يوميات رجل من صعيد مصر.. يكتبها د. عماد الدين علي ماهر (2)

الشيخ صابر 

كنت كثيرا ما أزور“الفساقي”، وهو الاسم الأكثر شيوعًا للمقابر في صعيد مصر، مع والدي، لقراءة الفاتحة لجدتي يامنة جدة والدي وجدي إسماعيل رحمهم الله. كان والدي شديد الارتباط بجده وجدته، كثير الزيارة لهم، وفي كل مرة كانت زيارتنا مرتبطة برؤية اثنين لا ثالث لهما، عم عبد الشكور الذي كان يرعي صبَّار القبور، وكان وقورًا مؤدبًا عفيفا كعفة نبات الصبار، والثاني هو ضريح عادي يتوسط المقابر لا يميزه شيء إلا شموع ورايات وروايات أهل القرية حوله، إنه الشيخ صابر.

وكأن اسم الولي الأوحد لقريتي يستمد اسمه من صفة أهلها الأولى وهي الصبر. تعددت الروايات حول صاحب المقبرة ولكن العجب العجاب؛ أن للشيخ ضريح آخر في مسجد يحمل اسمه، جُدِّدَ منذ زمن قصير. ضريح الشيخ صابر في المدافن وضريحه في المسجد يجمعهما قاسم مشترك، وهو شجر الجميز الذي يظلل الأول ويقف شامخا على مدخل المسجد في الثاني، وهو أحد أشهر أشجار وادي النيل في مصر، فحال مسجد الشيخ صابر، وهو بالمناسبة مسجد عائلة قديمة من عائلات تونس وهي الخطبة، كحال كل المساجد في ثمانينات القرن الماضي، مسجد و مَيْضَة وفناء صغير بين (الميضة) وباب المسجد يصلي بها من تأخر عليه الوقت، ولكن أهميتها تزداد في صلاة الجمعة حيث الزحمة المعهودة. كان نسوة القرية قد وضعن نذورهن أن تضئ الواحدة منهن الشموع فوق قبر الشيخ إذا أكرمهن الله بالخلفة وإنجاب الأطفال، أو إذا أنجبت ولدا. وبعيد عن جدلية الكفر والإيمان والتي يطرحها السلفيون، فإن موروث الأمهات و إيقاد الشموع للأولياء طقس مصري بامتياز من سيدي المرسي أبو العباس على ضفاف المتوسط حتى حميسراء أبو الحسن الشاذلي بالقرب من ضفاف البحر الأحمر الجنوبية.

في عصر يوم خميس شهدت القرية حدثا غريبا لم أراه من قبل، حيث يجوب القرية جملا عليه هودج أخضر من قماش الستان اللامع مع منشدين يذكرون الله، ومنهم من يحمل طبلا كبيرا يتناغم مع عبارات الذكر، ورجلين أحدهما يقود جمل المحمل، والآخر يذهب حسب نداءات أهالي المنازل، وأغلبهن نسوة تسر إليه نقودا بمبالغ متفاوتة كل حسب قدرته. علمت بعد ذلك أن المحمل هذا رمزية للشيخ صابر وأن النقود هي نزور أو هبات وعطايا للشيخ طلبا في مددة وعونه. كان المشهد مهيبا صاخبا قويا مسليا جميلا، اختفي مع بداية ارتفاع وتيرة السلفيين وسيطرتهم على الفكر الديني في القرية فترة نهاية التسعينات بداية الألفية، فلم ينقذنا منهم إلا ما حدث في يناير وانكشافهم امام العامة والبسطاء قبل المثقفين والصفوة.

إن مقام الشيخ المزدوج لهو لغز من الالغاز التي لا أعلم حلها للآن، ولكن أهل منطقة قبلي البلد كانوا شديدي الالتزام بمولد الشيخ صابر والذي كان أحيانا يصادف مولد خير البرية – صلى الله عليه وسلم -، وهذا لغز آخر لا أعلم حل له.

كان خميس الليلة الختامية للمولد شيء من السحر، ولكن والدي كان لا يتركني حتى للفرجة عما يحدث، ولكن في ليلة خميس وقبل سيطرة السلف على عقول المصريين كان هناك صوت يشدوا بجمال منقطع النظير، وكان لابد أن أذهب وليكن ما يكون.

المولد صغير جدا مقارنة بالموالد الكبريولكنه يحمل نفس ملامح بهجتها وصخبها، ولا يشدوا فيه ياسين التهامي أو التوني ولكن كان صوت الشيخ طلعت غريزي بن قريتي أجمل بكثير من الاثنين، كانت الأقدار التي لم تضع الشيخ طلعت غريزي في طريق الشهرة، هي التي وضعت غيرة ممن هم أقل موهبه منه في طريق الإنشاد الديني الاحترافي.

كان الخميس هو يوم الشيخ طلعت ومملكته بامتياز، فكل ميكروفون وإنشاد بعد صلاة العشاء هو الشيخ طلعت وجوقته يحيون مناسبة قد تكون طهورا أو زواجا يبدأ بالعشاء لكل المعازيم، لحما ونوعي طبيخ أحمر وأخضر وعيش شمسي طري معد في نفس يوم المناسبة. إن الحديث عن الشيخ طلعت يجب أن يسبقه حديث عن والدة عم غريزي. كان منزل الرجل وبيته في الثمانينات علامة تنسب إليها عناوين الناس فيقال فلان يسكن بعد بيت غريزي أو أن الطريق للقرامطة القرية المجاورة من جنب بيت غريزي ( و بالمناسبة هم أحفاد للقرامطة وليس تشابها اسميا). تغيرت ملامح القرية الآن، ولكن بيت غريزي ما زال علامة للمنطقة التي تحوي بيوت و دوار وجامع التلاتات الذين تناوبوا منصب العمدة أجيالا عديدة. كان العم غريزي وحمارة مشهدا مألوفا يعبر يوميا أمام شارعنا يبيع الليمون غالبا والذي جلبه من جنينه أبو العز، كان عم غريزي قصير القامه ممتلئ البدن ولكنه كان ممتلئ أيضا بمشاعر المودة والحب يرد علي كل الجالسين علي قارعه الطريق والذين يمازحونه بنكاتهم الجميلة أحيانا والسمجة غالبا، أنجب هذا الرجل شيخنا المنشد الرائع الذي غيبه الموت سريعا فلم يحظ من الشهرة شيئا يذكر اللهم لقاء مقتضبا مع تليفزيون الصعيد وعرض لقصيدة مغناة له، كان طلعت غريزي والشيخ بكر الموظف في الجمعية الزراعية المنشد الآخر الجميل للقرية أحد أهم العلامات المضيئة في ثمانينيات القرن الماضي وخصوصا ليالي الخميس المفعمة بالمحبة والرحمة. …. إلى اللقاء مع خميس قادم

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى