إرهاصات الحدث.. طلائع الفتنة في العالم العربي

 

مليكة الحامدي | سوريا

ما كنتُ لأنسى تلك الليلة .. حيث كُنّا نحنُ “آل الحامدي و آل القادري” في كلّ ربيع أخضر نستحوذ على مساحة جغرافية تساوي ذرة من الكرة الأرضية بينما تعادل كوكبنا برمّته بمقياس شعور الطبيعة الخلابة التي لا تفتأ تمدّ لنا بساطها الملوّن عن الأديم بديلاً .. إنّه شعورها الذي ينعكس علينا فيُخال لنا أنّنا ذلك الوجه الذي يضطرب تحته الكونُ عشقاً.. عائلاتٌ تنافس بعضها على الجمال بمعظم صنوفه.

دورٌ مصغّرة عن دورنا الكبيرة نصنعها تحت ظلّ أشجار البطم والصنوبر لكنها تخلّت عن جدرانها ليصبح استراق السمع لبهجتنا ذنب الهواء فحسب .. و ليصبح عدد الجُمل الموسيقية لذلك اليوم أكبر من عدد نسَمات العالم.
و بينما نحن في خِضمّ نشوة التلاقي الروحي .. يقرع مسامعي من بعيد صوت وقع حوافر خيول جامحة تصهل بنذير لم أدرك مصدرهُ تماماً.. المشهد الربيعي الأخضر استحال جحيماً قاتلاً.. المساحة الجغرافية أين هي؟
يا الله ..كيف كسر الزمن وحي الطبيعة بدقائق؟
كيف.. ومن .. ولماذا نفخت الريح العاتية في بوقِها لتغدو دُورنا المكشوفة في الهباء معدومة؟. الضباب الرمليّ الكثيف الذي أحدَثتهُ حوافرُ خيولِهم حجبت عنّي كلّ الوجوه ..
وحيدةٌ أقف بغير هدى على جسر صغير جداً كان يفضي إلى بيوت خلّاني كيفما رغِبتُ اصطحاب الجّهات ..
و لكن أين البيوت؟
أين ساكنوها؟
جيوش مُجيّشة و مُدرّعة بدروعٍ و أسلحةٍ تُشابه في هيكلها إلى حدّ كبير جيوش التتار والمغول تارة و الفرس والروم تارة أخرى كما كانت تُصوّرهم لنا الدراما العربية على شاشات التلفزة.
تاهَ عقلي ولم يته قلبي.. فقد دلّني على كوخٍ صغيرٍ ككوخ الأقزام السبعة الذي عثرتْ عليه “فُلّة” و هي تستنزف رغبتها في ملاذ يأمنها من ظلم الغابة .
رَضيتُ كلّ الرّضا أن أموت هناك على أن أموت في تلك الفلاة المُشرّبة بالدم و التراب البني الفاقع.. دقّات قلبي تتسارع.. أسمع خفق أنفاسي الذي كان كما صوت المطر.. كانت بجانبي طفلة صغيرة لم تتجاوز العاشرة من عمرها طُرحت أرضاً لتلفظَ على مضضٍ أنفاسَها الأخيرةَ جرّاء إصابة من جنديٍّ غاشمٍ لا يميّز بين صغير و كبير و لا بين رجل و امرأة .. شعرتُ بالعجز التّام تجاهها .. فليس من وسيلةٍ بين يديّ لإنقاذها .. بلّ كلّ ما كان بين يديّ مولودةٌ جديدةٌ لي.. فائقة الحُسن و الأنوثة .. نقيّة لا كدَرَ فيها .. لا أدري متى أنجبتها و لا كيف وصلت بين أحضاني.
في لحظة نزع الطفلة ذات العشر سنوات وقد كرهتْ عيناي متابعة استسلامِها للموت ظهرتْ على جدارٍ خلف ظهري كوّةٌ صغيرة جداً مفتوحةٌ على الخارج .. أشعر بها.. ثم أولّي وجهي شطرها و أحاول وأنا بذات الخفقان المتتالي مدّ رأسي من خلالها إلى خارج الكوخ لأستطلع الجو الذي بدا هادئاً إلى حدّ ما .. و أفلح بأعجوبة ..
من مسافة ليست ببعيدة جداً من الكوخ ألمحُ قريبتي تسيرُ باضطراب على أرضٍ بورٍ كانت قبل سُويعات أرض أجدادنا وآبائنا الخضراء.. وقد اعتلت الغبرة سَحنتها وكست الرّثاثة ثوبها بالكامل و التّوهُ بدا عنوانها.
ألوّح لها بيدي أن اقتربي وأنا أحاول مناداتها باسمها بصوت بالكاد تسمعه لتنضمّ معي إلى ملجئنا الآمن.
وإذ يكتشفُ أمري جنديٌ كان يقف هو و رديفٌ له خلف جدار الكوخ بجانب الكوة.. فيصيبني الهلعُ و لا أشكّ لبرهة أنها نهايتي المحتمة .
-يقول ابن سيرين في تفسيره للجنود في المنام: إنهم ملائكة – فهل يعقل أن يكون هذا الجنديّ المنتمي إلى الفرق الهمجية الطاغية التي اغتالت الحياة على أرضنا ملاكاً يمشي على الأرض؟
نعم يمكن أن يكون .. أو ربما هو كذلك !! .
إذ علّمنا التاريخ أنّه دائماً يوجد من بين شياطين الإنس .. “ضمير نبي” ..
لأوّل مرّة في حياتي أُمسك بالمُسدّس.. مسدّس غريب الشكل لم أرَ مثله من قبل.
كان أسود اللون خالصهُ.. ذا سبطانة رفيعة بطول يقارب الثلاثين سنتيمترا .. بفوهة صغيرة و قبضة متوسطة الحجم.. يسلّمني إيّاه ذاك الجندي و هو يُوصيني بالدفاع عن نفسي في حال تعرّض إليّ أحد المجرمين طوال فترة مكوثي في الكوخ.. حينها أسندُ ثقتي على ضميره الذي لن يتوانى عن الدفاع عنّي بعد أن يطلب مني ذلك.
لحظة إرجاع رأسي إلى داخل الكوخ أسمعه يتكلّم مع رفيقه بلهجة ساخرة و هو يقول:
ما أغبى سُكّان هذه البلدة .. نحن أتينا لنُنقذهم من ظلم قائم فيهم و لنصلح حالهم و هم هربوا منّا.
أهدأ قليلاً حين أجد قريبتي قد صارت بجانبي والمسدس في يدي وسبّابتي على زناده في وضعية الاستعداد للمواجهة.. بينما ابنتي قد أخذت غفوة هانئة.
ثم على جسر عريض وطويل جداً يُخال إليّ أنه جسر على نهر النيل
تلاقينا أفواجاً أفواجا .
. أهلاً و أصحابا ..
معارف و أغرابا .
نتصافح نتحادث نتسامر و نسير إلى حيث لا ندري إلى أية ضفة سيوصلنا الجسر .
مدينتي التي كانت منذ قليل مدينة الأموات .. استحالت مدينة العشاق .. عشاق الحب و المال .. عشاق السمر واللهو .. عشاق العمران والربيع الأخضر ..
أسير بين شوارعها بعباءتي و نِقابي المتلازمَين لي.. بينما كشفت كلّ مخلوقات الله المتنوعة الأصناف عن مفاتنها الشرعية و غير الشرعية لأبدو أنا ابنة الجمال على تلك الأرض .. غريبة الروح .

لم يمرّ على منامي ذاك شهران حتى بدَرتْ طلائع الفتنة في الوطن العربي وتجسّدت بعدها الصورة الحقيقية للربيع العربي في وطني سوريا ..
و ها أنا على جسر التواصل مع الأهل والأغراب أعيش على أرض أعشقها .. و لكن .. بروح غريبة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى