عبد الرزاق الربيعي.. عندما تشبه القصائد شاعرها

د. محمّد صابر عبيد | أديب وناقد

كان ذلك في أواسط ثمانينيات القرن الماضي حيث بدأتُ أتردّد على بغداد بعد أن صار اسمي متداولاً على نحوٍ معقول في الثقافة العراقيّة، بوصفي ناقداً يتناول التجارب الشعريّة الحديثة في العراق –ولاسيّما الشبابيّة منها-، وكان شعراء ما يصطلح عليه في حينها “جيليّاً” بـ”جيل الثمانينيات” هم الأكثر حضوراً في المشهد الشعريّ العراقيّ، وقد تعرّفتُ إلى معظم فرسانه تقريباً لكنّ الأقرب منهم إلى طبيعتي وروحي وحساسيّتي هو الشاعر عبد الرزاق الربيعيّ، شابٌ نحيفٌ طويلٌ نسبياً أحببته من أوّل لقاءٍ كما أذكر لفرط عفويّته ودفئه وبساطته وشعريّة كلّ شيءٍ فيه، كانت هذه صورة الشاعر التي كوّنتها مع نفسي قبل أن ألتقي أيّ شاعر في حياتي، وقد سعدتُ أيّما سعادةٍ بهذا الاكتشاف الذي ظلّ محتفظاً بطزاجته وقيمته وعنفوانه وحداثته حتى الآن بل خلل أو تشويه.

حين بدأتُ أطّلعُ على قصائده عن كثب أيقنتُ تماماُ أنّ قصائده تشبهه فأحببتها بقدر ما أحببته، وقد كتبتُ عن عديد من قصائده قراءات نقديّة فيها من المنهجيّة والأكاديميّة بقدر ما فيها من الحبّ، وكنتُ أُسعد كثيراً بالكتابة عن تجربته لأنّ الكتابة في أيّ نوع أو شكل أو صورة هي سعادة وحبّ وبهجة وقيمة عليا، وأعترف اليوم أنّ ما كتبته عنه كان ومازال من أجمل ما كتبت من نقد حول قصائد بعينها وتجارب شعريّة بعينها، كنتُ أتناول قصيدته وأغوص في أعماقها وفي حواشيها وطيّاتها وظلالها فَرِحاً بما أكتشف وأرى وألمس وأصغي، فشعره نابع من ضمير حيّ لا يختلف عن أيّ شيء في شخصيّته، شكله، مشيته، حركته، خجله، كلامه، قربه من القلب والروح والعين والعقل والضمير.

ثمّة خصائص شديدة الخصوصيّة والفرادة في شعريّة عبد الرزاق يتعلّق أبرزها في اللغة التي يستخدمها على صعيد المفردة والجملة والتعبير والتشكيل، فالمفردة التي تتحرّك بين أصابعه القابضة على جمر القصيدة تبدو وكأنّها تولد من جديد، فهو يلمسها بحنوٍّ مدهشٍ، وكلّما ضغط على حرفٍ من حروفها يشعر القارئ أنّ عطراً ما ينبثق من تشكيله وحساسيّته، وبعد أن تأخذ الحروف حمولتها من العطر والتوابل والفرح تنطلق في فضاء القصيدة لتنشر دلالتها المبتكرة ومعناها الأصيل، فهي أشبه بسمفونيّة من الطيور الملوّنة تحتشد في لحظة خاطفة غير محسوبة على شجرة عاشقة، فتختلط ألوان الطيور بخضرة الشجرة بغموض العشق وسحره في إشراقة تنبعث كسربٍ من النجوم يوقظ ظلمة الليل.

يتناول عبد الرزاق موضوعات شعريّة تبدو لفرط بساطتها وعفويتها وكأنّها ماء يجري بسلاسةٍ لا تلفت انتباه أحد، غير أنّه عندما يُسيّرها على سكّة القصيدة نراها تتنفّس هواءً جديداً بالغ الصفاء والنقاء واليُسر والفصاحة، لذا فهو لا يتعثّر في مسيرته الشعريّة الطالعة من رَحِمِ طينٍ عراقيٍّ خصبٍ كأنْ لم يمسسه أحد قبله، ينقل موضوعه الشعريّ من أرضه المنسيّة المهملة الثانويّة إلى مركز الحياة والحركة والفاعلية والإبهار، يؤسطر الحالة العاديّة ويجعل منها أيقونة يؤخذ بها كلّ من يراها وكأنّها قادمة من فضاء آخر.

