اغتراب المثقف العراقي عن مجتمعه
د. عبد الجبار الرفاعي
بعض الأدباء والمثقفين العراقيين يظن أن المتدين لا يمكن أن يكون مثقفا، والمثقف لايمكن أن يكون متدينا.في الشهر السادس سنة2003دعاني المعهد الألماني للأبحاث الشرقيةفي بيروت لمؤتمرٍ لدراسةتداعيات الاحتلال وآثاره على العراق.كنا جماعة من المدعوين العراقيين جالسين في الاستقبال مع لزلي ترامونتيني معاونة رئيس المعهد.حل وقت آذان المغرب، فقلت:أستأذنكم أصعد للغرفة أصلي،أجابني مثقف معروف قائلا:أنت رجل مثقف عقلاني، إلا أن الغريب أنك تصلي، وهذا لا يليق بمثقف.رددت غاضبًا:رجاء لا تجرح ضميري الديني،أنا إنسان مؤمن أصلي منذ البلوغ، ولن أترك الصلاةَ ما دمت حيًّا. الصلاة معراجي إلى الله الذي يطمئن به قلبي، ويملأ روحي سكينة وسلاما.لماذا تشترط على المثقف العقلاني ألا يكون مؤمنا،وينبغي ألا يصلي؟ عدد من الفلاسفة مثل«امانويل كانت»فيلسوف التنوير كانوا مؤمنين بالله، كيركغورد كان مؤمنا عارفا،محيي الدين بن عربي أعظم حكيم عارف ظهر في الإسلام كانت استبصارات روحه ساطعة. فوجئ الرجل بهذا الجواب الصريح،فاعتذر بكلماتٍ مرتعشة، ماتت في شفاهه.
الدينُ حاضرٌ في كلِّ شيء في حياتنا، تجاهلُ آثاره الإيجابية والسلبية كليًا، انتهى إلى اغتراب ثقافتنا ومثقفنا عن مجتمعه. يذهب بعضُ المثقفين إلى استفزاز الضمير الديني لك لو علم أنك تؤمن بالدين، يتحدث معك بكلماتٍ جارحة أحيانًا بلا مقدّمات. قبل سنة قابلتُ شخصًا كان يسأل عني ويريد أن يتعرف عليّ، حييته باِحترام واهتمام واحتفاء، بعد التحية مباشرة، لم أكن أفكر بالحديث معه عن أيِّ شأن يتصل بالدين، غير أنه استبقني وهو يقول بتوتر وانفعال: «أنا لا أؤمن بكل شيء ينتمي للدين جملة وتفصيلًا، ولا أطيق أن أقرأ أو أستمع أي كلام من أي إنسان يتحدث عن ذلك»، فانصرفتُ مباشرة.
الثقافةُ العراقيّة اليوم مغتربة عن محيطها، والمثقفُ العراقيّ مغترب عن مجتمعه. يعرف المثقفُ والأديب الأدبَ والشعرَ اليوناني أكثر مما يعرف الجاحظَ والتوحيدي والمعري، ويستشهد بالميثولوجيا والآلهة اليونانية أكثر مما يستشهد بآلهة الحضارات العراقية القديمة الراسخة الجذور في حضارات وادي النهرين. يهتمّ بقراءة الكتب المقدّسة الوحيانية وغير الوحيانية للأديان المختلفة وتراثها الديني، وقلّما يعود للقرآن الكريم، ولو حاول أن يلتقط نصًا من التراث الإسلامي، كأن يستشهد بشذرةٍ للحلاج أو النفّري أو ابن عربي أو جلال الدين الرومي لا ينظر للنهر الذي استقتْ ونبتتْ في تربته هذه الشذرة. عندما يقتطف ثمرةً لا يرى الشجرةَ العظيمة المثمرة ولا جذورَها، ولا الأرضَ المغروسة فيها. يحتفي بأفراح وأحزان أديان متنوعة، ويمتنع أو يتردّد كثيرًا وأحيانًا يخجل من الاحتفاء بأفراح وأحزان أمه وأبيه وأهله ومجتمعه. أعرف أن الثقافةَ والأدب والفن العراقي الحديث ولدت في أحضان أيديولوجيا اليسار الأممي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وتغذّت لاحقًا من أيديولوجيا اليسار القومي، غير أنها بعد مضيّ نحو قرن من الزمان مازالت أسيرةَ آباء اليسار، وتلبث حتى اليوم في رعاية أبناء وأحفاد أولئك الآباء.
الغريب أن تبجيلَ شعر الحلاج وشذرات النفري وأمثالهما من العرفاء يرادفه تجاهلُ العرفان ونصوصه لدى أكثر المثقفين العراقيين. نادرًا ما أرى ومضاتٍ مضيئة في النثر والأدب العراقي الحديث مرآةً لرؤية فيلسوف وذوق عارف في الأدب العراقي. يكتب فتغنشتاين: »إن الشعور بالعالم ككل هو الشعور الصوفي». إن ثقافةً لا تتشبّع بالفلسفة ولا تتذوق العرفانَ تظلّ فقيرة، تحاول أن تغطي فقرَها بفائض الألفاظ. مثلُ هذه الثقافةِ تجهل الحاجةَ للدين، وتعجز عن رؤية أعماق الحياة الروحية.
في العراق موقف المثقف من الدين والتدين ملتبِس، أحيانًا يبلغ الموقفُ حدَّ النفور والاشمئزاز من كلِّ ما يمتّ للدين بصلة، من دون نظرٍ وتأملٍ في الدين بوصفه ظاهرةً أبدية في الحياة البشرية، ومن دون نظر وتدبر بتنوع قراءات النصوص الدينية، واختلافِ تأويلها عند المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والعرفاء، ومن دون تمييزٍ بين أنماطِ التدين وتعبيراتِه المتنوعة في الحياة. كلُّ شيء يتصل بالدين والتديّن يوضع في سلةٍ واحدة. المشكلة في العراق أنك نادرًا ما تجد في الوسط الثقافي، الذي يحتكره اليسارُ تاريخيًا، مَن يكتب في الدين، أو يقدم تفسيرًا علميًا لقوة حضورِه وتأثيرِه الواسع في حياة الفرد والمجتمع، بل تجد من يهزأ بالكتابة في الدين ويسخر من الحديث عنه. أحدُ حاملي الدكتوراه، بدلًا من أن يتجنب الخوضَ خارج تخصّصه، يقول: كيف يمكن أن يكون الإنسان مثقفًا وهو يعتقد بـ «ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ»/ البقرة. لو قرأ هذا الدكتور شيئًا من الدراسات الحديثة في لغة الدين لأدرك أن لغةَ الكتب المقدّسة لا تُقرأ من دون أدواتها الخاصة. ترسّخت عقدةُ ازدراءٍ للدين والتديّن في الثقافة العراقية الحديثة، إلى الحدّ الذي يمكن أن نجد المثقفَ عقلانيًا في أكثر كتاباته، إلا أنه لحظةَ يكتب عن الله والدين والتدين يتحول إلى كاتبٍ لا عقلاني ولا منطقي، وأحيانًا يصير شتّامًا، يكتب بتهكّم وسخرية.
لم أجد مثقفًا جادًا أو أديبًا مبدعًا من أصدقائي خارج وطني إلا وتكوّن تكوينًا فلسفيًا رصينًا.كلُّ ثقافة فاعلة تتأسّس على أرضيةٍ فلسفية، ورؤيةٍ جمالية للعالَم، ولا تفتقر لنكهةٍ عرفانية، ترى ذلك يتجلّى في: الدين، والميثولوجيا، والشعر، والفنون السمعية والبصرية. لولا ابن رشد وابن عربي وابن طفيل وابن سبعين، وغيرهم من الفلاسفة والعرفاء، لنُسي الوجهُ الثقافي المضيء للأندلس.
المثقف الحقيقي يتبنى العقلانيةَ النقدية، يرى في النقد حياةَ العقل، يتعلّم من النقد العلمي، ويتعلّم من المتعلمين، وحتى من غير المتعلمين. في الثقافة العراقية الحديثة مفهومُ النقد مضلّل، نادرًا ما تقرأ في وسائل التواصل نقدًا عقلانيًا، بعضُهم يتهجّم ويستهزئ بمؤلفات ثمينة من دون أن يقرأها. وأحيانًا يهجو غيرَه، لا لسببٍ إلا لأنّ مزاجَه لا يقبله، وربما يلجأ للعنف اللفظي، وإذا سألته: لماذا تكتب هكذا، يجيبك: هذا نقدٌ، وكأن النقدَ ازدراءُ الأشخاص والسخرية منهم، وليس محاكمةَ الأفكار وغربلتَها وتمحيصَها. هذا مأزق مستحكِم في الثقافة العراقية الحديثة، وهو في ظني أعمقُ عامل للطلاق البائن بين المثقف والمجتمع.
عشتُ في بلدان متعدّدة وتعرّفت على نخب ثقافية عربية وغير عربية، قلّما رأيتُ مفكرين معروفين جادّين يفهمون الدينَ بتبسيطٍ مريع، وحانقين على التديّن إلى الدرجة التي عليها بعضُ مثقفينا. محمد عابد الجابري ختم حياتَه بتفسيرٍ للقرآن الكريم، وهكذا كان إنتاجُ خريف عمر عبد الرحمن بدوي كتابَ “دفاع عن القرآن”، و” دفاع عن محمد”، وأصدر عبد الله العروي كتاب “الإصلاح والسنة” في خاتمة رحلته الطويلة، وكرّس حسن حنفي السنوات الأخيرة من حياته لتفسير القرآن. ورأينا أمثالَهم مفكرين كبارًا منتمين إلى مجتمعات عالَم الإسلام وغيرها يختمون إنتاجَهم الفكري بكتابات دينية. لا أدعو لأن يفعل الشعراءُ والأدباء والفنانين ذلك في مجتمعنا، ولا أريد أن يتحول المثقفُ إلى مبشِّر ديني، وليس هدفي تقييمُ تلك الكتابات لمفكرين معروفين لا يعنيهم الشأنُ الديني قبل نهاية مشوارهم في التأليف، والتنقيبُ عن الدوافع الخفية في خريف العمر، مثل قلق اقتراب الموت والشعور الحزين بوحشة القبر، التي تحفزّهم لمثل هذا النوع من الكتابات. أردتُ فقط التنبيه إلى وعي مفكرين عرب كبار، وإن كان متأخرًا، للحضور الفاعل للدين والتديّن في مجتمعاتنا.
الغريبُ أن بعضَ المثقفين كثيرًا ما يكرّر الدعوةَ لنبذ العنف والدعوة للـ “السلام”، ويراكم مقالات متنوعة حول ذلك، غير أنه ينفر من كلمة “السلام” حين تقترن بتحية الإسلام. من حقِّ كلّ إنسان أن يحيّي الناسَ بما يحلو له وبما تربى عليه، إلا أن بعضَهم يرفض حقَّك في استعمال تحيتك المعبِّرة عن ذوقك وتربيتك وأخلاقك ودينك. لا يطيق آخرون الترحّمَ المتعارف على الميّت والدعوةَ له أن تشمله رحمةُ الله الواسعة، فلو ترحمتَ عليه ودعوتَ له، يعاندك بلغةٍ مباشرة تشي بإنكارِ الحياة الأخرى، وكأن عزاءَه لك في إنكارها. رثيتُ قبل مدة أحدَ علماء الدين من الأصدقاء الأعزاء الذين تمتدّ صلتي بهم إلى نصف قرن، عرفته بمواقفِه العنيدة المناهِضة لفاشية صدام، وجهودِه الدينية والاجتماعية والثقافيّة، ومشاريعِه الخيرية باحتضان الأيتام ورعاية الفقراء، ارتبطتُ بعلاقة احترام متبادل معه، وتربطني علاقاتٌ ودية بأبنائه الكرام وعائلته. عندما استيقظتُ صباحًا قرأتُ في التعليقات كلامًا مستهجنًا يزدري رثائي، ويتهجم على الميت بلغة حانقة مبتذلة، وكأن هناك ثأرًا مكبوتًا حانتْ لحظةُ استيفائه، مما اضطرني لحذفِ الرثاء، وحظرِ كل مَن يكتب بهذه اللغة الهابطة.
كلُّ مثقف مسؤول يزعجه مَن يجرح الضميرَ الديني للمختلِف في دينه ومعتقده وتفكيره، لا يليق أخلاقيًا وذوقيًا أن نتهكم على الطاوية أمام إنسان طاوي، أو نلعن بوذا أمام إنسان بوذي، أو نتهجم على زرادشت أمام إنسان زرادشتي، أو نزدري نبي أي ديانة أو مؤسّسها أمام إنسان يختلف عنّا في ديانته. ينبغي أن نحترم معتقدات المختلِف في الدين، كما ينبغي له أن يحترم معتقداتنا، وألا يتّهم النبيَّ الكريم “ص” الذي نؤمن بنبوته ووحيه ورسالته السماوية، مثلما يحترم المختلِفين عنه في معتقداتهم من غربيين وشرقيين.
أعني بالثقافة في العراق الشعرَ والأدبَ كما هي مختزلة بذلك، وأخصُّ به الشعرَ المفرّغ من أيّ مضمون فلسفي ورؤية معرفية، ومن أية بصيرة حاذقة، ومن أية كثافة دلالية. مركزية الشعر في الثقافة العراقية عملت على إسقاط أو تهميش كلِّ ما هو خارج الشعر والأدب، فلا ينصرف مفهومُ الإبداع إلا لها، ولا ينصرف مفهومُ مثقف إلا للشاعر، بل حصرت معنى الثقافة بالشعر والأدب والفن. هُمشّت الفلسفةُ وعلومُ الإنسان والمجتمع وعلوم الدين، قلّما نلتقي بها في أنشطة وزارة الثقافة وإتحادات الأدباء والكتاب ومؤتمراتهم وندواتهم ومطبوعاتهم. غالبًا لا تكترث الوزارةُ واتحادات الكتّاب والأدباء وغيرها من منتديات ثقافية عراقية بالإنتاج الفكري في حقل العلوم الإنسانية والفلسفة والعرفان والدين، أو تمنح الباحثين الجادّين في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع والدين منصاتها، أو تكرمهم. جوائز وزارة الثقافة وغيرها من المؤسّسات ودور النشر تختصّ غالبًا بالشعر والرواية والسرد. ولا تحتفي اتحاداتُ الأدباء والكتاب في العراق بأية جائزة كبيرة تمنح خارج الوطن لمنجز فكري عراقيّ، إن كانت لا تقع ضمن هذا الضرب من الكتابة.
الثقافة في العراق تعيش خارج الوسط الأكاديمي، الأكاديميا في وطننا لا تهتمّ كثيرًا بالثقافة بمعناها الأشمل إلا في حالات قليلة، حتى لو بادر بعضُ الأكاديميين للكتابة خارج تخصّصه فإنه لا يتجاوز الشعر والرواية والنقد. الأكاديمي حبسته قراراتُ وزارة التعليم العالي والجامعة في الانشغال بأبحاثٍ لأغراض الترقية واللقب العلمي، وهي في الغالب أبحاث شكلية، وأغرقته في أعمال لجان وإدارة تعليمية أكثرها ينبغي أن ينجزه موظفون إداريون خارج مهنة التعليم العالي والبحث العلمي. تقوقع الأكاديمي على نفسه، ودخل حالةَ غياب عن الثقافة هو وإنتاجُه الفكري، بعد أن سجنت عقلَه القوالبُ الأكاديمية المهنية الصارمة، وعجز عن التفكير خارج اطارها المغلق.
ربما ينشأ الموقفُ السلبي من الدين من الخلط وعدم التمييز بين الإيمان من جهة والدين من جهة أخرى، وبين تمثلات الدين وأنماط التديّن في حياة الفرد والمجتمع من جهة ثالثة. الإيمان يعبّر عن تجربةٍ روحية ووصالٍ مع الله يعيشه المؤمن، وهي حالةٌ للروح لا تتحقّق إلا فرديًا، كلُّ إنسان يعيشها على وفق وعاء روحه وقدرتها الوجودية على الانبساط والاتساع. ينعكس الإيمانُ في يقظة الروح واستبصاراتها، ويؤثر في نمطِ رؤية الإنسان للعالَم، وقدرتِه على تذوق تجليات الجمال الإلهي في الوجود. أما الدينُ وتمثلاتُه وأنماطُ التديّن في حياة الفرد والمجتمع فهو ظاهرة فردية ومجتمعية، تعبّر عن حضورها في أخلاق الإنسان وثقافته ومواقفه وسلوكه ومختلف أحواله، تؤثر هذه الظاهرة وتتأثر بطبيعةِ الفرد وظروفِ عيشه، ونمطِ حياة المجتمع، والمؤسساتِ المسؤولة عن تدبير الشؤون الدينية، والسلطات السياسية. أسوأ ما يجري فيه توظيفُ الدين هو استثمارُه في استعبادِ الإنسان، والصراعِ على السلطة والثروة، والسعي للاستحواذ على المجال الخاص بالعقل والعلم والمعرفة، وإخضاعُ الآداب والفنون والثقافة لمنطقه اللاهوتي، ورفضُ استعمال المنطق العلمي، واستعمالُ الدين في إدارة الاقتصاد والمال والإدارة وبناء الدولة وصياغة نظمها، وتجاهلُ معطيات الخبرات البشرية المتراكمة عبر عشرات آلاف السنين، ومكاسب العلوم والمعارف الحديثة.
من الظواهر المثيرة اليوم تفشي ظاهرة الحكواتيين، وطغيانُ حضورهم في الفضائيات ووسائل التواصل، يتحدثون بتكهنات وافتراضات في الدين وعلومه والميثولوجيا والآثار، من دون تأهيلٍ أكاديمي تخصّصي في علوم الدين والميثولوجيا والآثار، ولا معرفةٍ بقراءة الخط المسماري ولغات الحضارات العراقية القديمة مثلا، وبلا مطالعاتٍ عميقة للمراجع الأساسية في هذه التخصّصات العلمية الدقيقة.
لهذه الأسباب وغيرها تظل الثقافةُ العراقية مغتربةً غيرَ فاعلة بمجتمعها، منفصلةً عن واقعه وصيرورته وتحولاته، قاصرةً عن التعبير عن آلام الناس وآمالهم، وبؤسهم وأحزانهم وهمومهم وواقعهم المرير الذي يعيشون فيه ويحلمون بتغييره، كأن الثقافة غيرُ معنية بالإنسان العراقيّ.