ثقافة تدمير الذات

جميل السلحوت | روائي وأديب فلسطيني

دعونا نؤكّد أنّ من حقّ أيّ مواطن أو جماعة أن يتظاهروا احتجاجا على سياسة معيّنة، أو تأييدا لها، أو احتجاجا على ظلم واقع، لكن علينا أن نستذكر دائما بأنّ حرّيّتنا تنتهي عندما تبدأ حرّيّة غيرنا، فللتّعبير عن الرّأي ودقّ جدران خزان أصحاب القرار أخلاقيّات يجب أن لا نتجاوزها؛ كي لا ندخل في المحظور، مع أنّ بين ظهرانينا من يتمترس خلف اجتهادات بعضها دينيّ بتحريم “الدّيموقراطيّة” على اعتبار أنّها مصطلح غربيّ “مستورد”! كما أنّ هناك من يحملون فكرا “سلفيّا” يحرّمون من خلاله الخروج على الحاكم مهما كان ظالما. وبما أن الدّيموقراطيّة صناعة غربيّة، ويحاربها بعضنا، فلا يضيرنا أن نستذكر نحن العربان صناعة ابتكرناها، وارتضيناها وفاخرنا بها! وقلّدتنا فيها أمم وشعوب أخرى، وهي أنّ أوّل من ابتكر “منع التّجوّل” في العالم هو زياد بن أبيه، عندما ولّاه معاوية على البصرة وخراسان وسجستان، وقدم البصرة وألقى فيها خطبته البتراء المشهورة، ومما جاء فيها: “حرام عليّ الطعام والشّراب، حتى أُسوّيها بالأرض هدما وإحراقا، إنّي رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوّله، لين في غير ضعف، وشدّة في غير عنف.
وإنّي أقسم بالله لآخذنّ الوليّ بالمولى، والمقيم بالظّاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصّحيح بالسّقيم، حتى يلقى الرّجل منكم أخاه فيقول : “أنج سعد، فقد هلك سعيد.” أو تستقيم قناتكم.” وبعدها فرض منع التّجوال، وأرسل مناديا يعلن ذلك، ونقل الحجّاج والي الكوفة منع التّجوال عن زياد بن أبيه، وممّا يروى أن عسس الحجّاج ألقوا القبض على رجل هرمٍ خرج لصلاة الفجر في المسجد، واقتادوه إلى الحجّاج، فسأله عن سبب عدم استجابته لمنع التّجوّل؟
فأجاب: والله أنّني لم أسمع النّداء.
فردّ عليه الحجّاج”: والله إنّني أصدّقك، لكنّني سأقتلك لتكون عبرة لغيرك”! وقتله. والحجّاج هو من قذف الكعبة بالمنجنيق؛ ليهدمها على رؤوس ابن الزبير وأنصاره الذين احتموا بها. ومع ذلك فإنّ الظلم مرفوض في الأحوال كلّها، لكنّ الكارثة أن يقبل المظلوم بالظّلم وبحكم الظّالم كائنا من كان.
وعودة إلى حقّ التّظاهر، وهو حقّ يجب أن يحميه القانون، ونلاحظ ذلك في الدّول المتقدّمة، والتي تحترم حرّيات شعوبها، وكثير من المظاهرات السّلميّة الحضاريّة أسقطت حكومات ورؤساء دول دون أن يسقط ضحايا أو تُدمّر ممتلكات، وقادت إلى انتخابات أفرزت قيادات جديدة تحظى برضا شعوبها، وفي بلداننا فإنّ المتظاهرين والحكومات وقواها الأمنيّة لا يحترمون حقّ التّظاهر، فنرى المتظاهرين يغلقون الشّوارع والطرقات بالحجارة وإطارات الكاوتشوك المشتعلة، ويدمّرون المؤسّسات الرّسميّة والمحلات التّجاريّة في طرقاتهم، وكأنّهم في معركة مع أعداء. وهم بهذا يؤذون أنفسهم ويؤذون غيرهم من المواطنين دون مبرّر.
وتقابلهم قوى الأمن بالعصيّ والرّصاص، وفي كثير من الأحيان دون مبرّر أيضا. ولا أحد ينتبه إلى الأضرار التي تلحق بالمواطنين وبمؤسّسات الشّعب نتيجة عبث بعض المتظاهرين، وإن انتبهوا فإنّهم لن يستطيعوا التّغيير، لأنّ صوتهم يكون كما “الطّبل عند الطّرشان”. وحتّى عندما تكون المظاهرات ضدّ الغزاة والمحتلين، كما يحدث في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، فما الدّاعي لهدم السّلاسل الحجريّة في القرى ورمي حجارتها في الشّوارع والطّرقات؟ وتدمير المحلّات التّجاريّة والمؤسّسات في المدن واغلاق الشّوارع بالاطارات المشتعلة أيضا. فمن المتضرّر من ذلك هل هم المواطنون أم قوّات الاحتلال؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى