ويبغونها عوجا
خالد رمضان | كاتب مصري
قد يختلف المختلفون، وتتفرع الأراء،والأهواء، ويهيم كل خصم نحو هواه، وما تميل إليه نفسه، وما يرضاه قلبه،ولكن لا يختلف أحد على أن طريق الهدى هو طريق الصلاح والفلاح،وهو درب النجاة الموصل بأي مجتمع إلى الازدهار،والرخاء،وهوما يدفع عجلات الأمم نحو الرقي، ومسايرة ركب الحضارة، والمدنية المأمولة،بل وكفيل أن يزحزح كل العراقيل والعقبات الماثلة أمامها،حتى تصفو أجواؤها،وتزهر أغصانها، وتثمرحقولها بما غرسته أيديهم..عندئذ لا يشقى فقيرنا،ولا يعرى مسكيننا، ولا يهان ضعفاؤنا.
إن ذلك الطريق المستقيم هو ما نهجه لنا إله السماء، فكان وكما يقول الشيخ الشعراوي – رحمه الله – كالكتالوج للٱلة المصنوعة، ذلك الذي يرشدنا إلى كيفية استخدامها، باتباع تعليماته، والالتزام بإرشاداته، فيطول عمرها، ويقوى عزمها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
فإذا خالفنا ذلك النهج القويم، والطريق المستقيم خربت ٱلاتنا، وفسدت حياتنا، وعلى حد قول الشاعر:
فكيف يستقيم الظل والعود أعوج؟!
إن ذلك الاعوجاج هو ولا شك عكس الاستقامة والهداية، فإذا كانت الاستقامة هي طريق النور والنجاح، فإن الاعوجاج هو طريق الظلال والضياع.
ثم يأتي السؤال:
هل هناك من يهوى ذلك الطريق الخرب، الذي يحيد عن الحق، ويركن إلى ما لا ترضاه النفوس النقية، والعقول السوية؟
الإجابة- وللأسف – نعم
هناك ذوو تلك الفطر المنتكسة، والعقول المحترقة الذين لا يجدون أنفسهم إلا في غيابات الجب، جنبا إلى جنب مع الحشرات والديدان التي تهوى القاذورات، وتعيش عليها في سعادة وهناء.
هؤلاء من قال فيهم القرآن الكريم ” ويبغونها عوجا ”
هذه الجملة الإعجازية ذكرت في ثلاثة مواضع في كتاب الله تعالى، فقال :
– ” الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالٱخرة كافرون” الأعراف ٤٥
– ” الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ” هود ١٩
– ” الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ” إبراهيم ٣
إذا تأملت تلك الآيات الثلاث لوجدت أنها أجمعت على أن هؤلاء المحبين للاعوجاج هم من يصدون عن سبيل الله، ويلهثون خلف ملذات الحياة، فيحبون المال حبا جما، حبا يملك عليهم أسماعهم، وأبصارهم، وعقولهم وقلوبهم، فلا يحلون حلالا، ولا يحرمون حراما، متمثلين قول الشاعر:
إن الدراهم في المواقف كلها
تكسو الرجال مهابة وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة
وهي السلاح لمن أراد قتالا
ويتبعون شهواتهم الدنية من حب للنساء، ومنصب، وانتشاء.. هؤلاء المعوجون لا تصلح لهم بيئة النقاء، والهدى والاهتداء، فهم كمن يهوى الصيد في المياة العكرة، أو كهذي الحشرات التي لا تعرف سوى المزابل، والجيف العفنة حتى تسعد وتهنأ.
هم أيضا تجدهم يتقلبون في الرمام وهم منتشون، راشون أو مرتشون، مختلسون أو سارقون، زانون أو قوادون، ضالون ومضلون.
إذا خاطبتهم أو جادلتهم تبرأوا مما هم فيه غارقون، ومن العجيب أنهم يدعون أنهم هم المثقفون المتنورون، وهم صفوة ذلك المجتمع الجاهل الذي يقف كالصنم أمام معتقدات عفا عليها الزمن، وتبرأ منها المحدثون، فلا تواكب عصرنا، ولا تساير علمنا.
وكأني بقول الحكمة العربية: “رمتني بدائها وانسلتِ”
هؤلاء المتشدقون تلك البيئة الصالحة الطاهرة التي تنقي الروح والجسد هي في ذاتها بيئة فاسدة تالفة لأمثال هؤلاء؛ لأنهم غرباء عنها، لا يجدون أشباههم فيها، ولا يشعرون بأنفسهم الخبيثة وسط النفوس العفيفة.
فكيف يسرق اللص وسط مجتمع أمين؟ وكيف تنتشي العاهرة في مجتمع شريف؟ وكيف ترعش الراقصة في مجتمع عفيف؟
وكيف يرتشي قاضٍ في مجتمع كريم؟
يعلم هؤلاء المعوجون ذلك تمام العلم، فما أقبحنا إذ نمثل عبئا ثقيلا على هؤلاء المساكين!
فالخير كل الخير أن نزول من أمام أعينهم، وأن تمحى أسماؤنا وصفاتنا من سجلاتهم الطاهرة النقية، فنكون كمن قال فيهم كتاب الله تعالى:” أخرجوا ٱل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون”
وكأني بعصر صدر الإسلام أرى صناديد المشركين يجتمعون بدار الندوة؛ لبحث أمر ذلك العدو الذي هبط علينا من السماء، فحرم علينا الزنا والخمور، والسفاح والفجور، فلن تهدأ لنا نفس، ولن يرقأ لنا دمع حتى نضربه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل.وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن مع الحداثة المحدثة، وبصورة مختلفة.
ما يريده هؤلاء المعوجون هو قلب الحقائق، وتزييف الواقع، وهم – مع ذلك- يعتقدون أنهم ناجحون، كمثل هذا الطفل الصغير الذي يخفي رأسه من أمه ويعتقد أنها لا تراه.
هم واهمون، لا ألباب لهم فيفهمون، ولا قلوب لهم فيبصرون، فهم لا يمثلون إلا أنفسهم بتلك الأفكار الهدامة، والملابس الفاضحة، والأجساد العارية، والزجاجات المحرمة” قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر”
فلا لغة فصيحة، ولا أدلة صحيحة، ولا فكرة حصيفة.
أما الصالحون فلن يركنوا إليهم، ولن يتأثروا بأحد منهم، متمثلين قول الشاعر:
إذا نزل الذباب على طعام
رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء
إذا كن الكلاب ولغن فيه
وفي الأخير أود أن أقول لنفسي أولا ورب الكعبة، ثم لنا جميعا قول الإمام الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم
لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي
ولو كنا سواء في البضاعة
حفظ الله ديننا، وبلادنا، وولاة أمورنا من الفساد والإفساد والغواية.