تشكلات الصورة الذاتية في قصيدة (خطى) للشاعر سعيد الصقلاوي

أ.د. خضير درويش

خُطى

بِقلْبِ الليلِ يَشْتعِلُ
ورغمَ الجَدْبِ يَنْهَطِلُ

يُوزِّعُ أُنْسَ بهجتِهِ
ولكنْ روحَهُ الوجَلُ

يَسكرُ بالهوى ، والشِّعرُ
مِنْ إِحْساسِهِ ثَمِلُ

يَلُمُّ الحُزْنَ في فَرَحٍ
ويَحْنو وهْوَ مُعْتَدِلُ

ويَهدرُ في تَصامُتِهِ
ويَهدنُ وهْوَ يَقْتَتِلُ

يُداوي وهْوَ مَجْروحٌ
ويَحْلمُ وهْوَ مُنفَعِلُ

ويُقْطَعُ وهْوَ يَتَّصِلُ
ولا العَثراتِ يَنْتَعِلُ

فأَعْجَبُ كَيْفَ لا يَقْوى
وأَعْجَبُ كَيْفَ يَحْتَمِلُ

هَلِ الأَيّامُ تَخْتَطِلُ
أَمِ الأَقْدارُ تَنْتَقِلُ؟

وهَلْ في الْفِعْلِ ما في
النَّفْسِ والْوجدانِ يَعْتَمِل؟ُ

وهَلْ حَقاً خُطاً كُتِبَتْ
أَمِ الطُّرُقاتُ تَرْتَحِلُ؟ُ

وهَلْ دارٌ هِيَ القُبَلُ
كدارٍ ما بها قُبَلُ؟ُ

وهَلْ أَرضٌ هِيَ المأْوى
إذا صُلِبَتْ بها الرُّسُلُ؟ُ

بَديعُ الحرفِ و المَعْنى
بِلَوْنِ الفَجْرِ يَكْتَحِلُ

بحبِّ النَّخلِ مَعْجونٌ
وعِشْقِ الأَرضِ مُنجَبِلُ

مُطارَدةٌ أَمانيهِ
 ويَمْلُأُ يَأْسَهُا الأملُ

 لنورِ اللِه يَبْتَهِلُ
 وبالإِنسانِ يَحْتفِلُ

يشي لفظ الخطى على المستوى السيميائي بدلالات الحركة والتنقل والمسير وعدم الركون إلى التوقف والسكون ، وهذا ما أفضى بالشاعر إلى أن يستعمل الأفعال المضارعة في تشكيلاته الشعرية لتأكيد تلك الدلالات وإثباتها، فهو يقول في مطلع قصيدته:

                  بِقلْبِ الليلِ يَشْتعِلُ          ورغمَ الجَدْبِ يَنْهَطِلُ

    في هذا البيت يعتمد الشاعر التشكيل الاستعاري في تحقيق المفارقة الشعرية التي أراد في كلا الشطرين ، فهو في الشطر الأول حين يقول: بقلبِ الليل يشتعلُ/ قد جعل لليل قلباً وقد أراد بذلك تحقيق الدلالة التي قصدها وهي شدة الظلام ليقرن بها تحقق الاستعارة الثانية بمستواها الإجرائي متمثلة بالجملة الفعلية بفعلها المضارع ( يشتعلُ ) والتي قصد بها دلالة الضياء ، فهو إذن على الرغم من كثافة الظلام من حوله يضيء وكأنه لهبُ نارٍ ساطع في ظلام دامس.

    ويأتي الشطر الثاني ليكون متوافقاً على مستوى التشكيل ومستوى الدلالة مع الشطر الأول إذ يقول: ورغم الجدب ينهطلُ / لقد تشكلت المفارقة الشعرية في الشطر الأول على أساس من التضاد اللفظي ما بين الليل ودلالة الظلام وما بين الاشتعال ودلالة الضياء ، أما في الشطر الثاني فقد تحصلت باللفظ ( الجدب) الذي يشي على المستوى السيميائي بدلالتي القحط واليباس واللفظ ( ينهطل ) بدلالات الماء والارتواء والعطاء ، فهو على الرغم من شعوره بجفاف الحياة حوله إلا أنهُ ممرعٌ بماء ذاته الذي ذهب لتشبيهه بهطول المطر دلالة الكثرة والغزارة .  

   ويأتي البيت الثاني ليتشكل بمفارقة أخرى لتأكيد بعض من صفات الشاعر واستمرارها إذ يقول:       

                            يُوزِّعُ أُنْسَ بهجتِهِ        ولكنْ روحَهُ الوجَلُ

    في البيت السابق تجلت لنا ذات الشاعر الندية الكريمة ، وعندما تكون الذات الإنسانية كذلك فلا بدَّ لها من أن تتوافر على صفات أُخر ، ذهب الشاعر إلى تشكيلها شعريا في أبيات القصيدة المتتابعة ، ومنها ما جاء في البيت الثاني ، وهو في هذا البيت يعمد إلى التشكيل الاستعاري ليجسد الأُنس ليتسنى له القيام بتوزيع الفرح والابتهاج على الآخرين بينما هو على المستوى الذاتي بعيد عن كل ما يسر ويبهج ، فهو كما الجريح المبتسم أو كما الحزين الضاحك ، وهذا ما يتجلى في قوله في بيت آخر:

                        يداوي وهو مجروح…. ويحلم وهو منفعل

   إنها الذات المعطاء وهي ذات حكيمة تحسن التعامل بما ينبئ عن تلك الحكمة في السلوك والمواقف كما يتجسد في قوله:

                      ويَهدرُ في تَصامُتِهِ        ويَهدنُ وهْوَ يَقْتَتِلُ

   والشاعر حقق ذلك بتشكيله المفارقة الشعرية التي اعتمد فيها التضاد المتحصل بالأفعال المضارعة الثلاثة ( يهدر، يهدن، يقتتل ) وهي بالأحرى جمل فعليه فاعلها المقدر(هو) أي الشاعر، فهو عندما يكون صامتاً يكون صمتهُ كلاماً ، فصمتهُ صائت ، كما انه على الرغم من هدوئه وسكونه إلا إن ذاته في حقيقة الأمر قد تكون على غير ذلك ، فهو وهي كالرماد يستر جمرا ، فهدوئه عاصف وهدنته اقتتال ، هكذا هي إذاً ذات الشاعر القلقة وغير المستقرة.

   ثم يذهب ليرسم صورة ذاته المتسامحة والمتصالحة حين يقول:

            ويُقْطَعُ وهْوَ يَتَّصِلُ         ولا العَثراتِ يَنْتَعِلُ

     في هذا التشكيل الشعري الذي تأسس على المستوى النحوي بوساطة الفعلين المضارعين ( يقطع ، يتصل ) بدلالتهما الضدية يتجلى الأثر الديني بوجهته الإنسانية في تأكيد الصلة الحسنة بين الشاعر والآخرين ، فهو يُحيل قطيعته مع الآخر وصلاً حين يمازج بين القطيعة والوصل حتى تتلاشى القطيعة ، فهو متجاوز لأسباب وقوعها ، وهذا ما يؤكده في الشطر الثاني حين يقول: ( ولا العثرات ينتعلُ ) هكذا هي ذاته في تسامحها ، تعفو عن المخطئ ولا تتعقب العثرات ، إنما هي الذات المتسامية التي تحتمل الأذى وتتجمل بالصبر حتى لتكون محل إعجاب الشاعر نفسه حين يقول:

        فأَعْجَبُ كَيْفَ لا يَقْوى       وأَعْجَبُ كَيْفَ يَحْتَمِلُ

   لقد أراد الشاعر أن يؤكد حالة التعجب من تسامح ذاته فكرر الفعل المضارع ( أعجب ) في كلا شطري البيت ولكن بتشكيلين مختلفي الدلالة فهو في الشطر الأول يتعجب من ذاته كيف لا تقوى أن تكون كالأخر صاحب القطيعة والعثرات ، وهو في الشطر الثاني يعجب من شدة تحملها وطول صبرها ويكون هذا التعجب مدعاة لإثارة مجموعة من الأسئلة الشعرية الذاتية التي تلامس الذات الأخرى ، فالمشاعر الإنسانية متقاربة وكثيراً ما تلتقي فيتحول خاص الشاعر عاماً ويكون الشاعر لسان الآخر ومشاعره ، وهذه أسمى غايات الشعر وأجل مهمات الشاعر.

    والشاعر يبتدئ أسئلته الشعرية بأداة الاستفهام هل التي يذهب إلى تكرارها مرات عديدة ليؤكد بها مضمون تلك الأسئلة بأبعادها الفلسفية والاجتماعية والنفسية ، فهو يتساءل عن حال الأيام وانتقال الأقدار فيقول:

           هَلِ الأَيّامُ تَخْتَطِلُ           أَمِ الأَقْدارُ تَنْتَقِلُ؟

    هنا تتجلى النظرة الفلسفية الإنسانية ممثلة بذات الشاعر وهو هنا يعتمد التوظيف

الأدبي ليتناص مع البيت الذي ينسب لـ ( عبد العزيز الدريني )

       مشيناها خطىً كتبت علينا        ومن كتبت عليه خطىً مشاها

    والشاعر هنا يستحيل رائياً وهو يتساءل عن مدى صحة هذه الرؤية الفلسفية الاجتماعية القارة في أذهان الناس حتى استحالت حِكَماً وأمثالاً راسخة حين يأتي بـ ( أم ) المعادلة ليطرح رأيه المتمثل برؤيته الشعرية حين يقول : ( أم الطرقات ترتحل ) وهو إذ يثبت الحركية والتغيير الذي ذهب إليه الدريني في الشطر الأول ، يذهب في الشطر الثاني ليجعل تلك الحركة والتغيير تنحوان منحى آخر بوساطة التشكيل الاستعاري الذي تضمن رؤيته الشعرية حين نقل الحركة والانتقال من المتحرك ( الخطى ) إلى الساكن (الطرقات ) وهو تشكيل شعري خرج فيه الشاعر عن المألوف مما رفع من مستوى القول بالاتجاه الفني فحقق شعريته .

 ثم يتساءل في بيت آخر قائلا:

               وهَلْ دارٌ هِيَ القُبَلُ           كدارٍ ما بها قُبَلُ؟ُ

    وهو هنا يعتمد المفارقة ليؤكد في هذا التشكيل الكنائي سمو خصيصة التواد ورفعة العلاقة الإنسانية التي تقوم على أساس من المحبة والاحترام ، ذلك أن القبل هنا إنما جاءت كناية تحمل دلالة رامزة لتلك الإنسانية المفعمة بالاحترام والمحبة ، وكذلك الدار بدلالتها الرامزة إلى المجتمع ، وهكذا يؤكد الشاعر في تساؤله الشعري هذا فضيلة المحبة وأهميتها في سمو المجتمع ورفعته.

    ثم يذهب ليتبع هذا التساؤل بتساؤل آخر بقوله:

                   وهَلْ أَرضٌ هِيَ المأْوى            إذا صُلِبَتْ بها الرُّسُلُ؟ُ

    وهو تشكيل كنائي أيضا بدلالة رمزية أخرى ، ذلك أن الرسل هنا إنما هم حملة الرسالة من الأدباء والشعراء ، وهو هنا إنما يوظف متناصاً مع ما جاء في قصة حياة السيد المسيح في معاناته في وطنه فبل صلبه فهو في معرض حديثه مع اليهود في شأن تكذيبهم له يقول لهم كلامه الذي جاء في ( إنجيل لوقا 24:4 ) الحق أقول لكم: إنه ليس نبي مقبولاً في وطنه ثم يذهب وهو يتحدث عن عدم قبولهم له ليُذَّكر بما لاقى الأنبياء قبله من مصاعب وأذى على أيدي أقوامهم فيقول لهم في ( إنجيل مرقس4:6) ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته .

    وعلى الرغم من ذلك نرى الشاعر متفائلاً ، وهو بذلك يجعل من التفاؤل الأساس الذي يعتمده في تحقيق رسالته الإنسانية ويتجلى ذلك التفاؤل في الأبيات الأخيرة من القصيدة التي يبتدؤها بقوله:

             بَديعُ الحرفِ والمَعْنى              بِلَوْنِ الفَجْرِ يَكْتَحِلُ

    وهو في هذا التشكيل الاستعاري أحال الضياء ممثلاً بلون الفجر كحلاً لعينيه تحقيقاً لذلك التفاؤل الذي يؤكده في البيت الذي يليه حين يقول:

                    بحبِّ النَّخلِ مَعْجونٌ              وعِشْقِ الأَرضِ مُنجَبِلُ

    لذا فان هذا التفاؤل يجعله يقترب من الطبيعة حد الالتصاق والامتزاج كما يحصل في حبه للنخيل وعشقه للأرض ، وهذا ما يهوّن عليه شحّ تحقق أمانيه التي يقول عنها:

                     مُطارَدةٌ أَمانيهِ                   ويَمْلُأُ يَأْسَهُا الأملُ

    لذا فإن تفاءله هذا يبعده عن اليأس ويقربه من الأمل المقترن بالإيمان وحب الناس وذلك يجعله يختتم قصيدته بقوله:

                    لنورِ اللِه يَبْتَهِلُ                    وبالإِنسانِ يَحْتفِلُ

 وهنا يُفصح عن صدر عامر بالإيمان ، وهذا مايجعله أكثر قرباً من الناس ليشاركهم ما يشعرون ، فهو شريك لهم في السراء والضراء.

   هكذا تبدى لنا الشاعر سعيد الصقلاوي في قصيدته ( خطى ) وهو يرسم لنا صوراً لخطى مسير حياته على وفق رؤيته الإنسانية التي أحالها خطى
شعرية جديرةً بالقراءة والتأمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى