أدب

تجليات البعد الوجودي والنكهة الصوفية في رائعة محمد البريكي الشعرية: من وجهة الريح

بقلم الشّاعر والنّاقد عبد العزيز الهمامي | تونس

     هو ذلك الطّائر النّادر الذي تسكن قصائده قمم الجبال الشّم ويرفرف بأجنحة من ضوء في المحيطات الوسيعة ويتوغّل بنصوصه الشّاهقة صوب الأعالي حيث الغيوم الخضر تمشّط جدائل السّماء وهو ذلك الاستثناء الذي ينبت الياسمين على ضفاف تجربته الشّعريّة المأهولة بالجمال والابداع وبرؤيته الحداثيّة المسكونة بالسّفر والحلم والانعتاق بحثا عن دروب أخرى تُحارب القلق والحيرة وتستنطق الغموض وتلاحق اليقين وعن نوافذ جديدة مطلّة على حقيقة الأشياء وطبيعة الكون وأسراره. أديبنا هو المبدع الجميل الأنيق والشّاعر الكبير محمّد عبد الله البريكي صاحب/ بدأت مع البحر/ و/عكّاز الرّيح/ و/اللّيل سيترك باب المقهى/و/ مدن في مرايا الغمام/ الى جانب مؤلّفات عديدة في الشّعر النّبطي وفي مجالات الأدب والاعلام بشكل عام .

وسوف نتناول في هذا المقال واحدة من قصائده البديعة الواردة بالصفحة 99 من ديوانه *اللّيل سيترك باب المقهى* والتي تحمل عنوان* من وجهة الرّيح* وذلك بهدف الغوص في أغوارها ومنعطفاتها واستجلاء جوانبها المضيئة وقراءة رومانسيتها الوجوديّة والاستمتاع بطعمها الصّوفي.
لقد جاء هذا النّص العمودي على البحر البسيط الذي أراده الخليل ابن أحمد أن يكون حاملا للأمل والطّموح والحياة . لذلك اختار شاعرنا أن يبدأه بصور شعريّة عالية الجودة مأخوذة بسحر الطبيعة ولكنّها في ذات الوقت تستمدّ رؤاها من تفاصيل الكون بكل أبعاده وتجلّياته وتحديدا من الرّوح الوجوديّة التي نادمت وجدان الشّاعر وعرّشت في خياله وجعل منها صِنوا لذاته . وفي تقديري كان الشّاعر البريكي على صواب في هذا المنحى لأنّ جانبًا مهمّا من نصوصه تلتحف بهذا القلق الوجودي والميتافيزيقي الذي يمثّل في حقيقة الأمر ضربا من تجربتة الحضاريّة الموغلة في عمق الحداثة الشّعرية و هي أيضا تمثّل حالة وعي أخرى وارفة الظّلال ومتراميّة الأطراف يجد فيها شاعرنا الحضن الدّافئ الذي يلوذ اليه عبر أصالة الأسلوب وجزالة اللفظ وحداثة المعنى بحثا عن الأشياء الغائبة في الرّاهن اليومي وتعبيرا عميقا عن حنجرته المبحوحة وصورته وهي تتلاشى في المرايا رغم زخّات العشق التي تهطل في قلبه ووجدانه وتزهر في جوانحه كلّما حلّق بأشعاره في أقاصي الكون . يقول في مطلع القصيدة :

بَيْتِي مِنَ الرّمْـلِ مَبْنِيٌّ عَـلَى الشّجَـرِ
يُشَاكِسُ الرّيحَ وَ الأَلْحَانَ فِي وَطَرِي

***

تُجَرِّحُ النَّغَـمَ المَبْحُـوحَ حُنْجُرَتِي
وَتَنْحَنِي لِقَصيـدٍ سَالَ مِـنْ وَتَـرِي

***

عَظِـيـمَـةٌ هَـذِهِ الأَحْــدَاثُ خَـالِــدَةٌ
وَمَا الحُرُوفُ سِوَى مَاءٍ عَلَى الحَجَرِ

***

مِـنْ وِجْهَةِ الرِّيـحِ اِنِّي عَـاشِـقٌ ثَمِلٌ
أَرَى المَرَايَا وَ لَكِنْ لاَ أَرَى صُـوَرِي

هذا هو البوح الشّفيف الذي انطلق منه محمّد البريكي وهويجلس على هضاب الكلمة أو يستحثّ خطاه ويطارد معانيه ومفرداته ويتّكأ على رمزيّة حرفه من أجل أحلامه وكأنّه في هذه الحالة يريد أن يطرق الأبواب المنسيّة أو يكشف عوالم أخرى ويعيد صياغة المشهد الذي يفضي به الى الدّهشة وقد يرى فيه ما لا يراه الاَخرون وحيثما حلّق بعيدا تجلّت أمام عينيه *أنشودة العمر* وهي تنتصر للحبّ بمفهومه الرّاقي وبما ينطوي عليه من قداسة المحتوى ومن قيم انسانيّة نبيلة.
لقد كان شاعرنا وهو ينهل من لغته الأصيلة مغتسلا بمائها العذب وحرصا على ابراز هذه الخصائص والمميّزات الفنّيّة والجماليّة التي نحتت كيانه وطبعت أحاسيسه وفتحت له معالم الطّريق للخروج من قلقه الوجودي. انّها وردة الأمل التي طلعت عليه من قلب العتمة والشّمس التي بزغت في دربه لتنيرغياهب الوحشة

لَكِنَّ عُصْفُـورةً ضَاقَـتْ بِهَا لُغَـتِي
غَنَّتْ عَـلَى كَـتِـفِي أُنْشُودَةَ العُـمُــرِ

***

يَـرَى بِهَا سِـرْبُ أَحْـبَـابِي تَـرَنُّـمَهَا
وَمَا رَأَوْا مَا الَّذِي قَدْ شَعَّ فِي بَصَرِي

***

أحُـكُّ جِـلْـدَ المَعَـانِي كَـيْ تُجَـمِّـلَـنِـي
وَكَيْ أَقُولَ لَهَـا : يَا وَرْدَتِي انْتَصِـرِي

إلى أن يقول في ذات السّياق:

هُـنَا وَقَـفْـتُ وَمِـنْ عِـشْرِيـنَ قَـافِـيَـتِي
تُرَاوِدُ القَـلَـقَ المُـمْـتَــدَّ فِـي سَـهَــرِي

***

سَأَلْتُهَا عَـنْ حَـنِـيـنِ القَـلْبِ اِذْ طَـلَعَـتْ
شَمْسٌ عَلَى وِحْشَةِ البَـطْحَاءِ بِالسُّـوَرِ

ومن هنا تمرّ القصيدة الى مناخات أكثر صفاءا واشراقا وتنعطف على ضفّة جديدة تمنح شاعرنا توازنه وتسيّج كلماته ومفرداته بهالة نورانيّة مدهشة ليجدَ نفسه داخل القصيدة مبحرا في لحظات صوفيّة تغطّيه ببُردة شديدة النّقاء وتشرع له النّوافذ لمخاطبة الرّوح .
وقد يكون هذا الأمر بالنّسبة اليه هو معبر النّجاة للتّخلّص من هذه الغربة النّفسيّة وهذا القلق الوجودي وربّما يكون الضّوء الذي يتراءى له في نهاية النّفق لأنّ شاعرنا ختم رائعته الشّعرية هذه بمدح خاتم الأنبياء رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه وسلّم وتقريظ جوانب مضيئة من شمائله وفضائله وسيرته العَطِرة .
ومن غير شكّ فانّنا ندرك جيّدا أنّ بقيّة الأبيات جاءت حافـلة بأرقي معاني المحبّة لنبيّ الهدى والرحمة حتّى أنّ ذكرالرّسول في القصيدة أطرب ألفاظها ومفرداتها وقوافيها وجعل منهنّ أميرات على السّرر وأعطى لهذا النّصّ بهاءه ورونقه وألقه يقول شاعرنا :

مَاذَا سَأَكْتُبُ عَنْ ذَاكَ العَظِيمِ وَقَدْ
تَمَنَّعَ الحَرْفُ حَتّى جَـاءَ فِي الكِبَرِ

***

يَشِيخُ شْعْـرِي وَلَكِـنْ حِيـنَ أَذْكُرُهُ
أَرَى المَعَانِي أَمِيرَاتٍ عَلَى السُّرَرِ

***

مُحَمّدٌ اِذَا تَـبُـثُّ الرُّوحُ لَـوْعَـتَهَا
تَفَتّحَ الوَرْدُ وَالنِّـسْرِينُ فِي كَدَرِي

***

مُحَمّدٌ أَيْـقَـظَ الـدُّنْـيَا وَ أَنَّـقَـهَـا
لِكَيْ تَسِـيـرَ عَـلَى سَجَّـادَةِ القَـمَـرِ

يَا لجمال ما كتب ويكتب محمّد البريكي وما أروع هذه الصّور الشّعريّة التي تنزل على الذّائقة بردا وسلاما فهي البوح الرّاقي لغةً وعمقًا ورمْزيةً وايقاعًا.
اِنّه واحد من فرسان الشّعرالأفذاذ ممّن يقدّمون الاضافة المبدعة التي تفتخر بها المدوّنة الشّعريّة العربيّة الحديثة. فمعظم نصوصه هي نصوص شاعر مجتهد استطاع أن يتخلّى عن اللغة المتاحة وعن السّائد المتعارف وأن يثبت وجوده الشّعري ويبني مملكته الأدبيّة الرّائعة التي ازدانت بثقافته وسعة خياله وأناقة أسلوبه وبقدرته على استخدام مختلف الأدوات الشّعريّة في نصوصه العموديّة أو المدرجة ضمن شعر التّفعيلة.
واذا عدنا الى قصيده *من وجهة الرّيح* فانّنا نجد شاعرنا قد توّج هذا النّص البديع بما يعتمل في داخله من عشق شفيف للحياة ولكلّ ما يربط عناصرها بعذريّة الأمكنة والأحداث التّاريخيّة وتوظيفها في شعره على غرار تغنّيه بليلاه تلك القصّة العاطفيّة الشّهيرة التي تجسّم مفهوم الحبّ في أرقى مظاهره وعلى أنّها دلالة صوفيّة أراد شاعرنا استعمالها كرمز للذّات العاشقة وربّما رغبة منه في اثراء النّص بأنموذج عريق من تراثنا الانساني وثقافتنا العربيّة .

لَيْلاَيَ يَا مَنْ تَرَى العَطْشَانَ مُصْطَبِرًا
عَلَى الظَّمَا وَتَرَى الاِرْوَاءَ فِي الحَـذَرِ

***

تَزَنْبَقِي فِي عُرُوقِ المَاءِ وَاحْتَـفِـلِـي
فَاِنَّ رُوحِيَ يَا لَـيْـلَى عَلَى سَــفَــرِ

***

أَوْدَعْتُ فِيكِ غِنَاءَ العُمْرحَيْثُ سَـعَتْ
بِحَادِيَ العِيسِ رُوحِي سَعْيَ مُعْـتَمِـرِ

***

فِـي عَـيْـنِـهِ غَـيْمَةٌ مَلْأَى تُـرَاوِدُهُ
فَقَالَ مِـنْ وَجْـدِهِ : يَا غَيْمَةَ انْحَـدِرِي

هذه بعض الأبيات من رائعة البريكي الشّعريّة التي اشتملت على اثنين وثلاثين بيتا بكلّ وسامتها وتشكيلها الابداعي والفنّي. قصيدة تعبق بعطور المحبّة والجمال والخصب والابتكار ويمكن اعتبارها من عيون الشّعر العربي ومن القصائد المحـلّقة وذات البعد الوجودي والحضور الصّوفي. فهي مناشدة للخير ومفتوحة على البياض في هذه الدّنيا المكتضّة بالمخاطر والطّعنات والأوجاع. لذلك دأب شاعرنا الكبير على استثمار موهبته الشّعريّة وتحويل الحرف الى كائن ضوئي يتغنّى بالبدايات ويحلم بجمال النهايات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى