بقلم: خالد رمضان
أثناء عودتي منذ بضعة أيام من إحدى القرى المجاورة لبلدتي، وأنا داخل سيارة الأجرة وإذا بسائقها يتحدث بكلمات صافية نزلت على قلبي كحبات البَرد فكانت بردا وسلاما علينا جميعا، هذا السائق حين تفرست وجهه وجدته سمحا هادئا تبدو عليه علامات الرضا والسكينة والهدوء والطمأنينة لا متألما ولا متبرما وقلما أن تصادف مثله .
بدأ حديثه بسرد حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عقب على الحديث بتفسير متواضع على قدر علمه، ثم أكد على ضرورة الالتزام بذكر الله تعالى ودعاء الخروج من المنزل، ثم دعاء الركوب، ثم حثنا جميعا على ذكر الله تعالى، وكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وكان حريصا على أن يكون لنا وردٌ دائم لا نفتر عنه مهما شغلتنا الأيام والليالي، وأن هذا الذكر المستمر يرسخ يقينك، ويقوي إيمانك .
في نهاية كلمته النقية الارتجالية أثنى علينا جميعا، وشكرنا على حسن الاستماع والإنصات، فشكرته على ما قدم من موعظة حسنة وتذكرة لا تُنسى .
هنا انتابني شعور بالإعجاب وبدأت أتساءل، لمَ لا يكون كلٌّ منا داعيةً إلى الله تعالى في مكانه؟ فالدعوة إلى الله تعالى ليست قاصرة على العلماء والمتعلمين والإئمة أو المثقفين فلربما خرجت كلمة من فيك فأصابت قلبا عاصيا فهدته، أو امرأ ضالا فأرشدته .
تكلم وسدد ما استطعت فإنما
كلامك حي والسكوت جمادُ
فلتكن شجاعا مقداما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر تذكر نفسك والغافلين، تمهد الطريق للحيارى والسائرين في ظلمات المعاصي والهجران.
لقد غمرتنا الأيام بشدائدها، وطحنتنا الدنيا بكلاكلها ، ومزقتنا بتطاولها، فانشغلنا بأقواتنا وأبنائنا وأعمالنا، ونسينا أو تناسينا ما خلقنا الله تعالى لأجله “وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون”، وقال تعالى “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا”.
هذا الشاب الصغير الذي رٱه عبدالله بن جعفر بن أبي طالب يحرث في بستان، وحين حان وقت غدائه وجلس الفتى ليأكل مَثُل أمامه كلب يلهث من شدة الجوع ، فألقى إليه الفتى رغيف خبز فالتهمه الكلب، ثم ألقى إليه الرغيف الثاني فالتهمه ، ثم ألقى إليه الثالث، ثم ربط قطعة القماش وجلس، فهرول إليه عبدالله بن جعفر وسأله : ماذا فعلت ؟
فقال الولد : ما رأيت
فقال له : لم ألقيت إليه قوتك كله؟
فقال الولد :
بلدتنا هذه لا تأتيها الكلاب، فحينما وقف أمامي أحسست أنه يستعطفني فاستحييت أن أرده جائعا .
قال له عبدالله: وماذا تأكل ؟
قال : أطوي يومي جائعا.
قال عبدالله:
ويقولون عني: إني كريم وهذا الولد أكرم مني لأنه جاد بكل ما يملك، فيروى أنه اشترى الغلام وأعتقه، واشترى البستان ووهبه إياه .
تأمل كيف علّم هذا العبد الفقير سيدا عظيما كريما كعبد الله بن جعفر بن أبي طالب بهذه الكلمات الرقيقة، والمشاعر الصادقة درسا في الكرم والجود؟
وكيف لطفلة في سن الروضة تعاقبها المعلمة على ارتدائها الحجاب، والبنت تأبى، وتعنفها المعلمة ، والطفلة ترفض حتى انطلقت من فيها كلمة كانت بمثابة الزلزال للمعلمة إذ قالت لها :
أنا لا أعلم أأرضيكِ أنت أم هو ؟
فقالت لها المعلمة : ومن هو ؟
قالت الطفلة : الله رب العالمين
فارتجفت المعلمة من قسوة الكلمة، وما كان منها إلا أن ندمت على فعلها، وأعرضت عن سفورها وارتدت الحجاب خوفا من خالقها جل وعلا.
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ما أجمل أن يصطفيك الله تعالى لتكون داعية له وأنت في حقلك، أو مدرستك، أو مصنعك، أو مجلسك، أو سيارتك ، أو منزلك، أو شارعك ، أو ملعبك!
ربما بكلماتك هذه تنير القلوب المظلمة، أو ترجع النفوس الشاردة فتحوذ الأجر العظيم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم “.
وهبنا الله وإياكم سداد القول، وصلاح العمل .