اكتشاف الحب: أوراق من مدونتي الشخصية (4)
مروان ياسين الدليمي | العراق
استيقظتُ في تمام الساعة السابعة صباحا، وفي الحقيقة لم يغمظ لي جفن حتى بانت أولى خيوط الفجر من خلف زجاج النافذة في غرفة النوم، وعلى الأكثر لم انم سوى سويعات من الزمن قبل ان يطوي الغسق بساطه ويرحل بهدوء مثل بقية الأيام بعد أن سقطتُّ صريع الإعياء من دوامة التفكير بالعملية الجراحية التي ستجرى يوم غد.
أذكرُ جيدا كم بذلت من جهد ذهنيٍّ ونفسيٍّ وأنا أحاول استمالة النوم إلى جانبي علَّه ياخذني معه في رحلة بعيدة استسلم فيها الى حالة من الخَدَر والانفصال عما انا فيه من اكتواء داخلي لكن محاولاتي فشلت،وبقي الارق والقلق يستهزئان بي ويسامراني رغما عني ويطردان النعاس عن جفني،حتى اني استعنت بكل الالعاب التي سبق ان تعلمناها في طفولتنا إذا ما ارغمَنَا اهلنا على ان نأوي الى اسِرَّتنا حتى ننام،مثل ان نعدَّ قطيعا من الخراف،ولن انسى في تلك الليلة انني اخطأت في العدِّ اكثر من مرَّةٍ،فكررت المحاولة من جديد ولكن دون جدوى،حتى ان الخراف خلدت للنوم بينما بقيت انا صاحيا،وماانفكت الافكار تداهمني مثل اشباح وهي تعبث بي في ظلمة الليل،كانت تدور في رأسي عابثة بي،وعجزتُ عن طردها بعيدا عني حتى شعرت برأسي يكاد ان ينفجر وانا اتارجح مابين حقول تبعث على التفاؤل وبِركٍ رمادية من هواجس اخذت دائراتها تضيّق شيئا فشيئا من حولي.احسست وكأني قد انشطرت الى نسخٍ طبق الاصل عنّي،كل نسخة تتحرك باتجاهات مختلفة وتتقاطع في ما بينها فتصطدم مع الاخرى،فإذا بي اقع فريسة دوامة من المشاعر المتضارية تحت ضغط تخيلات موجعة كانت قد فتحت في روحي ممرَّاً نحو المجهول ولهذا غادرت السرير مرتين في محاولة للتحايل عليها،في المرة الاولى جلستُ في غرفة الاستقبال وفتحت جهاز الموبايل وبدأت اتصفح المواقع الالكترونية ثم مررت على صفحتي في موقع الفيس بوك وتويتر ولكني لم اعِ ما افعل،لاني كنت شارد الذهن تماما عن الصور والتعليقات التي امررها امامي بطرف سبابتي بشكل آلي على شاشة الموبيل فكانت تنزلق تباعا دون ان اتوقف امامها او اميزها او افهم مافيها.لم يستغرق ذلك سوى دقائق معدودة حتى اغلقت الجهاز وعدت الى السرير،وفي المرة الثانية خرجت الى المرآب ثم فتحت الباب الخارجي ووقفت عند عتبة الدار،كانت البيوت وهي تتراصف بشكل منتظم على جانبي الزقاق تغرق في سكون ناعم ترسمه أضاءة شفيفة تهمي عليها من اعمدة النور المنتصبة بين مسافات محسوبة على طول امتداد الحي السكني،ولغة الصمت تحتوي الفضاء بحنان،مثل موسيقار يحتضن آلة العود بينما يعزف لحنا صوفيا،ولم يخدش هذا الانسجام الروحي بين تلك العناصر سوى اصوات كلاب كانت تنبح في مكان بعيد،بالكاد يصل نباحها الى مسامعي،تطلعتُ الى النجوم في السماء وحاولت ان اميَّز واحدة عن الاخرى،وتساءلت بيني وبين نفسي كيف كان لجدادنا ان يعرفوا اسماء بعضها وسط هذه الاعداد الهائلة وهي ترصِّعُ قبة السماء؟ ومع اني استغرقت طويلا في تأمل النجوم، لكن لم استطع الافلات من حالة الجزع التي كانت قد تلبستني بسبب عدم قدرتي على النوم،فعدت مرة اخرى الى السرير وقبل ان اغلق باب الغرفة خلفي،استيقَظَتْ زوجتي وسألتني في ما إذا كنتُ اشكو من ألمٍ أو شيءٍ ما،فأجبتها بان ليس هناك مايدعو للقلق،فقط كنت بحاجة للذهاب الى الحَمَّام.ولانها اذكى من ان يقنعها مثل هذا التبرير ردَّت عليّ بما يعني انها تعلم ماهي مشكلتي “تعوّذ من الشيطان واستغفر ربك اكثر مرة،واترك الباقي على الله،فهو ارحم الراحمين”.
غالبا ما فشلت في تمريراكاذيب بيضاء عليها،بعد ان اصبحتُ مثل كتاب مفتوح امامها،فلم تكن تجد اي صعوبة في قراءة ما بين سطوره من كلمات وجُمَلٍ لاتظهر لمن يتمعن فيها،وكم من مرِّة حاولت ان اخفيها عنها على سبيل المزاح،واظن ان هذه الخاصية تنفرد بها النساء عامة عن الرجال،لذلك هي لم تكن بحاجة الى ان تسمع اجابتي لتعرف بماذا كنت افكر وماذا يشغلني،فالعشرة الطويلة التي بيننا كانت بمثابة مختبر خضعنا فيه لضغوطات وظروف مختلفة،فأنكشفنا لبعضنا البعض،وما عاد هناك من شيء نتستر عليه في ما بيننا،بما في ذلك مشاعرنا وانفعالاتنا الداخلية،وما عاد ممكنا ان نخفيها او نتحايل عليها،حتى اصبح كل واحد منا مرآة للآخر يرى فيه عيوبه واخطاءه ومايحمل في داخله من هواجس واحاسيس مدفونة في اعماقه،ولدي قناعة بما كنت قد سمعته اوقراته لربما في كتاب او مقال من ان العلاقة الزوجية اذا كانت مبنية على المحبة تجعل ملامح الوجه بين الزوجين فيها تشابه كبير حسب ما يترأى للناس وكأنهما توأم.
كانت الساعة تشير الى الثامنة صباحا لمَّا حان وقت مغادرة البيت والتوجه الى مستشفى “ويلفر” في منطق بختياري،وكان القيظ يتسلل الى مدينة اربيل ليطبق عليها مع الارتفاع الملحوظ في درجة الحرارة. وبينما كانت زوجتي تهمُّ برفع حقيبة صغيرة عن الارض وضعت بداخلها منشفة وشرشفا خفيفا ومُعطِّرا للجسم ومستلزمات شخصية اخرى قد نحتاجها خلال اقامتنا القصيرة في المستشفى والتي لن تتجاوز ثلاثة ايام بعد اجراء العملية،تقدَم منها ولدي وقبَّل راسها ويديها وتمنى لها ان تنهض سالمة وتعود بكامل صحتها،وبدورها هي ايضا قبلته من وجنتيه واحتظنته بقوة ولم تستطع ان تحبس دمعة انزلقت على خدها وهي تدعو له بالنجاح وان يطول بها العمر حتى تفرح بزواجه وتحمل ابنه بين ذراعيها،ولاجل ان احتوي الموقف من الانفلات والسقوط في مشاعر عاطفية ملتهبة قد ننجرف اليها ثلاثتنا في تلك اللحظة ونحن في غنى عنها،سحبت ولدي جانبا وطلبت منه ان يبقي هاتفه مفتوحا لربما اتصل به في اية لحظة اذا ما احتجت الى شيء ما من البيت،ولاطمئنه على صحة والدته بعد خروجها من صالة العمليات،ولم انس ان اذكِّرهُ بضرورة ان يستثمر الوقت بمراجعة دروسه وان لاينشغل باي شيء،وان يدعو لوالدته بالسلامة.
لا أعرف إذا ماكنتُ قد ارتكبتُ خطأ كبيرا بحق ولدي عندما منحته حرية مطلقة ولم ارغمه ابدا على مرافقتنا انا ووالدته كلما كنا نتوجه لزيارة اهلنا في مدينة الموصل بين فترات متباعدة بعد ان استقرينا في مدينة اربيل عام 2007 ، ولم يكن خروجنا منها الا بعد ان مالت الحياة بكل زاوية فيها الى فقدان الامن والامان وبات الانسان فيها يسيرعلى حافة السكين،ففي كل ثانية كانت اوضاعها تقترب سريعا من حافة الجحيم لتبتلع كل شيء جميل كان ينادينا في صباحاتها واماسيها،ولتحل بدلا عنه صور الخوف والتوحش،فتحولت المدينة الى نقطة جذب تستثمرها المحطات ووكالات الانباء يوميا لصناعة اخبار ساخنة عن حوادث اختطاف المدنيين وتفجير السيارات واغتيال العاملين في الصحافة والاعلام من قبل تنظيم القاعدة وجماعات اخرى لا احد يعرف هويتها.
ثلاثة عشر عاما من الغياب القسري زمن طويل،لم يخطر في ذهني ابدا ان ابتعادي عن المدينة سيمتد بي كل هذه الفترة،وان مشاعر الشوق والحنين اليها ستكبر فيَّ وتنال مني في موضع لم اكن قد وضعته في حساباتي،فقد وصلت العلاقة بين ابني وبين الموصل الى مرحلة الاغتراب الكامل،ولم يعد يجمعه معها سوى خيط واهن،ربما اشبه بقطرة ماء ما ان تلوحها اشعة الشمس حتى تختفي ولاتترك خلفها اي اثر يشير اليها،فهو لايعرف عنها اي شيء،ولايرتبط مع شوراعها وازقتها ومعالمها البارزة باي عاطفة،لانه لم يزرها ويتعايش معها ولااشك ابدا في انها لا تخطر على باله مطلقا لولا انه دائما ما يجدها ترد على لساني بشكل عفوي من غير قصد مني،فأنا من غير الممكن ان اتحدث عن نفسي وتجاربي في الحياة دون ان اذكرها،لان طفولتي وشبابي والشطر الاكبر من حياتي قد انسابت اليها ملامح هذه المدينة في كل تفصيلة،فلا استطيع ان اتخلى عنها بارادتي او بغيرها،ومن غير المكن ان يتخلى الانسان عن دمه وجلده وذاكرته،وكم اشعر بالحزن عندما اجده لايذكر منها سوى صور باهتة تعود الى السنة الاولى والثانية من دراسته في المرحلة الابتدائية انمحت الكثير من تفاصيلها مع تقادم السنين.
كلما خلوت الى نفسي دائما ما اتمنى ان تعطب شرايين ذاكرتي وتتوقف تماما عن ضخ الحكايات من ينابيع ماضيِّ الذي تركته خلفي،فلامهرب لي منها ومن شبحها الذي يطارني مثل ظلي،وما ان ترصدني احيد عن يقظتي وعما اراه واتفاعل معه في حياتي اليومية من موجودات وحيوات واشياء حتى تقفز وراء المقود وتتحكم بدوران عجلة الزمن،وهكذا فَعَلَت ما ان استقلينا سيارة الاجرة وانطلقت بنا نحو المستشفى فشرَعَت تطلق سيولا من الامطار تنهال على روحي من سحب الامس ونسج حكايات بخيوط الماضي لها رائحة المرمر الموصلي في حياتي العائلية.لكني لم ارد لها ان تستمر في لعبتها العاطفية التي تشبه عملية جلد الذات،فالوقت الحرج الذي أمرُّ بِهِ لامجال فيه للانفتاح على اوراق الماضي الجميل وتصفحها،ولهذا راهنتُ على هزيمتها بالثرثرةِ،بسؤال السائق مثلا عن اسباب ارتفاع اسعار السيارات ؟او هل كانت في العقود الماضية محطة للقطارفي مدينة اربيل ؟ فالمهم ان نتحدث وليس مهما عن ماذا نتحدث،وما إذا كان حديثا جادا ام مضيعة للوقت،بل المهم ان افلح في اعتقال الذاكرة ونفيها بعيدا عني في تلك الساعة .
فتحتُ باب الغرفة التي خُصصت لنا في المستشفى وكان الى جانبي اثنان من زملائي يعملان معي في القناة الفضائية “محمد خيون وهلو جباري” اصرّا على ان يتواجدا معنا ويقفا الى جانبنا اثناء اجراء العملية،لانهما كانا على علم بأن ليس لدينا اقارب يسكنون في اربيل،ومازال اهل زوجتي واهلي يقيمون في مدينة الموصل،ولن يتمكن اي واحد منهم من مغادرتها بعد ان سقطت تحت سلطة تنظيم الخلافة وهذا ما ضاعف لدي الاحساس بالوحدة والاغتراب في تلك الساعة،وليس اقسى من ان يجد الانسان نفسه وحيدا في محنته خاصة عندما تضعه الظروف رغما عن ارادته في موضع الغريب فلايجد احدا يحيطه من اهله واقربائه واصحابه مع انهم على بعد خطوات منه،فكيف به اذا كانت اعز اماله معلقة بين الحياة والموت. لم استطع ان ازيح نظري عنها وهي تجلس على حافة السرير مستسلمة لقدرها،وبين هنيهة واخرى كانت تغمض عينيها وتصدر حركة موضعية خفيفة عن شفتيها المطبقتين،فكُنتُ على يقين من انها تُردِّدُ بينها وبين نفسها ادعية أوتقرأ ايات من القران، مثلما اعتادت ان تفعل دائما،ومن ناحيتي ترسخ لدي يقين بان الايمان باعتباره قيمة روحية داخلية هو بمثابة ذاكرة الانسان الحقيقية التي لاتشيخ،ولن يقوى الزمن على تدميرها،وهي التي تؤكد حضوره الانساني،وبغيابها لاوجود له،وكم تمنيت ان يلمسني مثل هذا الايمان،وان اقضي حياتي سائرا في طريق واحد لا احيد عنه طالما يحقق لي اطمئنانا داخليا وشعوراً بالاكتفاء من هذه الدنيا،ويشعرني بالسعادة والرضا مهما تبدلت الاحوال وضاقت السبل وشح الرزق وقد ايقنت من ذلك من خلال اصرارها على ان تستيقظ يوميا في تمام الساعة الرابعة صباحا منذ ان تزوجنا قبل ربع قرن ثم تبدأ بقراءة القرآن مدة لاتقل عن ساعة من الزمن قبل ان تؤدي صلاة الفجر لتعود بعدها الى النوم.ولااعرف حتى الان لماذا لم احاول ان ادخل هذه التجربة لاكتشفها واعيش رعشتها الروحية ؟ ربما لان قناعتي بمسالة الايمان الروحي اكبر من ان تُختَزل بطقوس وشعائر،فالمهم بالنسبة لي ان يشعر بها الانسان من الداخل باعتبارها شعورا ذاتيا وليس مجرد تواصل مع قوة فوقية خارجية،لانه إذا ما غاب الداخل فلن يشعر الانسان بالاطمئنان الروحي والانسجام خارج ذاته،وسيداهمه الشعور بالوحدة اينما كان،سواء كان بين جموع المتعبدين او بين اهله واصحابه.وبينما كنت ارصدها وهي مازالت تغمض عينيها وتطبق شفتيها وتردد مع نفسها ما يعزز في داخلها الشعور بالقوة ازاء الضعف الجسدي الذي بات يقتات منها،كنت اقلب الافكار مع نفسي وانا احاول ان احطم مصداقية ما توصلتُ اليه واؤكد عجزه عن الثبات امام الجسد ساعة يسقط في ضعفه،وهذا ما جعلني اشعر بان مسؤوليتي باتت اكبر حتى لاينتصر الجسد بضعفه على الروح السامية.
فُتح باب الغرفة من قبل اثنان من العمال اظنهما يحملان الجنسية البنغلاديشية ثم دفعا بهدوء الى وسطها سريرا يتحرك على عجلات،واستأذنا من زوجتي ان تستلقي عليه وان نغطيها بالبطانية التي جلبناها معنا من البيت وكانت قد وضعتها الى جانبها على السرير في الغرفة،وهذا يعني ان موعد العملية قد حان.فلم استطع لحظتها السيطرة على مشاعري وعجزت عن لملمت ما تبقى لدي من قوة لضبطها،فخنقتني عبرة بذلت جهدا حتى اتحكم فيها،ولم اجد نفسي إلاَّ وانا اتقدم نحوها واقبل راسها وادعو لها ان تنال العافية،بينما هي بقيت هادئة مستسلمة ولم يصدر عنها اي اشارة على انها كانت خائفة،واكتفت بان امسَكَت كفي وضغطت عليها بقوة،ثم سمعتها تردد بصوت خافت احمد الله على كل مايكتبه،والى ان وصلنا باب المصعد حيث سينزلونها الى صالة العلمليات الكائنة تحت الطابق الارضي كنت ممسكا بكفها،وبعد ان دفعا العاملان بالسرير الى داخل المصعد،انتبه احدهما الى اني تحركت خطوة للامام في اشارة على انني كنت عازما على مرافقتهم فأتى بحركة من يده بمعنى انه لايُسمح لي وان علي ان الانتظار حتى الانتهاء من العملية .
بعض الاحداث التي نمر بها ونكون طرفا فيها او احد شخوصها الرئيسة سرعان ما تتحول الى قصص تحمل بين طياتها دلالات لم ننتبه اليها عند وقوعها،وقد لانلتفت ابدا الى اهميتها،ونتعامل معها كما لو انها ليست الا ضمن ما يمر بنا في نهر الحياة اليومية من احداث كثيرة عابرة،فإذا بها قد استحالت الى تجربة مثيرة ما ان تصبح جزءا من الامس،فيحلو لنا ان نستعيدها رغم اننا عشناها وكنا خاضعين تحت ضغط مشاعر تتوزع مابين القلق او الخوف او الشعور باننا قد اقتربنا من حافة الهزيمة،وكان حرصنا شديدا على ان نخفي عن الاخرين كل مايدور ساعتها في دواخلنا من افكار وهواجس،لكنها بعد ان تطوى وتصبح تلك الاحداث رهينة الماضي فإذا بنا نكتشفها من جديد كما لو انها شريط سينمائي مؤثر نتابعه بشغف ونحن مشدودين اليه بكل حواسنا،نتابع نمو احداثه وتطورها وما تواجهه الشخصية الرئيسة من تحولات في مسار حياتها،ومن الغريب ان يسري في داخلنا احساس اخر غير الذي كنا قد مررنا به لما كانت التجربة تلقي بنا في مرجلها، فيحلو لنا ان نسرد ما مررنا به امام الاخرين بينما لم نكن نشعر بالمتعة عندما كنا جزءا من الحدث ساعة وقوعه،هذا ما خطر في بالي وانا استعيد ماكنت عليه خلال ثلاث ساعات بينما كنا جالسين في الغرفة ننتظر انتهاء العملية الجراحية،مع ان الطبيب الجراح جمال غفوري لما سالته عن الوقت الذي سوف تستغرقه اخبرني بانها لن تتجاوز اكثر من ساعة ونصف من الزمن،فما كان امامي من حل للخروج من حالة القلق الا ان الجأ لاستهلاك الزمن بالحديث والدردشة مع زميليَّ المصور محمد خيون ومقدم البرامج هلو جباري،ولكن دون جدوى،فقد كانت مخيلتي تهرب بعيدا عن الغرفة وتجتاز الجدران والطوابق الاربعة لمبنى مستشفى ويلفر ولم تكن تحتاج الى ان تستعين بالمصعد للنزول الى صالة العمليات القابعة تحت الارض،ورغم جنوحها الا انها عجَزَت في ان تستحضر وقائع ما يجري هناك لاني لم اكن امتلك الجرأة على رؤية الدم،فكيف اذا كان المشرط يتوغل في جسد شريكتي الوحيدة في الحياة .كانت عقارب ساعتي اليدوية كلما نظرت اليها اجدها ثابتة في مكانها ولاتتحرك، بقيت مشغولا عن احاديثهما وانا خاضع تحت سطوة ذاكرتي التي كانت تنشط في عملها على غير عادتها وفَتَحَتْ صناديق معبأة بمشاهد وانفعالات وهدايا تبادلناها في مناسبات مختلفة وتفاصيل كثيرة مرت في حياتنا الزوجية ،بدأت بالبونط الابيض الذي رأيته اول مرة وهو يطوق شعر راسها،ولم تنتهي الذاكرة من لعبها العبثي الاّ وقد انهكها التعب وهي تنبش ما كانت تخبئه في خزائنها التي لاتنضب محتوياتها. فجأة فُتح باب الغرفة فإذا بالعامل البنغلاديشي،ويالها من لحظة انبثق فيها الخوف ومد اذرعه ليرسم وجهه الثقيل على ذرات الهواء فضاقت الغرفة عليّ رغم سعتها حتى كدّتُ ان اختنق،ولكن ما أن رسم على وجهه ابتسامة خفيفة وهو يردد”الهمد لله “حتى استعدت قواي التي كانت قد تراخت قبل لحظات وما كانت قدماي قادرة على ان تحملني،ثم اشار لنا ان نتبعه فخرجنا خلفه مسرعين الى الممر باتجاه باب المصعد الذي كان مفتوحا بينما كانت ترقد ممددة على السريرالمتحرك ومغطاة ببطانية حتى كتفيها،وترآى وجهها لي شاحبا بعد ان فقد نضارته تماما،وما أن لمحتني حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة واهنة وكأنها حاولت ان إنتزاعها بمشقة بما تبقى لديها من قوة، ورافقتها هزة خفيفة من راسها اشارة على انها قد اجتازت اول عتبة في محنتها. تعاونّا جميعا في رفعها من على السرير المتحرك بعد ان أمسكنا بالاطراف الاربعة للبطانية التي كانت تحتها ونقلناها على سريرها في الغرفة،واثناء عملية رفعها وجدتها تنظر لي بعينين مجهدتين،كان لدي احساس لايخطىء بما يدور داخل راسها من افكار،وايقنت بانها تريد ان تقول لي نفس الجملة التي طالما كانت ترددها امامي منذ أن اصيبت عام 1999 بمرض الروماتزم بعد ستة اشهر من ولادة ابني محمد الطيب ” يامروان،مالذي يُجبرك على الاستمرار مع امرأة مريضة بالكاد تمشي على قدميها من شدة المرض،وها هي اليوم بعد العملية الجراحية قد اصبحت نصف امرأة ؟” .
يتبع …