حول حديث: لا تراءى ناراهما

د. خضر محجز | فلسطين
لأبنائنا في الغرب: حول ما قيل من أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “لا تراءى ناراهما”:
سألني بعض أبنائنا ممن يعيشون في بلاد الغرب، إن كان صحيحاً أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد برئ من إسلام كل مسلم يعيش بين أظهر المشركين؟

فهذا ما أعان عليه الله من الإجابة:
الحديث بروايتين كلاهما ضعيف ولا يصح. وإليكم التفاصيل:

أولاً: الرواية الأولى:
وهي الأشهر، وقد وردت في تفسير ابن كثير، بالنص التالي:
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ (آل عمران/118):
“قد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق بن إسرائيل: حدثنا هُشَيم: حدثنا العَوَّام، عن الأزهر بن راشد، فحدَّث ذات يوم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: “لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ، ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبياُ” تفسير ابن كثير. ج2. ص107
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “هكذا رواه الحافظ أبو يعلى، رحمه الله. وقد رواه النسائي عن مجاهد بن موسى، عن هشيم. ورواه الإمام أحمد، عن هُشَيم بإسناده مثله، من غير ذكر تفسير الحسن البصري. وهذا التفسير فيه نظر. تفسير ابن كثير. ج2. ص107
قلت: قد أعله الحافظ ابن كثير في قوله: “وهذا التفسير فيه نظر” وأما الإسناد فالحديث مرسل عن مجهول الحال، فالأزهر بن راشد من صغار التابعين، ومجهول الحال.
وإليك التفصيل: إسحاق بن إسرائيل هو: إسحاق بن أبي إسرائيل المروزي: ثقة. وهُشَيم هو: ابن بشير السلمي، أبو معاوية: كثير التدليس والإرسال الخفي. والعَوَّام هو: ابن عباد بن العوام: مقبول. والأزهر بن راشد: من صغار التابعين، مجهول الحال.
ففي السند علتان، إضافة إلى الإرسال: تدليس هشيم وإرساله الخفي، وجهالة الأزهر.

ثانياً: الرواية الثانية:
روى أبو داود في سننه قال:“حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِىِّ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلُ. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ. وَقَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ: لاَ تَرَاءَى نَارَاهُمَا”. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ هُشَيْمٌ وَمُعْتَمِرٌ وَخَالِدٌ الْوَاسِطِىُّ وَجَمَاعَةٌ لَمْ يَذْكُرُوا جَرِيراً”.

علل الحديث:
1: قد قيل إن الألباني رحمه الله قد صححه. ولا أعرف كيف صححه مع تعليل أبي داود إسناده. فقد رأيناه يقول: “رَوَاهُ هُشَيْمٌ وَمُعْتَمِرٌ وَخَالِدٌ الْوَاسِطِىُّ وَجَمَاعَةٌ لَمْ يَذْكُرُوا جَرِيراً”. أي أن حفاظاً غير هؤلاء رووه موقوفاً على قيس. فتبين أن هناك خلافاً في الوصل والإرسال. فإن صح الإرسال فالحديث ضعيف الإسناد.
2: ومتن النص يشهد على ضعفه، وقد ذكر أن ذلك كان في سرية خثعم. والمحفوظ أن سرية خثعم ـ بقيادة قطبة بن عامر ـ قد جرت في العام التاسع، بعد فتح مكة، وسلمت وغنمت وعاد كل أفرادها، دون بأس. فالقول بأن ذلك حدث في سرية خثعم، يزيد من اضطراب متن الرواية.
3: قد ثبت ـ بما لا يدع مجالاً للشك ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة، فعاشوا وسط المشركين. ولا يُقال بأن عيش مهاجري الحبشة بين المشركين كان مسموحاً فنُسخ، لأن إثبات النسخ يحتاج إلى دليل خارجي من التاريخ. والظاهر عكسه: فقد رجعوا من الحبشة في العام السابع للهجرة، بعد فتح خيبر، الذي سبق فتح مكة بسنة فقط، خلال سنتي صلح الحديبية، الذي أمن الناس فيه بعضهم بعضاً، حيث كان مشركو الجزيرة يترقبون فتح مكة وقد رأوا قريشا ضعفت. فقصة هؤلاء المغدورين ـ إن صحت ـ فهي قبل ذلك على الأرجح، وتكون سرية أخرى إلى خثعم لم تذكرها النصوص.
4: لقد كان المسلمون في عزة بعد فتح خيبر، ولم يكن يجرؤ المشركون على الغدر بهم. فإن كانت هذه الحادثة قبل ذلك، فلم يذكرها أهل التاريخ. مما يعزز غرابة المتن.
5: ورد في موسوعة الدرر السنية تصحيح ابن دقيق العيد لهذا الحديث كما قال: “صحيح على طريقة بعض أهل الحديث

(https://www.dorar.net/hadith/sharh/66258)
6: قلت: فتصحيح ابن دقيق ـ رحمه الله ـ لهذا الحديث كان مشروطاً بأنه صحيح على رأي بعض أهل الحديث، مما يعني تشككه في تصحيحه. وقد رأينا الحافظ ابن كثير يقول شيئاً شبيهاً بهذا، كما أوردناه في السطور أعلاه.
7: وعلى ذلك، فليكن الألباني ـ رحمه الله من بعض من يصححون هذا الحديث، فقد رأينا من يأبى هذا التساهل كما رأينا. فتصحيح الألباني ـ على هذا فيه نظر.
8: وعلى افتراض أن الحادثة والنص صحيحان، فبراءة رسول الله من هؤلاء منصوص عليها في النص: أي أنه بريء من دفع ديتهم ـ لا من إسلامهم ـ ولا من عيشهم بين المشركين. بل بسبب أنهم أهملوا في الاحتراس من غدر المشركين، فانشغلوا بالصلاة عن الحراسة، فكانوا مهملين، فلم يستحقوا أن يديهم رسول الله، لكنه وداهم بنصف الدية، تأكيداً لإهمالهم. ومثل هذا لا يتوفر في المهاجرين من المسلمين إلى بلاد الغرب.

9: الخلاصة:
لا يصح النهي عن العيش وسط المشركين، ما داموا يحافظون على دينهم وشرفهم.
والله أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى