تاريخ السينما: تصوير الأفلام.. الصناعة السينمائية وفن السينما

تأليف: إيغور بيلينكي

عرض: فيكتوريا زاريتوفسكايا| أكاديمية ومستعربة روسية

حاول المؤرخ السينمائي الروسي والمدرس في المعهد الروسي للسينما والتيلفزيون إيغور بيلينكي، في كتابه الأخير “تاريخ السينما: تصوير الأفلام.. الصناعة السينمائية وفن السينما” فهم ما يحدث في مجال إنتاج الأفلام المعاصرة، وفي أي اتجاه تتحرك السينما إلى المستقبل.

ويرى المؤلف أنه -ومن أجل فهم ما يحدث في السينما الآن- من الضروري بمكان ذكر تاريخ نشأة السينما وتطورها. وهكذا، فقد احتوى عمله الضخم على بحث معمق ومتشعب في المراحل الرئيسية من تشكل السينما، لا يتوقف عند الجانب التقني في السينما وحسب، وإنما يضم كذلك السينما باعتبارها أحد الفنون العريقة في حياتنا المعاصرة؛ فيخوض في تقلبات الفن السينمائي منذ نشأته في نهاية القرن التاسع عشر، وكيف أصبحت السينما تعبيرا يحاكي الفن التشكيلي، ودخول الصوت إلى الصورة، والدور الدعائي الذي تلعبه السينما، وكيف نجت السينما من أحداث الستينيات المضطربة، وتغلبت على مصاعب التسعينيات، وكيف تحولت من قالب ترفيهي، إلى فن يلامس جميع أوجه الحياة ويرتبط بمجالاتها الفنية والصناعية والدعائية والتواصلية، والمواضيع المختلفة التي تعالجها السينما، وكيف أصبح تصوير الأفلام مؤسساتي، ليس فقط من جهة الاستثمار، ولكن أيضا من جهة تنظيم العمل، والدعم التقني، واستخدام الموارد البشرية.

وإذ يهتم هذا الكتاب بتاريخ السينما، إلا أنه لا يتجاهل الأفلام، وهي صلب العمل السينمائي وهدفه؛ فيمحصها التحليل والنقد لا سيما تلك الأفلام التي فازت بشهرة عالمية. ويسلط المؤلف الضوء على مراحل تصوير الفيلم الرئيسية واختلاف التقاليد السينمائية في البلدان الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وأيضا الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، إلى جانب عدد من الدول الآسيوية. ويضم البحث أيضًا وجهة نظر المؤلف الخاصة حول عمل مخرجين كبار؛ مثل: السويدي إنغمار بيرغمان، والياباني أكيرا كوراسافا، والهندي ساتياجيت راي، والإيطالي فيدريكو فيليني، والإسباني لويس بونويل، والروسي أندريه تاركوفسكي والأرمني سيرجي باراجانوف.

يُلاحظ المؤلف أنَّ هناك الكثير من المطبات في طريق السينما تفوق المصاعب التي تواجهها الأشكال الفنية الأخرى، كالفنون التشكيلية والمسرح والموسيقى؛ وذلك رغم مرور مئة وثلاثين عامًا على اختراع الكاميرا السينمائية. من جهة أخرى، يوجه المؤلف انتباه القارئ إلى حالات مثيرة في حياة السينما مما يمكن اعتبارها حالات غير متسقة أو منافية للمنطق.

ويطرح المؤلف -في هذا السياق- مثال الدنمارك، وهي بلد صغير في أوروبا، ولكنها تحتل مرتبة طليعة للبلدان المنتجة للأفلام واستطاعت بين أعوام 1908-1915 أن تكون منافسا ومتفوقا في الأسواق العالمية على فرنسا وإيطاليا. وفي ألمانيا كانت الشركات الدنماركية تحتكر شباك التذاكر بشكل حاسمً. وكان شعار شركة الأفلام الدنماركية الوطنية Nordisk وهو عبارة عن دب قطبي ينتصب على الكرة الأرضية، معروفًا في جميع أنحاء العالم، كما تمتع نجوم السينما من كوبنهاغن بشعبية كبيرة وذاع صيتهم.

وفي السياق نفسه، أي صناعة السينما التي تخال لنا منافية للظروف الواقعية، حاول بيلينكي أيضًا معرفة السبب في وفرة الأفلام الألمانية في العشرينات والثلاثينيات من القرن الماضي، فيما كانت ألمانيا تعيش وضعا كارثيا، فالقوات المسلحة في البلاد تم القضاء عليها نتيجة هزيمتها في الحرب العالمية الأولي، وكان على الحكومة أن تدفع تعويضات لمدة سبعة وثلاثين عاما، والصناعات تنهار على خلفية التضخم الشديد، بل إن المجاعة بدأت تبرز أنيابها في الشارع. في تلك الظروف تقوم ألمانيا بتصوير 646 فيلما في عام 1921 وحده، واحتلت مرتبة قريبة من الولايات المتحدة التي أنتجت في العام نفسه 854 فيلما. كما أن المعدلات المرتفعة لإنتاج الأفلام لم تنخفض حتى مع بداية الحرب العالمية الثانية، بل يمكن القول إن عكس هذا كان صحيحا، ففي الوقت الذي شهدت فيه العمليات العسكرية كثافة وارتفاعا، لا سيما بعد عام 1941 إبان الهجوم على الاتحاد السوفيتي، في ذلك الوقت يسجل الإنتاج السينمائي في ألمانيا ارتفاعا في تصوير الأفلام الترفيهية بكل أنواعها. أما الهدف من ذلك فهو صرف انتباه الجمهور عن أخبار الجبهة، والتي كانت تسوء من عام إلى عام، بل ومن شهر بعد آخر.

يُحدد المؤلف كذلك بعض الخصائص الوطنية لكل سينما على حدة. فإذا كان من خصائص الأفلام الأمريكية، على سبيل المثال، اقتران الفيلم بالنهاية السعيدة (happy end)، فإن النهاية غير السارة كانت مبدأ في الأفلام الدنماركية، ولو أن الفيلم “انتهى فجأة بصورة هادئة، فإن ذلك مدعاة لإثارة غضب الجمهور” (ص:46).

لا تخفى على القارئ النظرة النقدية السلبية التي يوجهها المؤلف للسينما الأمريكية والروسية، في حين يُظهر إعجابا بالأفلام الأوروبية ويضعها في خانة الفن الحقيقي. هناك مثلا الأفلام السويدية التي تتمتع بإحساس مرهف بالطبيعة وبفهم حاد بوحدة الطبيعة والإنسان. يكفي أن نتذكر تحفة المخرج السويدي فيكتور شوستروم “إيدوين الجبلي وزوجته” (1917) وهي قصة حب بين متشرد قاتل وأرملة، والأحداث التي تدور مع اختبائهما الإجباري في الجبال، وما يتبع ذلك من مطاردات من قبل عمدة القرية للأرملة التي أحبها أيضا، ثم كيف اختبأ الحبيبان في الجبال، بعيدا عن أنظار الناس، حتى أدركا الشيخوخة. في النهاية، وبعد أن أصيبا بخيبة أمل من الحياة يقررا أن يضعا حدا لحياتيهما في أتون عاصفة ثلجية.

وعن السينما الروسية، يتحدث المؤلف ومنذ الصفحات الأولى بالنبرة التالية: “بلدنا ليس مهتما جدًا بالسينما، لا يوجد شيء يجذب الانتباه بشكل خاص. كانت لدينا سينما ذات يوم ولكنها انقضت منذ فترة طويلة” (ص:1).

ورغم هذا الموقف المنتقد الصارم للباحث، لم يفُته ذكر إنجازات السينما الروسية، وابتكاراتها العديدة، والمسار العجيب الذي خطته لنفسها. ويسجل أول ظهور للسينما في روسيا مع العروض العلنية لأفلام الأخوان لوميير في مدينة سانت بطرسبرج في مايو من عام 1896، وقد شكل ذلك الحدث حافزا لتبني وتطوير السينما في هذا البلد، ففي نفس ذلك العام تم تصوير المراسم الأولى لصعود آخر القياصرة الروس نيكولاي الثاني إلى العرش. أرسل الأخوان لوميير مصورهم إلى الحفل، لينجز أول عملية تصوير على أراضي روسيا، ناهيك عن أن العملية كانت بمثابة أول نشرة إخبارية سياسية سينمائية في العالم، وأعقب ذلك الحدث إنتاج أول محاولة من نوعها في تصوير السيرة الملكية والتي دامت حتى تنازل الملك عن العرش في مارس من عام 1917.

أما عن الابتكارات السينمائية التي حققها الفنانون السينمائيون الروس، فيأتي لنا المؤلف بأمثلة من بينها الحلول الإخراجية التي نفذها المخرج ياكوف بروتازانوف في فيلمه “ملكة البستوني” (1916) (فكرة الفيلم مستوحاة من قصة تحمل الاسم نفسه بقلم الشاعر الروسي الكبير الكسندر بوشكين). ففي بعض المشاهد يأخذ المصور فجأة بهز الكاميرا وذلك من أجل الإيحاء بالقلق الذي يعتري بطل الفيلم أثناء مروره ليلا عبر غرف الكونتيسة. ويعود الفضل لبروتازانوف أيضا في إدخال ظل الحائط في اللقطة وذلك من أجل تكثيف البعد التعبيري للصورة.

بعد ذلك، وتحديدا في أعقاب ثورة أكتوبر 1917 والتي أدخلت البلاد في حرب أهلية، وجلبت لها الفقر الشامل، والمجاعة، إضافة لفرض نظام استبدادي جديد، في هذه الظروف نحت السينما الروسية منحى غربيا صرفا. فمع كمية الأفلام المتواضعة التي لا يذكرها أحد اليوم، تلمع بقع حمراء دموية من الدعاية السياسية المحمومة التي وضعها مخرجون بارزون كأيزنشتاين وبودوفكين وفيرتوف، الذين تمكنوا من اختراع وتطوير وتطبيق طريقة للإعلان السياسي على الشاشة. والشيء الوحيد الذي يأسف عليه المؤلف هو أن هؤلاء المخرجين الموهوبين كانوا يمتلكون قدرة فنية عالية إلا أنهم لم ينتجوا شيئا سوى الدعاية للسلطة البلشيفية (وقد لا يتفق العديد من القراء مع رأي المؤلف هذا، خصوصا فيما يتعلق بالمخرج العبقري سيرغي أيزنشتاين وأثره العميق في السينما العامية!).

نجد في سياق الكتاب توصيفا للمؤلف لا نستطيع أن نشاركه الرأي فيه؛ حيث يقول: “في الثلاثينيات من القرن العشرين بدأت السينما السوفيتية تتطابق بشكل مثير للريبة مع السينما النازية” (ص:142). إلا إذا كان الكاتب يقصد التشابه بين ما تقدمه شاشات البلدين من حيث ابتعادها عن الحقيقية والواقع، فقد ابتعدت السينما عن مجريات الواقع في كلا البلدين، تلك المجريات التي حددت مصائر الناس في ألمانيا والسوفيت. فلم تقم السينما الألمانية بتصوير أفلام عن المذبحة التي جرت قبل الانتخابات بين النازيين والشيوعيين، ولا عن حرق الرايخستاغ في 27 فبراير من عام 1933 أو عن الليلة التي تسمى بالليلة الكريستالية من 9 إلى 10 نوفمبر 1938 عندما وقع الهجوم الجماعي المروع علي اليهود، أو ثورات الفلاحين، أو عسكرة البلد، أو الفقر المدقع بين جماهير الشعب وذلك بسبب الرعب الذي سيطر على القطاع السينمائي من النظام الديكتاتوري.

وعلى الرغم من الإنجازات التي حققتها السينما الروسية، والتي أتى المؤلف على ذكر بعض منها، إلا أنه لا يجد سبيلا لمقارنة الفن السينمائي الروسي بالأمريكي أو الأوروبي؛ حيث يرى أن بلدان ما وراء المحيط تمتلك مقدرة على الإمساك بتاريخية الفن السينمائي ومنحه الزخم الضروري لتطوره. ففي أوروبا كان للسينما تشكلات متميزة، فردية وتجريبية. وفي الولايات المتحدة وعلى الرغم من أن الفيلم مبني على مبدأ الإنتاج الصناعي الخالص والقائم على الاستثمارات المالية الضخمة، والغياب شبه الكامل لإرادة المؤلف، ووجهة نظره الشخصية حول المناخ العام للفيلم، إلا أن الصناعة السينمائية الأمريكية تظل بؤرة لهذا الفن، كما يصعب تصور الشاشة الكبيرة من دون هوليوود.

ويشهد عالمنا المعاصر، كما يشير المؤلف، حقبة جديدة تكمن في انحسار التأثير السينمائي على عقول ومشاعر المشاهدين، وعلى نظرتهم للعالم، وذلك بخلاف ما كان شائعا في فترة الستينيات من القرن الماضي. يقول المؤلف: “اليوم، لا تتأثر عقولنا ومشاعرنا بالأفلام، ولكن بالتكنولوجيا التي تم تصوير الأفلام بها (…) إنه عصر الموت البطيء الذي بدأ منذ نهاية الثمانينيات ويستمر حتى يومنا هذا. وتكمن الملامح الرئيسية التي تشكل وجه السينما المعاصرة ووجهتها: تكرار الموضوع، وإعادة صياغة الأفكار، وإعادة النسخ، والتحسينات التكنولوجية والمؤامرات المالية التي تحوم حول شباك التذاكر. أما المشاهد في الوقت الراهن فيصفه المؤلف بالمشاهد المجتزئ. فإن كان مشاهد القرن العشرين لا يتجرأ على مغادرة الفيلم لدقيقة واحدة خشية أن يفقد خيط الأحداث وسياق الحبكة التي صيغت بإحكام في الفيلم، فإنه في نهاية القرن غدا مشاهدا قادرًا على إدراك الفيلم بطريقة مجزأة وذلك وفقًا للتصور الذي يرسمه المؤلف حيث يقول متأسفا: “لم يعد من الضروري الإحاطة بالفيلم إحاطة كاملة، وفي كثير من الأحيان لا يجد المشاهد معنى للقيام بذلك البتة” (ص: 319).

——————-

– الكتاب: “تاريخ السينما: تصوير الأفلام.. الصناعة السينمائية وفن السينما”.

– المؤلف: إيغور بيلينكي.

– الناشر: ألبينا بوبليشير- موسكو، 2019، باللغة الروسية.

– عدد الصفحات:. 405 صفحات.

*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى