بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين
رينه شار واحدٌ من كبار الشعراء الفرنسيين الذين ابتدؤوا مؤيدين ومشايعين للفوقواقعية منذ ولادتها، حيث هَدْهَدَ سريرَها، وشدَّد خطواتها المتعثّرة الأولى، وَعَقَدَ الآمال عليها وعَقَدَتْ هي عليهِ الآمال. إلا أنَّ الزمن باعَدَ بينهما فتهاجرا على وفاقٍ وبقي فيهما أثرٌ لا يمَّحي، أثرُ الصبا وما يواكبه من الحنين. وهكذا فحتى أيامنا هذه، نلاحظ أنَّ نتاج رينه شار كان أحد الطرق الرئيسة التي تمَّت بواسطتها عملية نقل الدم الفوقواقعي إلى عروق الشعر المعاصر؛ حيث صبغت الفوقواقعية شعر رينه شار بجرأة وفيض الصور المتألقة، وأضفت شعوراً عشقياً برسالة الشعر، وذلك يعني أنَّ الشعر قد تجاوز كونه طريقة أدائيةً إلى كونه طريقة في السلوك والحياة وبعثاً لعالم جديد. لقد أغرق رينه شار في تطلّب التفرُّد والشذوذ وإثارة الشكوك، واحتقار الأدب كشيء مكتوب، هذه هي المظاهر الفوقواقعية التي خلعها عنه وتملَّص من إسارها، كأنما نتاج رينه شار هو المَثَل الناطق على التآلف الأكمل بين القصيدة كشيء مكتوب، وبين الشعر كتجربة حياتية. هذا من جهة، من جهة أخرى فإننا نعرف أنَّ الفوقواقعية تنزلق طبيعياً إلى التلقائية أو الأوتاماتيّة، وإلى الحِلِّ والترَهُّلْ، إلى تحرير الجهاز التعبيري. على أنَّ شار هو بعكس ذلك تماماً هدفه الصعود لا الانزلاق، وقبوله التجربة الثرية بأكثر ما يمكن كثافةً وصلابةً وتفجيراً. من هنا جاء شعرهُ عَضِلاً متجمعاً على نفسه ِ،كأنما كلُّ بيتٍ حِكمةٌ قائمةٌ برأسها أو قصيدةٌ بحجم الماسة وقيمته.
هذا هو رينه شار الذي وُلِدَ في جنوب فرنسا عام 1907، واعتنق السوريالية مذهباً في الشعر بعد اصطباغه بالفوقواقعية، ثم أصبح نسيج وحده على كثير من الغنائية،حيث خلط الشعر بالنثر. وفي ذات يوم قرّر بروتون، بوحيٍ ربما من تاريخه العسكري كجنديّ في فوجِ المدفعيةِ، اقتحامَ أحدِ المقاهي الشهيرةِ في منطقةِ مونبارناس الباريسيَّة؛ حيث كانت تجري حفلةٌ راقصةٌ للطبقةِ البورجوازيةِ في رعايةِ إحدى الأميراتِ، فما كان منه إلاّ أنْ أمرَ رينه شار بتقدّم المجموعة، لأنه (الأجرأ والأقوى جسدياً). لأنه يَعْرِفُ أنَّهُ في داخل كلِّ مثقّفٍ ديكتاتور، هذا ما قاله ميشال فوكو، وهذا ما أكّده سلوك مؤسس الحركة السوريالية أندره بروتون في مواقف عدة. رينه شار، الشاب الضخم القادم توّاً من قريته الجنوبية قرب مرسيليا كقائدٍ لجيش باريس السوريالي، رينه شار هذا، أصغر الشعراء السورياليين عمراً، سرعان ما كَبُرَ على السوريالية، أو شبّ عليها، (الكابتن ألكسندر) كما عُرِف في صفوف المقاومة الفرنسية السرّية، عدوّ النازية وصديق من طالته طويلاً تهمة الانخراط في صفوفها (الفيلسوف الألماني هايدغر)، وأحد العظماء النادرين الذين حظوا بفرصة الانضمام إلى مجموعة (لابلياد) وهم على قيد الحياة. وعلى غرار تلميذ (مدرسة الأعمال المتوحشة الجيدة)؛ أي بروتون، لم تكن حياته إلا كما يفترض أن تكون: حياة رجل متأرجحٍ أبداً بين حدَّي العبقرية والجنون. لم يَسْعَ رينه شار إلى الانضمام إلى الحركة السوريالية؛ بل إنها هي التي أرسلت في طلب الشاب الموهوب المغمور الذي كان يعيش منعزلاً في بلدته إيل سور لاسورغ، قبل أن يتعرّف إلى الشاعر بول إيلوار، الذي أقنعه بالذهاب إلى باريس والانضمام إلى السورياليين. هكذا، التحق رينه شار، المولود في 14حزيران1907، بالحركة في أوائل الثلاثينيات وهو في عمر الثانية والعشرين، ليكون الأصغر بين أعضائها الثلاثينيين: أراغون، إيلوار، وبروتون. عن تلك المرحلة قال شار:( كنتُ ثورياً وبحثتُ عن أخوة. كنت وحيداً في إيل، لا صديق لي سوى فرنسيس كوريل صاحب المخيّلة المظلمة، وأخيراً لمست هذه الحرية).في أثناء هذه المرحلة ظهر لشار عدد من الكتب الصغيرة في إطار المنشورات التي كانت الحركة تصدرها، أبرزها قصيدته الطويلة (آرتين) التي تحدّث فيها عن (قتل الشاعر نموذجه)، إضافة إلى مجموعة شعرية مشتركة مع إيلوار وبروتون صدرت عام 1930. لكنه سرعان ما (قتل نموذجه) بعدما ضاق ذرعاً بـ(حرّيته) التي تغنّى بها سابقاً، فاستعاد استقلاله وابتعد عن الحركة 1934، جامعاً أشعاره السوريالية كلّها في كتاب حمل عنوان (المطرقة بلا معلّم)، ومحتفظاً بعلاقة جيّدة مع إيلوار وبروتون وتزارا. بهذه الطريقة انتهت رحلة بروتون مع السوريالية التي لم يكتفِ بالدفاع عنها جسدياً في واقعة مونبارناس ضد البورجوازيين، بل دافع عنها فكرياً في حقبة المواجهة مع أدب الاشتراكية الواقعية. انخرط رينه شار، المؤمن بالديناميكية، والمعنيّ بمستقبل العالم، في حركة المقاومة السرّية الفرنسية عام 1940 كرئيس قطاع، لأن الشاعر (لا يموت حتماً على المتراس الذي اختير له).
نشر الشاعر الفرنسي رينه شار عدداً كبيراً من الأعمال، بخاصة تلك التي فيها حساسية مفرطة تجاه المرأة؛ فوالدته, تلك المرأة القوية التي لم تعطف كفاية على ابنها, دفعت رينه شار إلى التعلّق وهو صغير بأخته البكر جوليا، وبجدّته جوزيفين روجي وعرّابتيه, الأختين لويز وأديل روز, الأمر الذي يكشف المصدر الأول لحساسيته ويُفسِّر جزئياً ولعه الثابت بالمرأة ومغامراته العاطفية الكثيرة لاحقاًً،.وانطلاقــة شار كشاعــر خلال تأديته الخدمة العسكرية بين 1927 و1928. وقصائده الأولى التي صدرت في تلك الفترة في مجلات أدبية مثل “الأحمر والأسود” و”المجلة الجديدة” و”علامات”, قبل أن يؤسس مجلة “ميريديان” ويديريها حتى1929. وخلال تلك الفترة أيضاً, أصدر ديـــوانه الأول “الأجراس على القلب” الذي كتبه بين 1925 و,1927 و”صمت السماء و”ترسانات” 1929. لقد أقيم معرض ضخم بمناسبة الذكرى المئوية لولادته في إحدى الصالات الباريسية التي خصصت إحدى تلك الصالات للحقبة التي انخرط شار فيها داخل الحركة السرّيالية 1929-1935، وشارك بانتظام في نشاطاتها واجتماعاتها، موقّعاً بياناتها، ومساهماً بنصوصٍ رائعة في مجلاتها، وإصداراتها الجماعية. وعلاقاته المتينة ببول إيلوار وأندريه بروتون وبنجمان بيري, وإصداراته السريالية, مثل “مدفن الأسرار” و”أرتين” و”إبطاء العمل” الذي اشترك في تحريره شار وبروتون وإيلوار 1930 و”المطرقة بلا طارِق” الذي ينتمي إلى الكتابة السريالية بقدر ما ينتمي إلى أسلوب شار المميّز بعنفه وسرعة صوره ونبرة كلماته القوية. ويختتم هذه الصالة ديوان “طاحونة أولى” الذي صدر بعد انفصال الشاعر عن المجموعة السريالية, وشكّل بدايةً لأسلوبٍ حِكَمي اعتمده شار لمتابعة تأمّلاته في الشعر.لقد ترك لنا الشاعر رينه شار العديد من الأعمال منها: (المطرقة بدون سيّد – وحدهم يستمرّون – وريقات هيبنوس – الليل محكوم هو، في الخارج – احتدام وسر – نثر وشعر – حضور مشترك – شمس المياه – عودة إلى عالية النهر – عُرْيٌ مفقود – بابٌ على السطح – نوافذ نائمة- القصيدة المتناثرة هباءً ).
ومن القصيدة المتناثرة هباءً نختار هذا المقطع:
الطائرُ يَقلِبُ الأرضَ،
الحيَّةُ تزرعُ الموت الذي أُجيد
يُصَفِّقُ للغلالْ
إله النّارِ في السماءْ!!
الانفجار فينا.
هُنا، هنا فيَّ أنا.
أصَمُّ مجنونٌ، وكيف لي أنْ أزيدْ؟؟
لم يبقَ في ذاتيَ ذاتٌ ثانية
لم يبقَ وجهٌ يستحيلْ،
لم يبقَ من موسم للَّهَبْ
من موسمٍ للظِلْ!!
ومع الثلجِ البطيءِ ينزَلُ البُرْصُ.
وفجأةً الحبُّ، معادِلُ الهَلَعْ.
بِيَدٍ لمْ نَرَها من قَبلُ،
يُوقِفُ الحريقْ
ويسوّي الشمس ويُعيد الصَّديقةْ
لا شيءَ كان يُبشِّرُ بذا الوجودِ القويِّ.
من الواضح أنَّ رينه شار هو نسيج وحده، لا يستوطنُ ولا يتقوقع. لقد قال : (منزلُ الشعراء مُبْهَمٌ غامضُ الجوانب) وقال: (تزوَّج بيْتَكَ ولا تتَزَوَّجْهُ) فالحرية تحرُّرٌ وانطلاق وتنقُّلٌ بين قمةً وقمة على هام المَدوات الفيحاء، وعلى سِنان الزمن، لذلك يشعر الشاعر بأنَّ منزله إنما هو حالةٌ نفسية، كما يقول باشلار، حالة وهميّة متقلّبة، وبأنَّ الحنين إلى الكينونة طريقٌ مضلِّلة، وبأنَّ البيت كالشعر، لا وجود له إلا نُثاراً وهباءً ويُذَرَّرُ في كلّ ريح. يقول في قصيدة مصارعون :
في سماءِ الرجالْ،
بدا لي خبزُ النجومِ مظلماً وقاسياً،
ولكنْ في أيديهم الضيقةِ قرأتُ تطاعُنَ هذه النجومِ،
داعيةً نجوماً أخرى لا تزال حالمات مهاجرة من القنطرة،
جمعتُ عرَقَهن الذهبي،
فتوقفت خلالي الأرضُ عن الموات.
الأشياء والحيوانات والكلمات والقصائد، كلُّها تتفلت من ربقة الجاذبية وتُغِذُ في طيرانها باتجاه الشمس، والشاعر يعيش في الأعالي هنيهةَ السعادة الهاربة، في أعالي سمائه المتوسطية التي تَلْتَحِف زُرقَة الجَلَدِ وصفاءَ الأديم. لقد قال : (حَييتُ اليومَ هنيهةَ السلطان والعصمةِ المطلقة، كنت كخليّة النحل التي تطير شطر الأعالي بشهدها كلِّهِ ونحلاتها جميعاً).
وهو القائل أيضاً:(صفاءُ الذِّهنِ هو أقربُ جُرْحٍ إلى الشمس).نعم. ورفاقه في الحياة هُمُ الخلَّاقون، أولئك الذين يزورون الأرض ولا يستوطنون الأرض. لقد جهر عالياً بهذا في قصيدته: (المخترعون) التي يقول فيها:
لقد جاؤوا. إنهم حطّابو المُنْقَلَبِ الآخرِ، الذينَ نَجْهَلَهُمْ، الناثِرونَ على عاداتنا،
لقد جاؤوا عديدين.
لاحَتْ فِرْقَتُهُمْ هنالكَ حيث ينفصلُ الأرْزُ
عن حقل الحصادِ الشائخ الذي قد أصبحَ ريّاً أخضرَ.
كان طولُ المسير قد لفحهم بِحَرِّّهِ
كانت قبعاتهم مكسورةً على عيونهم وكانت أرجُلُهُمْ تقع على المُبْهَمِ
لقد شاهدونا فتوقّفوا
لا، لم يكونوا يعتقدون أنهمْ سيجدوننا هنالك
على أراضٍ وطيئة وعلى أثلامٍ مُقْفَلَهْ
وآخِرُ ما يهمهم أنْ يتحدّثوا إلينا.
رفعنا جباهنا وشجعناهم.
راح رينه شار يكتب يوميّاته لينشرها في ما بعد في كتاب حمل عنوان (أوراق إيبنوس) ((1946، جاء فيه: (لقد أحصينا كل الألم الذي يمكن للجلاد ممارسته عرضياً على كل إنش من أجسادنا، ثم، ونحن منقبضو القلب، مضينا وواجهنا). هذه المرحلة المكثّفة والغنيّة التي أمضاها متخفّياً في المغاور والغابات أثّرت في شعره تأثيراً كبيراً، ولاسيما قصائد مجموعته (حمّى وسرّ) (1948). وعلى الرغم من الشائعات التي طالت هايدغر حول ماضيه النازي، وتاريخ رينه شار النضالي ضد النازية، فقد جمعت الاثنين صداقة متينة، تسببت بحساسية لدى البعض الذين عدّوا هايدغر عميلاً للنازية وهتلر. لكن الشاعر دافع عن الفيلسوف رافضاً التهم التي سيقت إليه، عاداً أن ميله في شبابه إلى النازية، على غرار شبّان ألمانيا جميعاً، لا يعني أنه شارك في المجازر. بدأت علاقة الرجلين عندما دعا رينه شار هايدغر إلى قريته، وانضمت إليهما مجموعة من المثقفين، ثم توالت اللقاءات التي كانا يتحدّثان خلالها عن هولدرلين، وعن الشعر والفلسفة اللذين يتجاوزان الزمان والمكان. اعتقاد رينه شار أنهما ينتميان إلى صنف واحد من الناس، هو الذي وطّد أواصر الصداقة بينهما: (الأشخاص غير المندمجين في المجتمع أو في الحلم. المنتمون إلى قدر معزول، خاص، لا يشبه قدر الآخرين)، هؤلاء هم الأكثر نبلاً وخطورةً بين البشر الذين ميّز فيهم رينه شار بين أنماط ثلاثة: اللطفاء، المزعجون، والعباقرة. هذا الاقتناع بالتفرّد، راح يتبلور لدى شار أكثر فأكثر ليفلت من قدر الفنان الملتزم قضية، هو الذي شارك بقوّة في القضايا العامة حتى بعد رحيل النازيين عن فرنسا، وافق رامبو رأيه القائل: (من الآن فصاعداً لن يرافق الشعر إيقاع الممارسة، إنما سيتقدّمها، سيضيء لها الطريق). نحّات اللغة ربط هذا الشاعر الريفي، الذي لم يعرف التسويات، الأدب بالأخلاق دائماً، لذلك هجر حياة المجاملات والنفاق المفتعلة في باريس، التي لم تبهره احتفالاتها وأضواؤها، وعاد إلى بلدته الأم باحثاً من دون كلل عن البراءات الأصلية، عن ذلك الشيء الأثيري الذي لا يمكن القبض عليه أبداً: الشعر. وقرر أن يعيش مخلصاً له وحده، عادّاً أنه لا يجوز إشراك شيء معه: لا زواج ولا عائلة ولا أولاد ولا أي شيء آخر. لكن هذا لم يمنعه من الزواج أكثر من مرّة، ومن إقامة علاقات عاطفية عدة من دون أن ينجب أولاداً، محاولاً بهذا المعنى إيجاد نوع من التوازن بين اقتناعاته ورغباته. على أي حال، تميّز شعر رينه شار، الذي استلهم الطبيعة الريفية بحيواناتها ونباتاتها وجمادها، بالوعورة والصعوبة، كأن كاتبها شقّ الكلمات في لغة من صخر، ناحتاً قصيدةً صارمة وصادمة، هدفها أولاً تشويش السير المنطقي، وإن سعت إلى الحفاظ على تطوّر سيرها الخاص.وإذا كانت المرحلة السوريالية حرّرته من الصيغ القديمة المعرقلة، وأطلقت قصيدته إلى آفاق أرحب وأكثر حرية، فقد اندفع بعد ذلك إلى تطوير أسلوب شديد الخصوصية، تجلّى في أعماله العديدة مثل: (في الخارج الليل محكوم(1938) (، )حمّى وسرّ) (1948)، و(الليل الطلسمي) (1972). إلا أن لغة رينه شار الحرون، دفعت بعض النقّاد إلى وصفها بـ(غابة الرموز المعقّدة)؛ بل ذهب بعضهم الآخر أبعد من ذلك نافياً أن يكون لتلك التركيبات اللغوية العجيبة أي معنى. لكن رينه شار، الذي جاب أنواع الشعر كلّها، من الشكل الحرّ إلى النثري إلى الموجز إلى التأمّلي والسردي، سحب البساط من تحت أقدام الجميع حين عدَّ أنه غير مهتم بوجود المعنى أو عدم وجوده في شعره.
ثمة عوامل عدة تَسِمُ نتاج شاعرنا رينه شار ومواقفه الشعرية والخليقة بسمات مقصورة عليها، جوهرية، وتَنْفَحُها بالقيمة الراجحة وبالشيوع الذي كاد في أيامنا أنْ يُطبِّقَ الآفاق. منها ذلك الحب الذي معظم قصائده تدور في فلكه، لكنَّهُ حُبٌ سُلطانيّ فقد قال : (وأنتِ أيتُها العاشقة، قمَّةُ اليومِ، لا تَخشَيْ أنْ أُضيفَكِ إلى ما سبقكِ من المواهب).
الحب ليس أزمة عابرة أو حالة طوارئ أو إعصاراً يدور بالكيان وبالكائن. إنّهُ الصفاء والطمأنينة ومعادلة الذات. إنه المناسبة التي تتيح للشعر أنْ يتفحّص معطيات الوجود وأنْ يُفيض لألاءهُ عليها. إنَّهُ نهاية وغاية وكمال. وليس الحب عزلةً أو وحشة يتقوقع المُحِبّون فيها، إنه انفتاح دائم على أبعاد الزمان والمكان (الزمكان) يقول في هذه الأبيات الجميلة:
أنتِ حُبّي مُنذُ السنين الخوالي
أنتِ منّي الدُّوارْ
بعدَ طويل انتظارْ
أنتِ حُبّي فلا كرورُ الليالي
يُشيعُ فيه الخُوارْ
ورجفةَ انكسارْ
لا ولا الغيبُ حافلاً بالوبال
في غزْوةٍ أو شجارْ
أو في جفاءِ النِّفارْ
لا ولا الصَدُّ أو رُجوعُ الوصال.
ليس ثمة شاعرٌ أحقُّ من هذا الاسم رينه شار الذي مات عام 1988، إنه شاعر التعجّب وشاعر الحماسة، لأنَّ السعادة في نظره ليست حنيناً إلى فردوس مفقود تشوقاً إلى فردوس موعود، إنها تمرّس بفردوسٍ موجود يلمسه ويحسه ويعيشه.