لا يمكنني أن أتخيّل عبد الرزاق الربيعيّ من دون صفة الشاعر أبداً، فقد خلقه الله كي يكون شاعراً ويسخّر كلّ ما يملك لخدمة قصيدته واحتوائها والعناية بها والنوم الجميل العميق السعيد على وسادتها، هو قصيدته وقصيدته هو في معادلة عادلة تماماً، داخل حساسيّة ارتباط جدليّ بين طرَفي المعادلة لا يمكن فهم طرف منه بلا حضور الآخر، بما يجعلني لا أتذكره إلا بمعيّة قصيدته ولا أتذكر قصيدته إلا بمعيّته، بصرف النظر عمّا تقوله النظريات والمناهج النقديّة الحداثيّة التي درجتُ على استخدامها في عملي النقديّ على النصوص والظواهر.

وربّما من الظواهر البارزة في شعره هي ظاهرة “القصيدة المركّزة” وكنت معنياً بها أشدّ العناية إلى أن اختارها طالبي في الماجستير “طلال زينل سعيد” لتكون موضوعاً لرسالته، وأشرفت على الرسالة وأحسب أن طلال أنجزها على نحوٍ جيّد، ونشرت الرسالة على شكل كتاب في نشرتين وأصبحت أحد المراجع المهمة في دراسة هذا النوع من القصائد، وثمّة ظواهر أخرى أصيلة في شعره منها ظاهرة “الشخصيّة” على سبيل المثال فهو يشتغل عليها شعرياً بأسلوبيّة خاصّة، وظاهرة الانزياح اللفظيّ والشكليّ والصوريّ والسيميائيّ بتجلّياته ومساراته المختلفة وهي تظهر في شعره على نحوٍ مختلف، وغير ذلك من الظواهر التي لا تخفى على القارئ اللبيب الذي يعرف من أين يأتي النصوص المغايرة.

التقينا مرّات كثيرة قبل أن تبدأ هجرته من بغداد إلى اليمن ومن ثّم استقراره النهائيّ في سلطنة عُمان، إذ كانت كلّ زيارة لي إلى بغداد مصحوبة بلقاءٍ ما مع عبد الرزاق، وكلّ هذه اللقاءات لم تكن بحاجةٍ إلى تحضير واتصالات ومقدّمات فهي تأتي عفو الخاطر ببساطةٍ ومرونةٍ ولم تتلكأ أبداً، لا أتذكّر أنّني زرت بغداد مرّة ولم ألتقِ به وكأنّ ذلك كان قَدَراً تفرضه محبتنا المتبادلة في مقامٍ لا يُخطئ، وكان آخر لقاء جمعنا في بيته العامر في مدينة “مسقط” في مارس من عام 2010، حيث أمضينا الليلة عنده أنا والدكتور حاتم الصكر وأوصلنا صباح اليوم التالي إلى المطار هو وزوجته الراحلة “رحمها الله”، وبعدها لم يبقَ سوى هذا الفضاء الأزرق وسيلة للتلاقي الافتراضي بيننا.

ينتمي عبد الرزاق للواقع الذي يعيش بحرارة وعمق وديناميّة، وينتمي للذاكرة التي يحمل بوعي وطاقة استرجاع ثريّة ومختلفة، وينتمي للحلم الذي يتطلّع بروح استشرافيّة استباقيّة ترى ما لا يُرى، وهو يحقّق في ذلك كلّه انتماءً مرهفاً لا سبيل إلى فصله أو تفريقه، يُعنى بالتفاصيل والظلال والزوايا المعتمة والكِسَر المهملة وينفخ فيها روح الشعر لتعيش وتتحوّل إلى دائرة المركز وبؤرته ومحرقه، حيث تتلاقى وتتفاعل أصداء الواقع وخيالات الذاكرة وتموّجات الحلم في سبيكة لغوّية وأسلوبيّة وصوريّة وإيقاعيّة لا نجدها في حوزة سواه، لذا يمكن قراءة شخصيته وسيرته الذاتيّة في شعره، فشعره حافل بما يحيل على شخصيّته ومحيطه وفضائه وتاريخه وتجاربه ورحلاته وعلاقاته، وهو مكتنز بالكثير الذي يمكن مقاربته نقدياً للكشف عن قيمته الشعريّة وتحولاته الجمالية على المستويات كافّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى