مديات التأويل.. منطقة أخرى للشعر

جمال قيسي | روائي وفنان تشكيلي – بغداد

قراءة  في بعض المقاطع لقصيدة ( رؤى قمرية ..) للشاعرة سعاد محمد

منذ مدة ليست بالقصيرة انتبه النقاد أو المعنيين بالأدب إلى قضية  العلاقة المعقدة بين القارئ والنص وبالذات الحداثوي،  أن تنتقل إلى عوالم مختلفة وقصية ذلك أثر عظيم يفعله النص من خلال التأويل، لكن من يفتح تلك العوالم؟ وماهي وسيلة الانتقال اليها، مع إن العملية هي ضمن حيّز  المخيال،  وكل إنجاز مادي  مشيد إنسانيًا، ينطلق من حلم أو محاولة لتأويل،   وقبل أن نستغرق في الحديث عن الانفتاح على العوالم القصية، لابد أن نحدد  قضية المعنى وماذا يراد بها، إذ لا قيمة لأي شيء بدون معنى مشروط  بتلقيه في الوعي،  المعنى هنا كل نمط من الارتباط المتبادل داخل النص أو خارجه . 

هل بالإمكان  أن نكون هنا الآن وفي الماضي  الوقت ذاته؟، في الواقع هذا أمر مستحيل، لكنه  في عوالم النص الأدبي  كل شيء جائز، إنه  بعد من الرؤية المغايرة للواقع، نوع من التعويم للزمن إعادة صياغة  للواقع  بمعنى جديد، مشبوب بالأمنيات، أنطلاق من اللاشعور، لكل مكبوت، واعتراض على إجحاف الوقائع الخارجية، نحن نتكلم عن المعنى  المتحرر من الظرفية، نتكلم عن تموقعنا في عالم  مغاير. ومختلف عن عالمنا المؤلم  بكل حال.

سنبحر مع نص الشاعرة المقام السامي ذاته في الأدب (سعاد محمد) في نصها الذي يجمع بين العجائبية والتخطي الزمني،  معظمنا مر بقصة حب غير متحققة  تدور أحداثها في دواخلنا، نعشق شخص ما دون أن نبحث عن السبب، نمرغ كبريائنا، لكن في  نفسنا، لا نتمكن من البوح، نعلق وقائع هذا الحب على جدران  مشاعرنا الخفية، هي عميقة وسحيقة تلك اللحظات مع إنها مشرقة، لأنها تتمثل بكل طاقتها في المخيال إنه تاريخنا الحقيقي المسكوت عنه.

 منذ الصباح وأنا أخرج من حلقة رتابة وادخل أخرى سواء في البيت أو العمل أو حلقات الأصدقاء، وهذا ربما يحدث كل يوم، أتلمس في هذا العماء المتراكم عن بصيص أمل عن سم إبرة  لأنفذ  منه لكي أبرر نفسي، لكن  الإحباط  يشيع كل أمل، وفجأة  قرأت هذا المقطع:

” كلُّ ما أراهُ الآنَ رأيتهُ مِنْ قبْلُ

لم أسعَ إليهِ, هو حفظَني, وسعى إليَّ

كانَ يكفي أن أتبعَ مشيمةَ التأويلِ لأعرفَ أنّكَ (هو) “

ليقل لي أحد، كيف لا تتنشط دورتنا الدموية، عند قراءة مثل هذ الكلام، وكيف لايهتز جهازنا التأويلي، من  هذا التراكم  لتشكل الوعي، المذيب للأمكنة والأزمنة، إنها  سعاد محمد، صانعة  شاعرية  قل نظيرها، فهي  تشحن الملفوظات بطاقة بلاغية لأقصى ما يمكن حتى تتقطع انفاسك تأويلياً، تضيع وأنت تنتقل إلى فسحة  مفرطة الحلاوة مع إن حزنها طاغٍ، يحدث نوع من التماثل بينك وبين هذه اللحظات اللازمنية هذا لايعني إنه لايوجد تاريخ، بل العكس إنه تقويم خاص معني بالمشاعر، تورخة الألم والتأوه، والمشاعر الحقيقية هي أثمن ما  في الحياة، هنا تصنع خيطاً رفيعًا من التاريخ الشخصي بالكاد تمسكه، لكنه متين القوام ” كلُّ ما أراهُ الآنَ رأيتهُ مِنْ قبْلُ” هي  روح أزلية  تشطب الفواصل الزمنية، هي في اللحظة الراهنة مترابطة مع الماضي، انشغال صفته الديمومة، المؤلم في الأمر إنها واجهت كل هذا دون إرادتها ” لم أسع إليه”  مع من تتكلم؟ ربما شخص أو قدر أو كيان آخر يقف في الظل، وفي هذا الغموض والتيه التأويلي يكمن جمال الأدب، بل المبرر الوحيد الذي  يشفع لنا  كل مكابداتنا، كيف لا ؟ وهي تكسب الريح وعيًا، أي سموٍّ هذا ! إنها مرتبة ما بعد السمو..

” اسمكَ..

تواردُ أفكارِ الغدرانِ..

 مع رقيمِ مُحافظٍ خطفَ طفولتي

هو غرضُ الرّيحِ..

حينَ تذهبُ مع المدى برحلةِ صيد..

اسمكَ الحلوى الكاذبةُ الّتي يُمنّي بها التاريخُ دمَ المقهورين!”

أي صلصال هذا ؟ الذي  صنع منه الرقيم، وأي لغة احتوى؟ بل أي تعويذة كتبت فيه؟ 

في مقطع يسبقه، ليس بيدي حيلة في التقافز بين المقاطع، إنها مشيمة التأويل كما  قالت  الساحرة (سعاد محمد) :

” اسمُكَ الفارقُ بين التلميحِ والتصريحِ

الفارقُ الّذي يلعنُ اللونَ الرّمادي

اسمُكَ

دع اسمكَ لي

أنا أدرى منْكَ بِتلفّظِهِ

دع لي نعمةَ عدِّ بلابلِهِ “

هنا تمسك بسر التأويل، وهي ما يسمى  (الما بين)  ونقصد هنا الفعل الذي يقع بين واقعية النص وذاتية القارئ، هذا بعد أن نأخذ بعين الاعتبار أن للعمل الأدبي قطبين هما القطب الفني والقطب الجمالي، القطب الفني هو  نص المؤلف والقطب الجمالي هو التحقق الذي ينجزه القارئ، ونرجع إلى الـ (ما بين)  أي الفعل الديناميكي عندما يمر القارئ  بمنظورات متنوعة  يعرضها النص  ونماذج مختلفة بعضها ببعض ،هذا الفعل يحرك العمل ويحرك نفسه أيضًا، ففي منطقة (الما مبين) يتولد فائض المعنى، وبين  التلميح والتصريح تكمن حقيقة الأمر، وهي منطقة مشاعر خالصة  في ماهيتها إنها حياة الروح.

” حينَ شربتُ الأزمانَ.. رأيتُكَ

أنا الميّتةُ في حادثِ انبهارٍ

تنقرُني العنقاءُ..

فأفيقُ كرؤىً قمريّةً

لكنْ, لمْ يزايلْني الحنينُ “

 في هذا المقطع تأخذنا الشاعرة إلى عالمها العجائبي، تشعر أنك في مكان سعته الكون لكنه في الوقت ذاته متوحد معك لدرجة أنك  تتشارك معه بنبض واحد، طبعًا أن كان ثمة حياة، في هذا الحلم المخلق، هذه الفانتازيا العجيبة لحظة فقط لأمتلك زمام أمري كي أصف، هي جوليت. العاشقة التي شربت السم، لكنه سم السنين عند الشاعرة. وهي تمارس عملية الانزياح والإحالة  الخفية  بلاغيًا، وبالوقت نفسه هي (white snow) النائمة بفعل السحر، لأنها أميرة لايليق بإيقظها إلا الطائر الأسطوري. العنقاء وهي إشارة للخلود، لكن نهوضا يكتسي الشفافية والسرمدية، يقظة روح خالدة حيزها الأحلام، لكنها لازالت تحتفظ بالذكريات، ذكريات من تحب، لله درك شاعرتنا الكبيرة، سيأتي  زمن لاحق سيتغنى بشعرك .

……..

مقتطف من النص:

رؤى قمريّة..

كلُّ ما أراهُ الآنَ رأيتهُ مِنْ قبْلُ

لم أسعَ إليهِ, هو حفظَني, وسعى إليَّ

كانَ يكفي أن أتبعَ مشيمةَ التأويلِ لأعرفَ أنّكَ (هو)

(هو): النابتُ في أبهر القصيدة

رأيتُكَ كمنطوقِ لوحةٍ تشكيليّةٍ

كحرارةِ المشاعرِ الغامضة

رأيتُكَ..

الأنّةَ المُضمرةَ في قلبِ لغتي

شهاباً جلياً..

والحجّةُ على الممسوسِ بالرؤى!..

اسمُكَ الفارقُ بين التلميحِ والتصريحِ

الفارقُ الّذي يلعنُ اللونَ الرّمادي

اسمُكَ..

دع اسمكَ لي

أنا أدرى منْكَ بِتلفّظِهِ

دع لي نعمةَ عدِّ بلابلِهِ

اسمكَ..

تواردُ أفكارِ الغدرانِ..

 مع رقيمِ مُحافظٍ خطفَ طفولتي

هو غرضُ الرّيحِ..

حينَ تذهبُ مع المدى برحلةِ صيد..

اسمكَ الحلوى الكاذبةُ الّتي يُمنّي بها التاريخُ دمَ المقهورين!

حينَ شربتُ الأزمانَ.. رأيتُكَ

أنا الميّتةُ في حادثِ انبهارٍ

تنقرُني العنقاءُ..

فأفيقُ كرؤىً قمريّةً

لكنْ, لمْ يزايلْني الحنينُ

يا حبّ..

أرني عرضَ منكبيكَ يا حبُّ

لأقيسَ كم موتاً بقي في عمري؟

فلمْ أستشفَّ من نواياكَ إلّا الزّناد

امتحنّا يا حبُّ امتحنّا..

وزوّر علاماتِنا لنعيدَ!

وصوّرنا ونحن صرعى العاطفة

لنضحكَ علينا حين يغشانا اليقين

كعصفورٍ تبرّعَ ممتنّاً بكلِّ ريشهِ للعاصفة

وما زالَ يعتقدُ أنّهُ سيّدُ الرّيح!..

إنْ اختلفَ الرواةُ يا حبّ

فأنتَ قاتلي الحبيب..

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى