مقاربة دلالية في قصيدة د.همدان محمدالكُهالي (أحبَّة)

 

أ.عبدُه عبودالزُّرَاعِي-ناقد وشاعر يمني

وغيهب الشوق ماذا بعد أن رحلوا

وخلــفوا مهـجــةً كالــنارِ تشتـــعلُ

ذر الليالي لعشقٍ بات يسلُكني

ولوعةٌ ذَرعُها بالجوفِ يحتفلُ

دع المنايا تُقـبّـلْ بالنوى ألـمي

فخافقي بالجفا ماعاد يحتملُ

ما كان قلبي لغيـر الله مبتـــهلاً

كلا ولا خاطري بالناسِ يشتغلُ

فأينــما أدركَ العـشـَّاقُ مولدهـم

تفتق الوجدُ حتى كاد يتصلُ

يفرُّ دمعي إذا ما الريم من وجعٍ

تشكو حنيناً وبالأحزان تكتحـلُ

أحبـَّـة نقتنيــــهمُ بالحـــياةِ فمـــا

أصل الوجود سوى بالحبِّ يكتملُ

وأخوةٌ قد عهدناهم على جلدٍ

فأنّــهم جنَّــة كبـرى ومغتـسـلُ

معاشرُ القومِ بالآصالِ مطلعهم

وإن خبا أصـل إنسـان فلا بدلُ

فيا حروفاً كساها الودُّ من مضرٍ

جودي لهمْ كُلّ شكرٍ حَطّهُ جبلُ

وعانقي موطنَ الأحبابِ وألتمسي

عذراً فصاحبهم ما ضيم أو بخلوا

قصيدة شعرية تتألف من أحدعشربيتا.من البحرالبسيط وروي اللام المضمومة.وقليل من شعراء العمود من يتحفوننا بابداعاتهم ووجدانياتهم الحميمية، قلَّما يبدع شعراء القصيدة العمودية ليس لضعف شاعريتهم فحسب، ولكن يرجع ابداعهم على مدى خصب خيالهم وشحته أحيانا..بينما في أحايين كثيرة نجدالكثير منهم يجرون وراء الانشاء والنظم وكثرة الانتاج الشعري دون أن ينظروا إلى جودة المُنتَج..من حيث الابتكار في اقتناص الصورة الشعرية الجديدة او البديعية..والصورة البديعية هنا لاأقصد بها المفهوم البديعي الكلاسيكي وإن كان البديع لايخرج في مفهومه العام عن تنوع أساليب الخطاب الشعري ،واختيارالألفاظ المونقة التي تأتي ضمن سياق الألفاظ المكونة للصورة الشعرية..واستحداث المجازات والصور الغيرمسبوق لشاعر ابتداعها..لأن لغتنا العربية لغة ثرية بألفاظها واشتقاقاتها المعجمية، وهي لغة مرنة..لاتتصلب عند معان معجمية قاموسية، قابلة للتطويع حسب الاستعمال الدلالي .وتلبية لوجدانيات الشاعر وغزارة خياله والهامه النابع من صفاء الذهنية الشعرية..
شاعرنا الكهالي في نصه اللامي الذي جعله حصرا على الاحبة..بما فيهم الأخوة والقوم والأصحاب والأصدقاء..فقد جمعهم لفظ (الأحبة).وهو جمع حبيب..وهو عنوان موفق وإن كان ظاهره موجزا .لايفي بالغرض ..إلا أننا حين نقرأ النص كاملا نجد أن الشاعر قدأحكم الموضوع وواءم بين جزئياته ، فقد ساعده الجو النفسي والصدق الشعوري في النسق البنائي وتلاحم الوحدة العضوية للقصيدة تبعا للوحدة الموضوعية..فجاءت الالفاظ سهلة
والصور والمعاني جميلة وبديعة…
فهو بدأ يتحدث الى غيهب أشواقه..التي لم يبق منها سوى الظلمة.والغياب المر والذكريات المشتعلة بوجدان الشاعرواللوعات التي تحتفل بقلب الشاعر..في الوقت الذي لاتجد ماتتذرع به النفس أمام فقدان الأحبة..وغيابهم..
فحال الشاعر هو حال العشاق والمحبين..كلما مرت بهم الذكريات واعياد موالدهم. والأعياد االعامةمتى عرضت لهم تلك الذكريات جماليات الأشخاص ومواقفهم ومجالس السمر الأليفة، الراسمة..في القلوب أمكنة وأزمنة ولحظات لاتنسى..
فالشاعر شبه نفسه بالرئم اوالظبي الشاكي عن طريق التشبيه الضمني..وإن كان التشبيه مألوفا لدى الشاعرالقديم إلا أن الشاعر لم يشبه به أحد احبته..فأحبة الشاعر ..جمع لامفرد..فهو لم يخصص وجدانيته هذه بمحبوبة بعينها اوبصديق اوصاحب..بل هم جمع من الأخوان والأصحاب والأصدقاء..ربطتهم بالشاعر أمكنة وأزمنة حتى تجسد حبهم واخلاصهم ومروءتهم في ذات الشاعر..وأصبحوا جزءا من ذاكرته ووجدانه..الانساني والقومي.حيث تصبح الحياة بمعناها في غياب الأحبة ومن جمعت الشاعر بهم ذكريات تجذرت ضمن التواشج الحميمي الداخلي للذات..الانسانية الشاعرة..

فالشاعرليس إنسانا عاديا..يحب ويكره لأجل غرض مادي اومنفعي قديرضاه أويرتضيه بتحقيق الغاية. فهو على حد تعبير (ادغارألن بو) :(الشاعرهو الإله والنبي العراف.).لكن نحن كمؤمنين بوجودإله واحد..لانشبهه بالإله. وذلك لضيق معاني العبارة لدى( القاموسيين ) الذين لايؤمنون بمجازات اللغة وانزياحاتها الدلالية.التي تخرجها عن المعنى المعجمي القاموسي….الى المعنى المجازي الشاعري..
فالشاعرمتصل بأفق ابداعي من خلاله يجمع فيه بين كل الأشخاص الذين عرفهم.وكون من خلالهم علاقة ذات صلة بالوجدان والانسانية،سواء أكانوا من مشرق الأرض أم من مغربها..إذلايؤمن بعصبية الجنس اوبرابطة اللون اوالجغرافيا..كل تلك الروابط الفوضوية..ليست إلامناخا، كثير ماتحرق الشعراء والمبدعين والفلاسفة..بأدلجتها الغير مُتَقبَّلة لديهم..لمافيها من قوانين لاتَمُتُّ إلى انسانية التعارف والمحبة و الابداع والفن بأية صلة..مما يخلق بينهم وبين مجتمعاتهم اختلافا إيديولوجياوثقافيا..يكون المبدعون هم الضحايا لعدم الوعي الجمعي..
فقداعتبرالأصدقاء والزملاء وكل من ربطه بهم
صلة معرفة وزمالة إخوة من منظورالانسانية والدين..فهم الجنة وهم المغتسل من الهموم والكروب فوجودهم سعادة وراحة كماشبه الحياة بوجودهم كمن يعيش في الجنة بكل ماتعنيه..من نعيم..فقد عرفهم وخبرهم
وجربهم..فهم قوم واناس كرام يستحقون التخليد. يطلعون من الأصول وليس من الفروع..أي أن الشاعر لايقصدبالآصال الغروب وإن جمع الأصل على آصال أولا لامداد الصوت واثراء الموسيقى.ثانيا لاستقامة الوزن..بدليل. عجزالبيت(وإن خبا أصل انسان فلابدلُ)
حقا إذا انعدمت اوضعفت الأصول فليس للفروع وجود،..فالفروع عبارة عن أجزاء من الشجرة إذا خبا أصلها يبس الفرع قبل الأصل..وإن اراد الشاعر بالآصال المغارب..فإن أحبابه الذين تواشجت بهم الصحبة والأخوة فهم بمغارب الأرض.وفي لفظ دلالة الآصال بعد وجداني وكناية عن الجغرافيا المكانية والمواطن..باعتبار الآصال جزءا من المغارب .كون المغارب الأفقية نهاية المسافة التي يذوب ويتلاشى عندها انحسار الزمن.
ثم ينادي الحروف المكسوة بالمودة من( مضر) ويصورها باشخاص تسمع وتعي وتحفظ مايقول الشاعر..ويبلغها بأن تحمل إلى الأحبة. مابداخله من وجدان..وماتحمله وتحطه الجبال إلى مواطن الأحبة..وهنامجاز علاقته الحالية.
ويطلب التماس العذر..لوجدانه وفقده..فهو مازال يحمل لهم الحب..فليس بالجافي اوالعاتب..وليسوا بالبخلاء في مودتهم ومروءتهم وحبهم..ولكنها الأقدار التي غيبتهم عن التواصل والألفة ..وقدصورها بالمنايا. وهوتشبيه قديم..لكن واقع الحال جعل الشاعر يجسد المأساة ويصورالأقدار والآجال بالمنايا..
لقد هاجت الذكريات بالشاعر حسب ماأشاراليه تأريخ النص..ولاشك فإن لهذا التاريخ ارتباطا بوجدان الشاعر وهو الثالث والعشرون من مايو يأتي نتيجة لليوم الذي سبقه وهو يوم الثاني والعشرين من مايو.وفيه عادت لحمة الوطن اليمني ، التحم جنوبه بشماله وتوحدت فيه قلوب أبنائه على المحبة واختلط ترابه بالماء العذب،وتبادلت سفوحه وجباله عناق النسائم االساحرة. حتى أيقظت زغاريدُ مدُنِهِ وسجعُها وجدانَ أبنائها وبناتها..الحالمين..بالوحدة اليمنية..التي كانت مطلبا أساسيا لكل يمني في شمال الوطن وفي جنوبه…
هذه قراءة _كانت سريعة_في أحدى قصائد الدكتور همدان الكهالي ، جسدفيها روح الأخوة والصحبة والصداقة..والمروءة والنبل..والكرم اليمني الأصيل..
أرجو أن أكون قدوفقت في مقاربتي هذه، وأن تعثرت. فواقع الحال كفيل بالتسامح، نظرا لمايمر به الناقد والشاعر على السواء في هذا الظرف العصيب ..ومايمر به واقعنا اليمني على كافة المستويات والأصعدة.

والله ولي الهداية التوفيق..

أ.عبده عبودالزراعي..عضو اتحادالكتاب والشعراء العرب..
..عضوالهيئة الاستشارية لنقابة شعراء اليمن..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى