نوافذ الرُّوح في ” امرأة في النافذة” لـ آ.ج. فين

غمكين مراد | القامشلي  – سوريا

أن تكتُبَ الوهمَ كحقيقةٍ مُعاشة وتسرُّدَ تفاصيلَ الوهمِ كحقيقة لاشكَّ فيها أبداً على لِسانٍ مصدومٍ وألسِنةِ آخرينَ خائفينَ مَحبَةً، مُسْتَبْدِّلينَ الأوجُهَ البريئة بالمُجرمةِ القاسيةِ والعَكس، وكأنَّها حِواراتٌ وأحداثٌ بينَ أقنعةٍ تلمُّ بتفاصيلِ الحدث كامِلاً، وحين ينقلِّبُ كُلُ الوهم وتظهرُ الوجوهُ بعدَ زوالِ الأقنعةِ، لا تندَهِشُ فقط وإنَّما تنقلِّ أنتَ كقارئ لتشمئزَ من حقيقةِ ما كانت تُخفيهِ تلكَ الأقنِّعةُ خلفها.

هذهِ التفاصيل التي تأتي على ألسِنةِ وحقيقةِ آنا، ايثان، جين، أليستر، ديفيد، ليتل، توريلي،… ونعيشُها كأنَّها الحقيقة دون شكّ، فجأةً، تأتي اللدْغَةُ المُفاجئةُ من الكاتبة وكأنكَ تبدأُ روايةً ثانية في مُخيلَتِكَ لتلتقي مع ما حدَث فعلاً وما كانَ فعلاً، إنَّها فيلمٌ على الورق يبدأُ من حيثُ ينتهي لتُعيدَ أنت التفاصيلَ مِنكَ إليكَ.

سيدةٌ مَصدومةٌ بموتِ زوجِها وابنتها موتاً بطيئاً أمامَ أعيُنها في جوٍ ثلجي بينَ الجبال بعدَ حادِثِ سيِّرٍ سببهُ مواجهةُ ما بعدَ الخيانةِ مِنْ قِبَلِّها لزوجها، وهي في مُراقبتها لموتِ الزوج والبنت تَفْلتُ هي ذاتُها من موتٍ محتوم حينَ يتم إنقاذِ ما تبقى منهم بعدَ ثلاثةِ أيام بلياليها وتبقى هي حيّة لا تُريدُ أن تُصَدِّق ما حدث، وانعكاساً لبقائها في البرية  لتلك الأيام وذلك الظرف يتولد معها رُهابُ الأماكنُ العامة والساحات والشوارع والناس وحتى الأضواء داخل جدران بيتها: ” يشعُرُ كثيرٌ من الناسِ في وضعي بأنهم مكشوفون إذا كانت الإضاءة قوية”ص75، فقط ما تربطُها بالعالم الخارجي زياراتُ دكتورها النفسي ومدربتُها والنافذةُ الحياةُ بالنسبةِ إليها، من النافذةِ تتعَرَّفُ يومياً أو حتى أنها تحفظُ تفاصيلَ حياةِ جيرانِها الدالةِ عليهم أرقامُ بيوتهم، سواءٍ الراحِلون منهم أو الجُدَّد، تتابِعُ حركةَ الحياةِ عبر كاميرتها “أجلسُ في غرفةِ مكتبتي مُتَخِذَةٍ موقعاً بين النافذتين الجنوبية والغربية واستَعْرِّضُ الحيَّ كُلَّه”ص85. وحين تريدُ أن يبقى ما يُدهِشُها من هذه التفاصيل تصوِّر وتختزِنُ الصوَّر في ملفاتِها على نافذتها الأخرى والتي تطلُّ منها كإثبات هويةٍ هذه المرّة على أنَّها دكتورة نَفْس للأطفال من خلالِ شاشةِ حاسُبها ومواقع التواصل مع مرضى وأُناسٍ مثلها وحيدين تسمعُ الشكوى وتقترحُ الحلول:” أحسُّ بالدمِ يجري مُبتهِجاً في عروقي. لقد ساعدتُ أحداً ما. إنّني على صِلةٍ بالعالِم. عليكِ فقط أن تكوني على صِلةٍ بالعالم”ص71.

سائرةً بها الحياةُ وحيدةً هكذا رغم أنَّها تقولُ: “أنا لم أولد وحيدةً، لقد جُعِلتُ وحيدةً”ص323.

حتى اللحظةِ التي تسحبُها نافِذتُها الحياةُ إلى الحياةِ ذاتها حينَ تلتَقِطُ كاميرتها بَغتةً عملية طعنٍ لامرأةٍ في بيتِ نُزلٍ جُدّد بيتُ أليستر قَدِّموا حديثاً إلى جادتها وتنتقلُ الحياةُ إلى بيتها وهي إلى الحياةِ من تأثير الصدمةِ، خارجةً إلى الشارعِ ناسيةً رهابها تائهةً مُنتهيةً بها الصدمةُ في المشفى.

بعدَ هَولِ اللحظةِ الأولى من الصدمةِ في جريمةِ القتلِ هذهواستيقاظها منها لتجدَ نفسها في المشفى، وحين يجاوبُها المُحقِقون، يُقْنِّعونها مع صاحبِ النُزِل أليستر الذي حدثت في منزلهِ عمليةُ الطعن وابنهِ ايثان وجين زوجتِهِ، أنَّها تتوهم مُستَغِليِّنَ حقيقةَ مَرَضِها ومواجهتِها وصدمها بوفاةِ زوجها وابنتها بعد أن أنكرت ذلك بأن أقْنَّعَت نَفْسَها بأنها تُكَلِّمهم دائماً ويومياً وتستشيرهم في كُلِّ شيء حينَ تَستَرجِعُ ما فاتَها وتُقْنِّعُ نَفْسها بما أقنعوها: ” ألم أكن أقاومُ الحقيقةَ طيلة الوقتِ؟ ألم ألوي الحقائق وأكسرها وأُزيحُها جانباُ”ص323.

” لقد فعلتُ أشياء لا أستطيعُ تذكُرها. لا أستطيعُ فعل أشياء يمكنني تذكُرها.تَفْرُّكُ الطبيبةُ التي في داخِلي كفيها وتقول: نوبة اضطراب تفارُّقي حقيقية.”ص355.

لكن التدَّاعي الحُرّ لأفكارِها أو الصوَّر التي مَرَّتْ أمامَ أعيُنها عبر كاميرتها للجريمة وما خَلَّفَ ذلك من دخولِ أحدِهم إلى غُرفتها وتصويرها وهي نائمة وهي من الأمور التي أقنعوها بأنها صوَّرت نفسها لدرجةِ أنها مع الأمور السابقةِ بحُجةِ مرضها جَعَلَت لسانها مُكَبَّلاً ومُثقَلاً جداً في النُطقِ: ” ستستغرِّقُ هذه الكلمات دهراً كامِلاً……تتلوى كُلُّ واحِدةٍ منها في فمي قبلَ أن أتمكن من إخراجِها…….بالتأكيد كنتُ أنحتُ كُلَّ كلمةٍ نحتاً كأنَّها واحِدةٌ من الزخارِفِ اليابانية الورقية.”ص166-168.

لم يكن ليستريحَ خيالُها، أمرٌ واحِد فقط لم تعد تريدُ أن يعود إلى يومها هو محاوراتها مع زوجها وابنتها.

كان المُراهق ايثان هو مركزُ الثقلِ في إعادة التوازنِ إليها بينَ ما رأت وما أقنعوها، وايثان ابن صاحِبِ النُزلِ أليستر والمرأةِ جين أمهُ التي تنكرُ آنا أنها ليست أمه والتي كانت قد زارتها مرةً واحدةٍ، وكانت تحسُّ أن ايثان مظلوم وخائفٌ وصامِتٌ من وراء والِدهِ العصبي والذي تشكُّ آنا بأنه المجرم، بدا كُلُّ شيء يتداخلُ في حياتها بين هؤلاء الأشخاص من العائلةِ الواحدة وكلُّ شيء غير صادق في رؤاها نتيجة مرضها، لكن يقينُها لا يتركُها إلّا أن تُثبِّتَ لِنفسها بِحدْسِها القوي ووعيها لِمّا جرى ” إنَّني آلة. آلةُ تفكير”ص243.

حينَ تنفردُ آنا بايثان وتحثُهُ على النُطق، ينقلِّبُ كُلُّ شيء، وكأنَّ الأمور قد اجتاحها طوفانٌ ما، حينَ يُزيلُ ايثان عن قِناعِ انتقامِهِ من المُجتمع بأن يَطْعَنَ أُمهُ التي كانت قد تركتهُ وليسَ جين وأليستر الزوجان إلّا والِدينِ تبنياه، لكنهما أحبّاهُ لدرجةِ إخفاء جريمتِهِ، والأقسى إخفاء كُلَّما قام بهِ، حتى التضحيةِ بعملِ الوالِدِ فقط لحمايتِهِ، حينها يُفَسِّرُ ايثان المغشوشِ به آنا امرأةُ النافذة بأنَّهُ وجهُ البراءةِ في أحداثِ الروايةِ كُلّ التفاصيل، كيفَ هو الذي طعنَ المرأةِ التي لم تكن إلّا أُمُهُ وهو الذي صوَّرها وهي نائمة وكيف أخذ مفاتيح البيتِ ونسخها وهو الذي عرف أرقام ايميلها وهاتفها السريين وتفاصيلَ حياتِها من خلالِ أحدِ مواقع التواصلِ في وحواراتِهِ معها باسمِ امرأةٍ مُسنَّة ومثلُها وحيدة والتي من خلالها تحملت أقوال المُحققين في أنّها تفعلُ أشياءٍ لا تعودُ تتذكرُها وجَعلَتها تقولُ لِفسِها” رأيتُ ما أردّتُ رؤيتُهُ”ص323. في لحظةِ الكشفِ هذه، يُكَشِّرُ كُلُّ الحقدِ والانتقام الموَّزَّعِ داخِلَ ايثان عن تركُمِهِ وعن ما يُبَرِّدُ قلباً مليئاً بهذا الحقدِ ليهجُمَ على آنا في محاولةِ قتلها كما في الأفلامِ تماماً بعد ردٍّ وصدٍّ وهروبٍ ومُلاحقة ينتهي ايثان بالموت وتنجو آنا ومن ثم يعودُ التحقيقُ من جديد وتعودُ آنا لتُعيدَ كيفيةَ البدء بحياةٍ جديدة ما دامت قد فُتِحَت لها” لقد انتظرتُ لكي أعودَ فأنضمَ إلى العالم من جديد….وإذا كنتُ لا أُريدُ أن أموت، فعليَّ أن أبدأ الحياة”ص429.

وهكذا روايةُ “امرأةٍ في النافذة” هي امرأةٌ خارج حياتها نافذة ونوافذ كثيرة في الرُّوح، روايةٌ أشخاصُها لاعبو سيركٍ على حبلِ الحياةِ الرفيع، وأحداثُها كُلُّ مجهولٍ صادِم لكُلِّ توقُع أو ظَن أو تمنٍّ، هي روايةُ النّفْسِ وخلجاتُها، روايةُ المُجتمعِ وتشوهاتُهِ في النَّفس، إنّها بالمُجمَّل دائرةُ نفوسٍ لا تتلاقى أبداً ولا تُفهم، وإنما فقط تفاجئ نفْسَها والآخرين.  

***

الكتاب: امرأةٌ في النافذة

الكاتب: آ.ج.فين

ترجمة: الحارث النبهان

الناشر: منشورات الرمل ط1 2018.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى