أحاديث المخيَّم. غربة وطن

محمد حسين | كاتب فلسطيني – سوريا

هي الآه التي تبتر وريد الروح الغافية على طبق الليل المجنون، تتلذذ في انهيار صفيحاتها فوق مقصلة المسافات، تمضون في بلاد لا تشبه وجوه أمهاتكم، تقذفكم نحو شبابيك القصائد والمدى، تسافرون من أتون الحصار إلى الحصار ، من عبث المحيط إلى أحضان المنافي ، ذاكرة ما زال ينطبع عليها خبز التنور وقبضة المفتاح ، وهناك ترسمون وجه الصباح مع الزعتر عند انعطاف المساء فوق سطح البحر.

هي اللوحة الأولى وأنتم تهمسون صورتها عند اشتداد الضباب ،وتتدثرون بثوبها المطرز بالوجع  عندما يقترب أيار يعصر ذاكرتكم بشكل جنوني، مثلما يعصر فلاحو بلادنا زيتون جنين وبرتقال حيفا ويافا وعنب الخليل، أيار شريط سينمائي أسود مزنر بلحظات قهر مذهلة ، ما بين غربة الزمان و المكان وجوه ترسم تفاصيل الحدث، لا شيء يشبههم هناك سوى قصة شوق تعثرت بالحنين لتغزل من وجعها أكسجين الحياة ، هي الأنفاس الممتدة من رئة الزيتون لقلوب تجدل من وجعها الأغنيات … على وهج المسافات يرسمون خطاهم …. يغادرون وطن اللجوء …. ويستقرون في مدن الضباب ( غازي حسين أبو إيهاب ).
كانت عيناه تحدقان في الأفق البعيد ، و بيروت في حصارها تتذكره جيداً ، وتعرفه جبال العيشية في معارك الثمانية أيام ، أيها المسكون بتفاصيل المخيم وصور الشهداء وعبور النهر ذات مساء ، لم يكن بحسبانك أنك ستعيش غربتين و شاهدة القبر ستكتب بلغة أخرى غريبة هي مثلك … هناك بين غربة الروح والجسد مسافة وطن وأصدقاء… فرقتهم الدروب و جمعتهم الغربة و كان القدر في الانتظار مع فارق يوم واحد ، لم يعلم رفيق دربك في النضال (غازي بلال أبو يزن) أنه سيوارى الثرى في مدن الضباب يبحث عن صديق في مقبرة بلا عناوين ، تخلو من رائحة الزعتر وخبز التنور وكعك العيد، كان مثلك مسكونا حتى النخاع بأزقة المخيم، هكذا كان يحدثني وهو على فراش المرض؛ وهذا صديقهم (ياسين الشيخ رشيد ،أبو صياح) صاحب القلب المبتسم الحالم بضفاف دجلة وقهوة أبو النواس، العائد من جنوب الرصاص وأزقة مخيم شاتيلا وجبال الباروك إلى مخيم درعا، والمنصهر به حتى الثمالة ، عاش حالما وقلبه معلق بوطنه الثاني العراق ، و لم يخطر بباله يوما أن جثمانة سيوارى الثرى من جامع القدس بالمخيم بعد الصلاة عليه، وسيدفن في مقبرة العباسية، لم تستفق مدرسة الصفصاف من صدمتها بعد عندما تناهى لمسامعها رحيل المعلم (حمد ذياب – أبو ميزر) في مدن الصقيع. شريط مركب من الذكريات المؤلمة، لكنهم كانوا مسكونين بالأمل ، فطوبى لشهداء الغربة الثانية …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى