتي وهو يحمد الله على أن وهبني الحياة من جديد..