العقل حلقة الوصل بين الكتاب والكون

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب إسلاميّ

العلاقة بين العقل والكون أوغل في القدم من المعرفة بين العقل و الكتاب، إذ هي قديمة قدم ما طرأ الأنسان على الكون حين أهبط إليه من الجنة ، كما أن عمر الإنسان لا يكاد يذكر إلى عمر الكون، وكذا خلقه لا يكاد يذكر بالنسبة لخلقه ” لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) ” (غافر) ..

فقد وطأ الإنسان الأرض منذ آلاف السنين ـ حسب تقديرات العلماء ــ واضطر أن يتعرف من خلال حواسه ومدركاته على مفردات هذا الكون ومسمياته، ويجوب آفاقه حثيثا كي يحفظ حياته من القوت والسكن والأمان والنسل، وحسب ما أرشدته الفطرة التي فطر عليها، وما هداه به عقله كي ييقي  نفسه ونسله.. وقد كان من دواعي ما فرضته الحاجة عليه أن يكون علاقته بالكون أوثق وأوطد من علاقته بنفسه (أن يحرص على ما ينفع نفسه من خارجها، أكثر أن يعرفها من داخلها)..

 وقد تأخر من خلال هذه الحاجة الملحة علم الإنسان بنفسه، عن علم الكون (الطبيعة والفلك والكيمياء والطب والزراعة والصناعة)، كما تأخر كذلك علمه بما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، حتى جاءت الفلسفة فضربت بآرائها في هذا وذاك، وأدخل العقل في متاهة عميقة من البحث،  أصاب فيها في بعض وأخفق في كثير .

ومن هنا كما يقول (إلكسيس كاريل) في كتابه “الإنسان ذلك المجهول” ، يقول:” صفوة القول أن علوم الجماد حققت تقدما عظيما بعيد المدى، في حين بقيت علوم البشر في حالة بدائية، ويعزي تقدم علم الحياة البطيء إلى أحوال حياة البشر وظروفها، وإلى تعقد ظاهرة الحياة نفسها، وإلى تكوين عقلنا الذي سره كثيرا الانغماس في التراكيب الميكانيكية والحسابية”.

قد ظل الإنسان هكذا يضرب في المجهول بعقله، فيخطئ ويصيب حتى جاءه الوحي، فعلمه مما لم يكن يعلم، عن نفسه ومما وراء الكون والخلق، حتى صار على بينة في كثير من أمره، ثم ينقطع الوحي عنه فيعود أدراجه إلى كثير مما كان عليه من التيه، والضرب في المادة والكون المحض، يرقي بعقله فيما يصلح أمره دنياه، ويغفل حقيقة ما خلق لأجله ..

ثم جاء الكتاب المهيمن مع النبي الخاتم فأزال العجمة عن هذا العقل، وأرخى له العنان في مسائل الكون والخلق؛ و حد له الحدود التي خول له البحث فيها، و كشف له شيئا من أمر الغيب  في الكون ، وفي ما وراء الكون والخلق: عن الله والملائكة والجن والنفس والروح، ومن سبق من الرسل، وما سلف من الأمم .

ومن خلال هذه العلاقة بين العقل والكتاب التي فتح له فيها أبوابا من العلم، وأعطى له كثيرا من الإشارات والإلماحات عن الكون والخلق، ليشغل العقل بها نفسه، ويجلي النظر للبحث في آفاق الكون عن بدعة الخلق، وبداية التكوين، وليجعل الكتاب العقل وصلا بينه وبين الكون، وليجعل من الكون المنظور دليلا على صدق الكون المسطور (القرآن)، وكأن كلاهما وجها  من وجوه الإعجاز الذي تتجلى فيه آيات الله البينات، يجلي كلاهما وجه الآخر، ويستدل بأحدهما على الآخر أن كلا من عند الله.

طرح الكتاب آيات الكون (مسطورة) بين صفحاته (السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، وكذا خلق الإنسان)، ثم دعا أن كل هذا الخلق لله، ثم دعاهم إلى عبادة هذا الخالق الواحد الفرد الصمد.

ولم تكن هذه الدعوة إلا استنادا على العقل الذي نظر في الكون منذ لحظة القدوم عليه، وما زال في قراءته، ومن خلال هذه العلاقة القديمة والتي نمت على العلم والبحث والارتباط بين العالمين (عالم العقل، وعالم الكون)، من خلال هذه العلاقة استمد القرآن جزءا من حجيته وإعجازه حين طرح على العقل هذه الفكرة مع الكون “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)” (الحج).

“أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)” (الزمر).

“وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)” (الأنعام).

هذه القلوب التي تعقل، والآذان التي تسمع، والأعين التي تبصر، لا يصرفها عن هذه الآيات البينات في الكون والخلق إلا عمى القلوب بعد تعطل الأسماع والأبصار؛ وهذه الدورة النباتية العجبية التي تشبه في نمطيتها دورة الحياة كلها (الكونية والإنسانية)، لا تضرب أمثالها إلا لتذكر أولي الألباب.. كيف كانت بداية الخلق، وكيف تدور بهم دورة الحياة ثم تنتهي إلى الفناء كنهاية هذا الخلق الذي أصبح حطاما، ثم هشيما تذروه الرياح.

وهذه الآية القاطعة الداعية إلى النظر في الملكوت (السموات والأرض) والخلق، وهذا الكون المنبسط بما فيه من آيات بينات باهرات، معجزات للعقل، وما فيه من دقة وإحكام للأشياء ” أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)” (الأعراف).وهذا عين الاستدلال بآيات الكون من خلال معرفة العقل المتراكمة والمتأملة، على صدق آيات الكتاب؛ فأي آية بعد هذا العلم والنظر يمكن أن يؤمن بها هؤلاء إلا أن يروا العذاب الأليم؟.!!

وجاء في تفسير القرطبي: ” وَالْمَلَكُوتُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ ومعناه الملك العظيم. – اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ- وَمَا كَانَ مِثْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:” قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ “وقوله:” وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ «2» “- مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَخْلُوقَاتِهِ. قَالُوا: وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَنْظُرْ، وَسَلَبَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِحَوَاسِّهِمْ فَقَالَ:” لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها” الْآيَةَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ، هَلْ هُوَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ، أَوِ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ الْحَاصِلُ فِي الْقَلْبِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ الْمَعْرِفَةُ. فَذَهَبَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي نَصَبَهَا لِمَعْرِفَتِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ بَوَّبَ فِي كِتَابِهِ (بَابُ الْعِلْمِ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:” فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ” .

وهذا هو وجه الاستدلال بالعقل والكون على صدق الرسالة الخاتمة والكتاب”وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)” (غافر).؟!! 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى