شكراً كورونا: تحريض الحواس.. العلاج بالخوف وسطح بيتنا

غسان علي عثمان |كاتب وإعلامي سوداني

إنه عيد ميلاد الشوارع والتي اعتادت أن تحتفل به مرات كثيرة في غيابها، لا شيء يشبه يوم الأمس إلا ذكريات قديمة احتلت صفحات الكتب وروايات النسّاخة وصُناع الأساطير، يبدو كل شيء هادئ اليوم، إذ ينشأ حواراً بين المكان السماء، وأصوات البرك المحتشدة بعيون ذهولة لضفادع لم تعزف لحنها اليومي تضامناً مع عيد ميلاد الشوارع. ومن أعلى سطح البناية ومن الجهة الشمالية أغلق سعيد دكانه الفقير من البضائع فلعها بسعادة باطنة، إذ لأول مرة يمكنه أن يُنازل سطوة عم جلال وأولاده وهم يرتقون في أداء روماني شديد التكلف عتبات دكانهم الكبير (السوبر ماركت) ويتصايحون دون أسباب مقنعة، “يا ولد تعال نضف هنا جمب تلاجة الكولا، وشيل باقي السكر المدفق ده… أها احسب لي إيراد اليوم…إلخ” هذا المونولوج يقصد به إرسال رسالة إلى سعيد بأنه ينبغي عليك أن تغلق دكانك فلا طاقة لك بالمنافسة، أما سعيد فقد حقق انتصاراً بدا له فاجراً ضد الجميع وبالأخص جلال وأولاده، فاليوم، واليوم بالذات كلنا نغلق ونتعاظم في وجه زبائننا، واليوم لا فرق بين أرفف لا تجد فيها سوى القليل القليل من بضاعة كل وظيفتها أن تثبت أن لسعيد دكاناً، والآن تساوت كتوف الجميع ولم يعد يجدي الاستعراض بقوة ما يملكه البعض من امتياز.

أما الجهة الغربية؛ انظر إسحاق وهو عالي الصوت يشير إلى استاذ عثمان المتحصن بمصطلحات أجنبية يلقيها على الجميع دون طلب منهم، “زرزرهُ” اسحاق بالمنع: والله أوستاذ Sorry ما ف طريقة أكوي ليك القميص اسي، الدنيا جنت، والحكومة قالت Close”، اسحاق له انتصاره ففي كل يوم يضطر للامتثال لزبائنه حاملاً ملابسهم على راحتي يديه ككفن لعزة زالت حين قرر ترك جذورها تحترق، ومن مثله اليوم يرفض، تخيل استطاع أخيراً أن يرفض، يالكلاسيكيات دريدا وفوكو والتي تدعي كذباً بأن الذات موضوع مرئي عن طريق اختفائه، فاليوم اسحاق بكامل زهوه ينتصر على طلبات زبائنه من الأفندية المزيفة.

في عيد ميلاد الشوارع اهتزت الهوية وانصرف وعي الناس إلى الخوف، طيب، والحال كذلك صدى صوت يلكزني بالتحديق أسفل البناية، أه.. أنه جارنا الصموت المقتر في سلاماته، رغم أنك إذا مررت بشقته يدفرك صوته وتعجبك ضحكاته المقننة، لم أجد بداً من إلقاء التحية عليه، سألته: يا فلان الليلة بدري يعني، شعر الرجل بخبث في السؤال، فلم يعرني كلماته، بل اكتفى بهز رأسه تعبيراً عن ضيقه بالخوف الذي منعه.

ومن فوق البناية التي اخترناها لمعارضة السلطة، شاهدت شيئاً عجيباً، تخيل القارئ العزيز بأن (الكوشة) التي كنا ولفترات طويلة جداً نعتقد بأنها من الجمادات ولا صوت لها، إذ بها تتحرك، نعم تتحرك، فهذه بقايا (مُلاح) معطونة في كيس مقدود تخلصت منه أسرة بعد أن أشبعت قططها لا الجياع، قلت لك تخيل أن هذا الكيس يتحرك بكل إرادته منتقلاً من وسط الأوساخ إلى الجهة الغربية منه في اتجاه راكوبة (منزل من القش) عند الطرف الأقصى للميدان، وهذه الراكوبة تسكنها أُسرة مكونة من ثلاثة أطفال وأمهم، وكل الذي فتح على سكان الحي بأنهم نزحوا من منطقة يقتل فيها الناس على العِرق دون أن يكونوا على هوية واحدة، المهم أن كيس المُلاح الذي دفعته إنسانيته لا إنسانية أصحابه أن يُطعم جياع هذه الأسرة قام بهذا العمل البطولي تلقاء نفسه و(كيتاً) في البطون المُتخمة، يا لعيد ميلاد الشوارع الذي أنطق كل شيء، وفضح أغبى الكائنات.

والفرحة كانت عارمة أيضاً عند الأطفال والنساء بالضرورة، إذ استطاعوا أخيراً أن يحلوا اللغز وراء اختفاء الأب الدائم بحجج العمل والزيارات والمواساة في (البِكيات) واللغز لم يكن لغزاً ولا يحزنون، كل ما في الأمر أن الرجل (الأب) يظل يعمل طوال اليوم – عملاً يخصه- ولكن اسمه التجاري (شغالين بنلقط ليكم في الرزق)، طيب، هاهو اليوم (ميكائيلكم) يجلس لا عليه ولا به- صاغراً بين أسرته، يا لعيد ميلاد الشوارع وكرمه، فلم تقبل الشوارع أن تحتفل بنفسها دون آخرين، ولذا أرسلت إلى البيوت تحياتها المُبخَرة، وصدق ماكس بيكار حين كشف الصلة بأن البيوت مربوطة بالأسفلت حتى لا تغوص في الأرض”.

إنه يوم جميل للأسرة، ودون تعامي يومٌ جميل للأم، وعليها أن تستعد، وأولى مهامها هي الاستعانة بغاستون باشلار ليدربها على صنع المكان بالحب، وإن فلحت تكافأُ بالصورة التي تراها مجزية – ونحن مالنا- وأول درس يعلمنا باشلار هو أن الهواء في البيت رسول للحب، وما البيوت إلا أنابيب تشفط البشر في داخلها.

ومن فضيلة الخوف أن سمح لنا بإعادة اكتشاف المكان، مكاننا الذي صنعناه دون أن نفهم ماهيته وصورتنا بين جنباته، وبهذا الخوف بات للجميع القدرة على صناعة عواطف المكان، وجعل فضاء صغير (كولوزيوماً) كونياً يشع بالابتكار ويُقمَعُ بالضجيج، ويصنع على هداه سماءً تخصه، وأصواتاً للبحر يتسلق سلم الجدران، ففي كل حركة محروسة بالخوف بات بالإمكان سماع صوت موجات البحر الصاخبة من على البعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى