فكر

الخطاب الثقافي العربي والتحديات المعاصرة

بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين
     من الواضح أنَّ الخطابات العربية متمايزة ومتفارقة فيما بينها، لأنَّ كل منها يُشيرُ إلى موقفٍ ثقافيٍّ معيّن، وعلى مسار ثقافةٍ، وعلى نوعيةٍ ومستوى من المثقفين العرب، كلٌ منها له سماتهُ ومواصفاتَه الخاصّة في ماهيته وبنيته، أو في وظيفته، أو صاحبه، أو في واقعه الثقافي والمعرفي. لكن كلها تدلُّ معاً على مُجمل الحالة الراهنة للفكر العربي، وربما على كل ما يعيشه وطننا العربي من أوضاع مختلفة ومتنوع. وتحليل الخطاب الثقافي العربي لا يهدف إلى الذم أو القدح في أحد أنواعه، أو الانتقاص من إحداها، بل يهدف إلى مجرَّد التعيين والوصف حتى يُدرك الباحث العربي، والدارس الحصيف، أنَّ سلوكه ومنهجه الحياتي أصبح خطاباً ثقافياً، وأنَّ خطابه الثقافي هو سلوكه دون أدنى شك. هذا الخطاب يتكرَّر في كلّ المؤتمرات والندوات حتى أصبح نمطاً فكرياً، وخطاباً نموذجياً متداولاً، يسهل التعرُّف عليه في كلِّ مناسبة. تبدو المؤتمرات والندوات واللقاءات الثقافية وكأنها مجرَّد منبر للأقوال وإبداء الرأي، وكلّ مشارك في تلك المؤتمرات وتلك الندوات يشعر بالسعادة، بأنَّه أدّى واجبهُ على أكمل وجه، وألقى كلمته لإثبات الذات، أو للتاريخ، أو لعرض بضاعته بما لها وما عليها على الآخرين لمن يحب أن يتعرَّف عليها،
   في الحقيقة أنَّ هناكَ خطابين إثنين سائدين في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، الأوَّل خطاب تصادمي استبعادي وإقصائي، والثاني خطاب تخويني أو تكفيري. مازال أسير حديث الفرقة الناجية الذي وَرَدَ في تراثنا العربي : (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلّا واحدة)، فالحق في جانب واحد، والباطل والمرفوض في الخطابات الأخرى! وهذا الخطاب لا يعرف الحوار مع الآخر وتبادل الرأي، بل يريد أن ينتصر ويهزم الآخر شرَّ هزيمة، فيترصَّد أخطاءَهُ وكبواتِهِ، ويَتنمَّر لكي يقضي عليه وينهي وجودَهُ. كما نجد صراعاً بين خطابين إثنين، الأوَّل : خطاب يَسير في السياق الديني، والثاني خطابٌ يسير وفق السياق العلماني. فالخطاب الأوَّل يرى أنَّهُ لا يصلح هذه الأمة إلَّا ما صلُح به أوّلها، وأنَّ (الإسلام هو الحل). والخطاب العلماني يرى أنَّ الدين مظهر من مظاهر التخلف والرجعية، ولا بديلَ عن التنوير والعقل وفصل الدين عن الدولة والحياة بشكلٍ عام. وكل خطاب من تلك الخطابات يستبعد الآخر. في صراعه على السلطة وإدارة البلاد والثروة والخيرات. كل خطاب يعبَّر عن مصالحة الخاصة والذاتية، وبالتالي يتحوَّل صراع الخطابات بشكلٍ عام إلى صراع مصالح، ويُرد تنوع الخطابات إلى تنوع جماعات المصالح ومراكز القوة والنفوذ، فـ (المعرفة) مصلحة كما يقول علماء اجتماع المعرفة. فقد كتب عدد من علماء الاجتماع الناطقين باللغة الألمانية، ومن أبرزهم الفيلسوف والمؤرِّخ وعالم الاجتماع كارل ماركس (KarlHeinrich Marx‏) ، والفيلسوف والصناعي الألماني فريدرك أنجلز (FriedrichEngels English)، وعالم الاجتماع والمؤرِّخ والفقيه السياسي الألماني ماكسيميليان كارل إميل فيبر(Max Weber ‏) ويُعتبر من بينِ أهمِّ المُنَظٍّرِين لتطوّر المجتمع الغربي الحديث . والفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني جورج زيمل (Georg Simmel)، والفيلسوف والعالم الألماني ماكس شيلر (Max Scheler)، وكارل مانهايم (Karl Mannheim) من مؤسسي علم الاجتماع الكلاسيكي. جميع هؤلاء الفلاسفة كتبوا بشكلٍ موسّع عن الجوانب الاجتماعية للمعرفة.
    والنوع الثاني من الخطاب هو الخطاب المجاور أو الموازي، وهو خطاب لا يتيح أي مجال للحوار وتبادل الرأي، إذ يضيف خطاباً آخر على الخطاب الأول يوازيه أو بجواره، فلا يتقاطع معه ولا يتقابل. والعلاقة بين ذلك الخطابين غير مجدية. والسؤال الهام الذي يفرض نفسه هو: كيف يكون الخطاب الثقافي العربي مستقلاً ويعبِّر عن المصالح العامّة وليس عن المصلحة الشخصية أو المصالح الخاصة ؟ وكيف يمتلك المثقف العربي القدرة والشجاعة الكافية لحماية استقلاله، وتحسين صورته بشكلٍ كبير ليصبح أكثر فعالية في مجتمعه؟ أحياناً تزدهر الثقافة العربية وتكثر المنتديات واللقاءات الثقافية في لحظات الضعف والعجز، وتكون الثقافة وقتئذٍ تعويضاً عن نقص ما، وتحتاج إلى ملء فراغ. وأحيانا تكون الثقافة بكل حمولاتها غطاء يستر أكثر مما هي مرآة تكشف المستور، إذ تضع فوق الواقع أستاراً من المعلومات والآراء والمفاهيم، ولا تزيد العلم به شيئاً. إن تحليل الخطاب الثقافي العربي Arab cultural discourse مقدمة لتحليل الواقع العربي لتحريك ثباته وفاعليته.
       من هنا يمكننا القول أنّ الخطاب الثقافي cultural discourse، في ظل ما تشهده المجتمعات الحديثة والمعاصرة من تحديات وتحوّلات كبيرة ومفصلية، هو خطاب الأزمة: فمن جهة، هناك التهاوي والانهيارات السياسية والايديولوجية للنظم الشمولية التي أصابت العديد من النظم والأفكار والمشاريع. ومن جهة ثانية، هناك العديد من الطفرات المعرفية (الإبسيمولوجية) التي شهدتها الفلسفة وعلوم الإنسان بشكلٍ عام، والتي أسفرت عن انبثاق رؤى وقراءات جديدة للحداثة وشعاراتها حول الحرية والعقل والتقـدم. ومن جهة ثالثة، هناك العديد من الثورات التي أدخلتنا في الطور الحضاري الجديد مثل الثورة العلمية والتقنية المتطوّرة وثورة المعلوماتية الهائلة . ولعلَّ أحد أهم ملامح أزمة الخطاب الثقافي الحديث والمعاصر تكمن في محاولة التعرّف على عناصر ومكوّنات ثقافة العولمة (globalization culture) ووسائلها وأدواتها الوظيفية، وكذلك ما تنطوي عليه من العديد من القضايا الهامة مثل : الثقافة الوطنية، والخصوصية القومية، والهوية الحضارية والإنسانية. من كل ما سبق، يبدو أنه من الضروري العمل على إعادة صياغة وترتيب آرائه وأفكاره، بما يمكّنه في البداية من فهم وتشخيص هذه التحولات المفصلية العميقة ، ومن ثم الانخراط في تغيير وتحويل الواقع الثقافي في اتجاه التوافق والتكيّف الإيجابي مع معطيات تغييرات وتحولات العالم المعاصربشكلٍ متسارع.
    وبالنسبة للدولنا العربية، فإنَّ الثورات المعرفية (الإبسيمولوجية) والتكنولوجية والمعلوماتية المعاصرة تنطوي على أخطار وتحديات جسيمة وفرص تمسُّ الكيان العميق لأمتنا العربية، وتعرّضها لما يطلق عليه بــ (صدمة المستقبل). (future shock) وتزداد التحديات والأخطار تأثيرا بسبب ما يعانيه وطننا العربي نفسه من عوامل الهشاشة والضعف المتمثلة في: نقص الحريات وانتشار الجهل والأمية، وتخلّف مشاريع وبرامج التربية والتعليم عن الحاجات الأساسية للمجتمعات العربية ومتطلبات العصرالذي نعيش ، وعدم شمولية السياسات والمشاريع الثقافية، وضعف الصناعات الثقافية وتسويغها وتسويقها، وسيادة الإعلام السطحي الذي لا يرتكز على دعائم علمية ومنطقية
    ونتيجة ما مرَّرنا به من ظروف ومآسٍ قاسية في وطننا العربي فإننا قد خسرنا الكثير من لحظات الفعل والانتماء في التاريخ الثقافي ـ تالمعرفي (الأبسيمولوجي) العالمي. خاصة في العصر الحديث الذي شهدنا خلاله احتلالات وتغيير ثقافات ومعارف وبنى فكرية ودينية وعقائدية. فإننا في الوقت الراهن نقف عاجزين أما العديد من الثقافات المعولمة والثقافة العولمية. فعلى الرغم من المحاولات الجسورة لنخبة رائدة من المفكرين العرب البارزين في عصر النهضة العربية، بمرحلتيها الأولى والثانية، فإنّ وطننا العربي ما زال مكبلاً بأغلال العادات والتقاليد البالية، ويضع حواجز ومعيقات وقيودا متعددة على حرية التعبير وحرية التفكير. ومع انفجار عصر المعلومات الهائل وطغيان العصر الرقمي وانتشار الاقتصاد المعرفي عالمياً متجاوزاً القارات والقوميات والجنسيات، يبدو أنّ إشكاليات اليوم تتجاوز النهضة إلى ما بعدها، من هنا يفرض فعل الضرورة أن يكون هناك مصطلحات جديدة ومتجدِّدة وأن يتم إعادة صياغة المعيقات والإشكاليات العالقة ، فالمسألة الحقيقية هي ليس البحث عن مقومات النهوض من رمادنا ونحلّق عالياً كالعنقاء، أو كيف يمكننا أن نجدد نهضتنا العربية، أو حتى كيف يمكننا أن نتساوق مع الحداثة ونندرج معها. على الرغم من ضرورة وأهمية كل ذلك، بل التساوق الإيجابي والتكيّف المناسب مع عالم اليوم الذي بتنا نحار في معرفة كينونته وماهيته من فرط سرعة تحوّل العالم الذي نعيش إلى عالم جديد له معايير ومقاييس جديدة من فرط ظهوره العلني وحالة انكشافه الواضح وتدفق معلومات بلا حدود وما يملكه من أدوات لتحقيق مراميه وأهدافه.في حقيقة الأمر لم نجد الطريقة المناسبة لنا من أجل الخروج من نكساتنا وعجزنا كي نتمكن من مشاركة العالم في صناعة العالم بصورةٍ خلّاقة وغنية ، ونحن ندرك في الوقت نفسه أنَّ مجمل الأسباب التي أعاقت تطورنا وتقدمنا هو تلك الأيديولوجيات وحمولاتها الثقيلة ، والمسبقات الدوغمائية التي حالت بيينا وبين استثمار مخزوننا الإنساني والثقافي والمعرفي على التحوّل والخلق والإبداع، بقدر ما حملتنا على أن لا نُقِرُّ بإنجازات الغرب المتقدمة علينا، والتعلم منه بما نحتاجه والذي يتوافق مع نهضتنا. أو التي جعلتنا نتعامل مع تلك الإنجازات الهائلة بعقلية عقيمة تقليدية مزدانة بشعارات برّاقة لا تتحقق عقيمة وغير منتجة. وفي هذا الإطار، يبقى من واجبنا المفروض علينا الحذر الشديد والتحذير من إسقاط التشرذم السياسي العربي وحمولاته الثقيلة على البعد الثقافي.
    من يعرف ماهية الثقافة وكينونتها يدرك تمام الإدراك أنها المدخل إلى حل معظم ما يعانيه وطننا العربي من إشكاليات، على أن تُفهم بمعناها الأغنى والأوسع والأكثر فاعلية وقدرةً، أي بوصفها تجسد حيوية ونضارة العقل وزهو التفكير بقدر ما تمثل جذر المعنى ومصدر القوة لأمتنا العربية كلّها، وبقدر ما تجسد سيرورة الازدهار والتحول في وطننا العربي. ومن أجل تجسيد نضارة وحيوية التفكير بات من التضليل والتبسيط مقاربة إشكاليات الثقافة العربية من خلال رؤية واحدة وفكر أحادي المسار والتوجّه، فالعالم بشكلٍ عام هو في بناه وتركيبته ونظامه وصيرورته وسيرورته من التشابك والتعقيد والتحوّل، بحيث لا تفي بمعرفته وجهة نظر واحدة بفهمه نظرية واحدة لها أسسها ومفاهيمها ونهجها ولا ينجح في تغييره وتبديله نموذج أوحد له خواصه الخاصة به.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى