من غواية السيرة الذاتية
د. كاميليا عبد الفتاح | الإسكندرية – مصر
استغرقتُ عدةَ أشهر في التعرف على الخطوط الأساسية للفلسفة الوجودية في مدرستيها – أو طرحيها: سورين كيركجورد، وسارتر . وأعتقد الآن أني كنتُ أتلقى هذه الأفكار بكيفية رومانسية ، وأنني كنتُ أتوقفُ عند ما يتناسبُ مع موقفي من الحياة ، وطبيعة نظرتي إليها ، فقد راقني – وبشكل عاطفي حاد – قولُهم بالاغتراب والعبثية والقلق والهلع الوجودي، وفكرة السقوط واليأس والعدمية، وبُهرتُ كثيرا بالطرح الفلسفي لمارتن هيدِّجر حول القلق كأزمة وجودية عميقة في نسغ الجبلة الإنسانية، انتقلتُ منه إلى ألبير كامو ، إلى سارتر ، ونيتشة .
المُدهش أنني – وكما أدرك الآن إدراكا واضحا – كنتُ أتلقّى هذه الأفكار بطريقتي الخاصة، و كنتُ أخضعها لشخصيتي، و أخرجُ منها مُستخلصا لا يمت للوجودية بصلة ، ولا يتصادم مع إيماني بالله، ولا مع جوهر الإسلام .أعتقدُ أني كنتُ أطالع الفلسفة الوجودية باعتبارها نظرية اجتماعية أدبية، فراقني فيها هذا الشغف بالحرية، و وفق هذا فهمتُ مبدأهم: الوجود يسبقُ الماهية، أو يسبق الجوهر. كانت الشاعرة الصاخبة المتمردة داخلي هي المُحتفية بهذه الأفكار احتفاء داخليا صامتا، أو هكذا ظننتُ . لم أنتبه إلى ما تسلل إليّ من اكتئاب وميلٍ حاد إلى العزلة، وإفراط في التشاؤم والهواجس ، وتهوين مُتطرف من جدوى كل شيء وأي شيء ..أي شيء!
هل أُتهم سارتر وهيدّجر وكامو ، وأغلق هذا الملف ؟! لا أستطيع على الإطلاق ، لأنّي سأُقبر حقيقة أكبر من أن تُقبر ، وهي أنّ ما تسلل إليّ من اكتئاب وتشاؤم وميلٍ إلى العزلة ، لم يأتني من فلاسفة الوجودية ، بل أتاني قادمًا مني إليَّ ، طالعا من أضلعي إلى سطح جلدي، من رئتي إلى أنفاسي.. وأنّي حين توجهتُ للفلسفة الوجودية أبحثُ فيها عن دلالات الاغتراب – مما يتعلق برسالتي للماجستير – انشغلتُ عن هذا الهدف، بما وجدتُ فيها من احتفاءٍ بهذه المشاعر التي كنتُ أعاني منها من قبل : الاغتراب، والقلق والشعور بانعدام الجدوى ..نعم … تعاملتُ مع أفكار الفلسفة الوجودية بوصفها مشاعر إشكالية، لا بوصفها فلسفة وفكرا!
منذ متى أعاني القلق والخوف المُقيم والهاجس المُدوّي من الموت وانتهاء كل شيءٍ للاشيء ؟ منذ متى أرى الرمادَ في الوردةِ ودود القبر في الوجه الفتيّ الصبوح ؟ منذ سافرتُ من الأقصر ورأيت كل ما كنتُ أعيش فيه يغيبُ عن عيني والقطار يركضُ مُعولا ؟! لا أعتقد ، فقد كنتُ صغيرة جدا ، ولم يكن ألمي ليصل إلى هذه المصاف العميقة . هل كان غرقُ هذا الفتى الحبيب فجأة وعجزه عن العودة إلى البيت هو ما ارتجّت له رُوحكِ وأوقفكِ أمام الموت ترتعدين في غضب وذعر ؟ وهو ما استلب منكِ شعوركِ بالأمان إلى الأبد ؟!
ربما ..، بل : نعم نعم .. كانت هذه هي البداية ..من هنا يجب التأريخ ، من هذه اللحظة التي ذهب فيها أخي أحمد ليشتري لنا الخبز – قبل صلاة الجمعة – وحمله في يده ملوِّحا لرفاقه الذين نزلوا يسبحون في ماء الخندق (بين البحر والملاحة) ، فأغروه أن يسبح معهم ،فغرق في لحظته – فقد بدأ تعلُّم السباحة قبل غرقه بيومين فقط – وتمدد على الرمال ميتا بجوار أرغفة الخبز .!
وقفتِ تحدقين طويلا في الأرغفة بجوار الموت ..أرغفة طازجة بجوار الموت..أرغفة دافئة بجوار السكوت الأبدي.. امتلكتِ وقتا كافيا لتأمل هذه الصورة واختزانها قبل أن يُسقطك الدوار بين أذرع الصديقات والجارات وعويلهنّ، وأنتِ ترين الرجال يهرعون إلى أحمد في مشهد كابوسي، وبطريقة ال Slow Motion ، يتقاطر ماءُ الضوء من أذقانهم وأذرعهم، حيث كنتِ وحدكِ ..لم يكن أبوكِ معك، لم يعرف عبد الفتاح بعد أن أحمد لن يعود للبيت أبدا.. لن يعودَ أبدا مهما كان التوسُّل إليه ..!
لم يكن أبي ليسمح لي أن أهرول بملابس المنزل إلى حيث يتمدد أحمد ، لكني فعلتُ لأنه كان في ساعات العمل الإضافي وقت الحدث ..وكانت أمي في القاهرة في زيارة أخيها المريض الذي كان ينازع الموت – ولكنه لم يمت – وكان اسمه أحمد أيضا . لم يكن سواي وشقيقتي التي دخلت في غيبوبة طويلة حين جاءنا الخبر، فتركتها وركضت للغريق ..!
أريد أن أواجه موتَ أخي بشجاعة أكبر ..أريد أن أكتب أشياء أخرى أهم من هذه الأحداث التي رآها الجميع. أريد أن أكتب عن الآلام التي دارت بيني وبيني ، ولم يرها أحد .. آلاما لم أقصصها على سواي ..لكني دائما أقفُ عند مشهد رقدته الأخيرة بجوار هذا الخبز ..هذا الخبز الذي احتفظت به أمي حتى علاه العفن .. أريد أن أقفز هذا السور المرعب: موت أخي .. أريد أن يكتب هذا القلم الرعديد ما أتمنى مواجهته ممّا فجره فيّ موتُ أحمد صبي السادسة عشرة ، الفتي الرياضي الذي كان يزهو قبل الموت بأسبوع بعضلات ذراعيه وتقسيم صدره وبطنه، هذا الفتى الذي نهره أبي حتى لا يتأبط ذراعي أوذراع شقيقتي عند خروجنا للنزهة ، لأن الناس ستظنُه خطيبا لي – وكنتُ في عامي الجامعي الأول – أو خطيبا لها .!
هل كان موت أحمد سببا في ارتباك موقفي من الزواج ؟ نعم ، إلى حدٍ كبير ، فقد كنتُ أخشى الزواج وأعرف كيف تُهان المرأة في مجتمعاتنا، وكيف يتم تصنيفها كائنا أدنى، وكيف تُوأدُ حين تتزوج ، وتُوأدُ معها شخصانيتها وذاتيتُها وطموحها وموهبتها… وكيف تُوضع في قائمة الذكور حين تطالب بما شرعه اللهُ لها من حقوق وتكريم.. لكن غرق أخي أحمد أشعرني بفراغ ووحشة وخوف، وقد أدهشني كلُ هذا، فقد كان أخي أصغر مني ، فكيف كان وجوده أمانا ؟! أهو المجتمع الذي غرس فيّ هذه المشاعر، أم هي طبيعة المرأة، أم أن الأمر يعود لوجودنا في الإسكندرية وافتقادنا إلى العائلة التي توزعت بين الأقصر والقاهرة؟ أهو مرض أبي ثم مرض أمي؟ ثم من أين لي هذا الرجل الذي يكون أخي وأبي وصديقي وعائلتي قبل أن يكون زوجي؟ أين هذا الرجل الذي يحتمل جنوني وطفولتي وموهبتي وأمومتي وصخبي وغنائي واكتئابي ومهاراتي وعفويتي؟
أطن أني كتبتُ قصيدة آنئذ ، وأتذكر أنّ مطلعها اجتاحني في مكتبة قصر ثقافة الشاطبي وأنا أحدقُ من إحدى النوافذ في مصابيح الشارع ..أذكر أني أحسستُ برغبة شديدة في البكاء قبل أن تأتيني السطور الأولى التي لا أتذكر منها سوى بعض كلمات مكسورة :
أنَّى يكون لي الغلام
وكلُ من يُحبني حجرْ
وكل من يحبني رخامْ ..!
انتبهتُ بفزع إلى الشهور التي أضعتُها في الانشغال بالفلسفة الوجودية، فاستجمعت ذاتي، وأرغمتُها إرغاما على العمل الجاد في الرسالة . كنتُ واهنة على الصعيد النفسي ، أفتقد الحماس الحقيقي، لكني افتعلتُه حتى أستطيع البدءَ . انتهيتُ من إعداد التمهيد الذي اشتمل على الأصل اللغوي لمفردة الاغتراب ، والاغتراب في الفلسفة الوجودية والشعر الرومانسي، رددتُ مع الشعراء الرومانسيين أحزانهم ، وبكيتُ معهم . الشابي:
لو كان هذا الكونُ في قبضتي،
ألقيتُه في النار، نارِ الجحيمِ
///
ما هذه الدنيا، وهذا الورى،
وذلك الأفقُ، وتلك النجومُ
///
النارُ أولى بعبيد الأسى،
ومسرح الموتِ، وعشّ الهموم .
رددت قول الشرنوبي :
“ر أى نفسَه، ليته ما رأى، وعاش على جدبه ظامئا
لقد راعَه أنه زائلٌ، ستُفني المنيّةُ ما أنشأ
///
وأذهلهُ أنّ أيامَه زوارقُ لا تعرفُ المرفأَ
تمرُ بها صرخاتُ الرياح، فتحْطمُ مصباحَها المُطفأَ “
كنتُ أشتفي بقول الشرنوبي :
أنا لستُ بالعنقاءِ أولَ مُولَع
هي مطمعُ الدنيا كما هي مطمعي
///
فتّشتُ جيبَ الفجر عنها والدجى
وطلبتُها عبرَ الجهاتِ الأربعِ.
ثم انهمكتُ في استخراج دلالات الاغتراب في دواوين بعض الشعراء العباسيين – وفق خطة البحث – وهم : بشار بن بُرد، أبو نواس، ابنُ الرومي، أبو تمام، المُتنبي. أدهشني فكر ابن الرومي وفنُه وتساؤلاته الميتافيزيقية:
أفلا سبيلٌ إلى تبحبُحِنا في سرمدٍ لا ينقضي أبدُه
سكرى شباب لا يعاقبه هرمٌ وعيش دائم رغدُه
لا خيرَ في عيشٍ تخوننا أوقاتُه وتغولُنا مددُه
كنتُ أثناء ذلك لا أتوقف عن قراءة شعر أبي العلاء – ونثره أيضا – لأجمع مادة علمية كافية لأبواب الدراسة كلها ، بكيفية تستوجب أنْ أُُفردَ لها حديثا مُطوّلا .
وقغت بعض الأحداث المأساوية في فلسطين أثناء ذلك، وضُرب حصار الجوع على مجموعة من أسرى الفدائيين، فمات كثير منهم ، و اضطر الباقون لأكل ما لم أحتمل معرفته (ولا أستطيع ذكره هنا) مما يتعدى الرعب ذاته، لم أحتمل قراءة الخبر في الصحف، وبدأت معاناتي بعزوفي التام عن تناول اللحوم والأسماك والبيض، ووو ، وانحصرت قائمة طعامي في الخبز والجبن (القريش) والجبن القديم . ظن والداي أن هذا العزوف لن يتعدى الأسبوع ، لكنه تجاوز الشهرين إلى الثالث، فالرابع ، حيث فقدتُ ملامحي، وفقد جسدي قوته ، وصرتُ أقرب إلى الهيكل العظمي حقيقةً ، فوقعتُ مريضة في الفراش يعودُني العوّادُ . وكان موقف المعري في امتناعه عن أكل اللحوم والبيض والدجاج – كما كانت أشعاره في الإشفاق على الشاة المذبوحة – وما يشبه ذلك – يمدني بالمزيد من الإصرار على موقفي ، حتى نفد صبرُ والديّ ، وتحول خطابهما من التوسل والإشفاق إلى الإدانة والتحذير والسخرية ، واتهامي بمخالفة شرع الله ، وتحريم ما أحلّ، كما صار المعري اتهاما لي، لأنه يلوثُ فكري ، ويرديني إلى التهلكة .
وفي أحد الأيام فوجئتُ بأبي يبلغني بزيارة أحد الشيوخ من جيراننا ، الشيخ ( … )، ليقرأ لي رقية شرعية ويذكرني بعواقب ما أفعل . قرأ الشيخ حتى أنهكني ، وذكَّرني بأدلة من الكتاب والسنة بعدم مشروعية ما أفعل .! كنت أرد بصوتٍ واهن أني لا أقصد ما ذهبتْ إليه ظنونهم ولا أقصد تحريم حلال الله ، وأنني … ، فيقاطعني بأن كل ما سوف أقول إنما هو من مداخل الشيطان وتلبيس إبليس ..! تلبيس إبليس ؟! يافضيلة الشيخ: الأسرى الفلسطينيين في الحصار اضطروا ياكلوا …
– استعيذي بالله ..أتركي المعري هذا .. أو أجهزي عليه يافتاة ..!
أنا فتاة ؟! فتاة ؟!! أنا عجوز أكبر منك يا شيخنا . وددتُ أن أقول .
نذر أبي نذوره للفقراء ومساكين سيدي المرسي (أبو العباس) إن عدتُ كما كنت، فابتسمتُ رغما عني، وتذكرتُ على الفور نذوره التي نذرها لمساكين سيدي (أبو الحجاج) – في الأقصر – حين مرضتُ مرضا شديدا بعد ولادتي، فنذر إذا عشتُ ومشيتُ معه في الشوارع وأمسكت بيده كما يمسك الطفلُ أباه ، أن يُطعم ويُنفق ويحمد، كما نذرت تيتة أم عدلي (صاحبة البيت القبطية) أن توقد في كل كنيسة في الأقصر سبع شمعات للعذراء مريم إذا عاشت كاميليا وأكلتْ من (خبيزها ) … وبعد أن بلغتُ السعي ، كنتُ كثيرا ما أقفز على السلم هربا منها وهي تهرول خلفي لأني فتّتتُ أرغفتها (الشمسية) التي ظلت تخبزها نصفَ نهار ، ونثرتُ الفتات من الشرفة على أقفية المارة . كانت تصرخ ورائي :
قطيعة كانت تاخدني يوم ما ولعت لك الشمعات في الكنيسة يا واكلة أبوكي ..!
كان أبي يمسح دموعه من الضحك ، وأمي تُواصلُ حكاياتها عن نوادري مع تيتة أم عدلي ، و تكملُ تطريز ملاءة السرير ، حين اتصل الدكتور العشماوي ليبلغني غضبه لعدم تواصلي معه منذ عدة أشهر ، وعدم تقديمي أي كتابة جديدة تتصل بالبحث ، وطالبني بتقديم فصلين مكتوبين على الحاسوب في غضون عشرين يوما ، لا أكثر، وذلك قبل كتابة تقريره عن طلاب الماجستير والدكتوراة الذين يدرسون تحت إشرافه .