قراءة في رواية: العربة الرمادية للأديبة بشرى أبو شرار

وليدة محمد عنتابي | سوريا

في سردية تتوشح بشجون روح انحسرت عنها مسراتها ؛ وباتت أشبه بمدنف يتأرجح في زاوية هواجسه ينسل خيوط عمره خيطا خيطا في انتظار النهاية .تراوح الساردة بين ماض أفلت منها وحاضر لا ترغب في استمراره ، لينداح بها إلى توقع مجهول مرعب ، وقد بات الرماد سيد الألوان وفاتحة الأحزان .من العربة الرمادية التي فرض عليها استبدالها بأخرى ، بعد أن قارب هيكلها على التداعي ، لم يعد من اللائق والآمن أن تصلح للاستعمال والانطلاق بها .وحين تم استبدالها بعربة حديثة أيقنت الساردة أنها بفقدانها لعربتها فقدت شيئا مهما وحيويا بالنسبة إليها . ولم تعد ترغب في العربة الجديدة ولم تحاول أن تعتاد على قيادتها ومصادقتها .

من خلال حنين جارح ولهيب صارخ إلى ماضيها الذي اتخذت فيه صورة الأم رمزا لزمن لايعود وقد سكنت فيه روحها التي غمرها رماد اختراقات باتت فوق تحملها ، إذ لابد لمعاناتها ومكابداتها أن تنجز ذلك الكم الهائل من الانزواء والاكتئاب وفقدان الشهية للحياة وتوقع النهاية نهاية وجودها على قيد الهنا والآن .

تعتمد الأديبة في معمار الرواية على توخي تداعيات التقطها من ذاكرة مرهونة للنفاذ ، فهي على وشك تجاوز مرحلة الكهولة لتنبثق معها مظاهر تراجع الحيوية وانحسار القوى وترهل العزيمة وتراخي المبادرة .

وقد فقدت كل رغبة في الحياة تستسلم مستلبة لابنتها وابنها وقد فغرت هوة مرعبة من اللامبالاة بينها وبين الزوج الذي بات يحملها مسؤولية ما آل إليه وضعها .

تكاد تكون رواية العربة الرمادية وما سبقها من روايات : الأديبة بشرى أبو شرار ، رصدا لتداعيات حياة الأديبة الشخصية ، في مراحل مختلفة من حياتها ، خلال سنوات طويلة من حياة تخللتها أحداث يومية عادية ، لكنها في معاناتها كامرأة وزوجة تتراءى للقارئ سلسلة من الكآبات المتلاحقة في استلاب يدعو للعجب ، فهي تستسلم استسلاما مطلقا لمآلها وقد فقدت كل رغبة في التغيير والمبادرة إلى تجاوز واقع متخثر فقد كل سيولة وقدرة على الجريان .

إنها بانتظار موت أخير لسلسلة ميتاتها المتلاحقة وقد دقت آخر مسمار في تابوت وعيها متحسرة على روحها (التي هناك … إلى روح غيبها رماد الأرض ) .

أجل رماد الأرض التي استلبت مع

روحها ، فكأنها والأرض كيان واحد وروح واحدة .

في رواية العربة الرمادية يتمدد الزمان ويتكهف المكان مبتلعا كل أمل لفجر جديد .

إنها في شجنها العميق تتوحد والأرض مسقطة مأساة القضية الفلسطينية على حياتها الشخصية ، فكلاهما مستلبتان .

إن أبناء الأرض وما يقومون به من أعمال الفداء والمقاومة لاستعادتها وإعادة الروح إلى جسدها المثخن بالجراح ، يقابله في السيرة الشخصية للأديبة محاولات أبنائها في إخراجها من حالات اكتئابها وبؤس مآلها واستلابها ، وضخ الحيوية في مفاصلها التي تأكسدت بفعل الإحباط ، غير أنها في مطاوعتها لمحاولاتهم تتبدى أشبه بدمية تحركها خيوط غير مرئية ، لتعود منكفئة على ذاتها المنعزلة في وحدة أشبه بالهمود

وضعتني الرواية في جو غائم من التعاطف مع البطلة حينا والضيق ذرعا بتخاذلها عن كل محاولة لتجاوز انكفائها حينا آخر .

ولكن في الواقع إن مجريات أحداث الرواية رصد دقيق لحالات المرأة في مرحلة ما يسمى بسن اليأس عند النساء .

من خلال لغة منمقة اتخذت أسلوب السهل الممتنع لتنعش ذائقتنا التي استلبتها الكآبة ببعض النسمات الرقيقة بين الحين والآخر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى