نموذج أم أنموذج؟

د. أيمن العوامري | باحث علمي

في أثناء مطالعتي كتاب (القياس في اللغة العربية) للأستاذ محمد الخضر حسين، لفت نظري كلام المؤلف عن تخطئة الزمخشري في استعماله (الأنموذج) وتسمية كتاب له بهذا الاسم()، وعلى الرغم من أن هذا الكلام ليس جديدًا، فقد أوقفني متأملًا؛ فرأيتُ أن أشمر عن سواعد التحقيق؛ متناولًا أقلام التحرير والتعليق، في محاولة للوصول إلى الحقيقة في أخصر وثيقة، ورفع الحرج عن الكتاب والأصحاب من الباحثين والطلاب؛ سواء برفض استعمال (الأنموذج) بوصفه لحنًا، أم بتصويب استعماله وإقراره، ولم يدر بخَلَدي الدفاع عن الزمخشري أو غيره من أيمة اللغة؛ فهو عن ذلك أغنى وأعلى؛ ومن ثم أقول وبالله -سبحانه- التوفيق، ومنه المدد والعون والسداد والرشاد…

هاتان الكلمتان معربتان عن الفارسية()، ذكرهما صاحب المُغْرِب؛ قائلًا: «النَّمُوذَجُ بِالْفَتْحِ وَالْأُنْمُوذَجُ بِالضَّمِّ تَعْرِيبُ نَمُوذَهْ»()، ويعنيان مثالُ الشيءِ الّذي يُعْمَل عليه()، لكن ذهب غير واحد من اللغويين إلى تخطئة الثاني؛ أي: (أنموذج)؛ كالصغاني()، والفيروزآبادي()، وابن الحنبلي()، واستصوبه قوم؛ منهم: الشهاب الخفاجي()، السكاكي()، التفتازاني()، والنووي()، وورد جمعه (أنموذجات) في شعر ابن المعتز()، واستعمله السيوطي()، وقد نقل الزبيدي ما يؤيد صحته؛ بقوله: «هذه دَعْوَى لَا تَقوم عَلَيْهَا حُجَّةٌ؛ فَمَا زَالَت العُلماءُ قَدِيما وحَديثاً يَستعملونَ هذا اللَّفظ من غيرِ نَكيرٍ؛ حَتَّى إنّ الزَّمخشريّ وَهُوَ من أَئمَّة اللُّغةِ سمّى كِتابَه فِي النَّحْو (الأُنْمُوذَج)، وكذلك الحسنُ بنُ رَشيقٍ القَيروانيّ وَهُوَ إِمامُ المَغْربِ فِي اللُّغَةِ سَمَّى بِهِ كتابَه فِي صِناعةِ الأَدب»().

    وقد استدل رافضو (الأنموذج) على صحة مذهبهم بأن المعرَّب لا تغيير فيه بزيادة()، وقد رد الخفاجي هذا الزعم؛ قائلًا: «وليس بشيء؛ ألا تراهم عربوا (هليلة)؛ فقالوا: (إهليلَج) و(إهليلِج)()، ونظائره كثير»()، بل إن المعرب() والدخيل() مظنة التغيير والتصرف بحسب ما يناسب النظام الصوتي العربي، ولا يخفى على من له اطلاع اختلاف لغات العرب في ذلك، أما النظائر التي تحدَّث عنها الخفاجي، فإني أورد بعضها بحسب ما يسمح به المقام؛ فمن ذلك ما ذكره الجواليقي من أن (النَّوْرَج) و(النَّيْرَج) لغتان، وأن أهل اليمن يقولون: (نُوْرَج)؛ وهو الذي يُداس به الطعام من حديد أو خشب، بل قيل فيها أيضًا: (النَّوْجَر) ()، وقال ابن بري: «اعلم أَنهم كثيرا مَا يجترئون على تَغْيِير الْأَسْمَاء الأعجمية إِذا استعملوها فيبدلون الْحُرُوف الَّتِي لَيست من حروفهم إِلَى أقربها مخرجا وَرُبمَا أبدلوا مَا بعد مخرجه أَيْضًا والإبدال لَازم لِئَلَّا يدخلُوا فِي كَلَامهم مَا لَيْسَ من حروفهم وَرُبمَا غيروا الْبناء من الْكَلَام الْفَارِسِي إِلَى أبنية الْعَرَب، وَهَذَا التَّغْيِير يكون بإبدال حرف من حرف أَو زِيَادَة حرف أَو نُقْصَان حرف أَو إِبْدَال حَرَكَة بحركة أَو إسكان متحرك أَو تَحْرِيك سَاكن وَرُبمَا تركُوا الْحَرْف على حَاله لم يغيروه»().

    وقد تصرَّف العرب في كلمات معربة؛ مثل: (الجوشن)؛ وهي كلمة فارسية معربة()، تعني: الصدر؛ فقالوا: (الجَوْش)، و(الجُؤْشُوش)()، ومن الأخير قول رؤبة بن العجاج [الرجز]():

حَتَّى تَرَكْنَ أَعْظَمَ الْجُؤْشُوشِ * حَدْبًا عَلَى أَحْدَبَ كَالْعَرِيشِ

    ومن ذلك كلمة (اصْبَهْذ)؛ وهي كلمة معربة عن الفارسية، وتعني: الأمير أو هو اسم لقائد من قادة كسرى()؛ قال عمارة بن حبيب [الطويل]():

كَأَنَّ الَّذِي نَنْعَى لَهَا الْمَيَّتَ مَلْعَبٌ * لِإِصْبَهْبَذٍ تُجْبَى إِلَيْهِ الدَّسَاكِرُ()

    ولما كانت الكلمة معرَّبة والمعرَّب -كما ذكرت- مظنة التغيير والتصرف، فقد غيَّر جرير من بنية الكلمة()؛ فقال [الطويل]():

إِذَا افْتَخَرُوا عَدُّوا الصَّبْهَبْذَ مِنْهُمْ * وَكِسْرَى وَآلَ الْهُرْمُزَانِ وَقَيْصَرَا

    جرير في البيت السابق حذف همزة (إصبهبذ)، ولم يفعل ذلك إلا متابعة للغة قوم في هذه الكلمة؛ ومن ثم فالتصرف واقع شعرًا ونثرًا في المعرَّب.

ومن ذلك تصرَّفهم في (الإِسْفَنْط)؛ أي: الخمر؛ بكسر الهمزة وبكسر الفاء وفتحها، و(إِسْفَنْد) بكسر الهمزة وإبدال الطاء دالًا وكسر الفاء وفتحها().

    أكتفي بهذه النماذج وأقول في النهاية: إن كلمتي (نموذج) و(أنموذج) هما كلمة واحدة تصرَّف فيها العرب كما تصرَّفوا في غيرها بعد التعريب الذي هو مظنة التغيير والتصرف بحسب لغات العرب والنظام الصوتي الذي يتباين بينهم ويتفاوت بدرجات مختلفة، أما ما استند إليه الرافضون لكلمة (أنموذج)، فهو لا يعدو أن يكون مجرد خلط بين المعرب والدخيل؛ ومن ثم فالكلمتان فصيحتان صحيحتان يسوغ استعمالهما بناء على ما تقدم، وبناء على استعمال الكثير من العلماء والأدباء لهذه الكلمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى