بائعة الملوحة
محمد فيض خالد | مصر
ومما يُحمد لمنزلنا القديم ، على الرُّغم من ضيقه ِ، أنّ واجهته الخارجية كانت عريضة ، ما هيأ له أن يكون ملاذا يلوذ به ِأبناء الدَّرب من عجائزهِ، في ايامِ الشتاءِ القارص ؛ طلبا للدفئ ، وهربا من البرودة التي تكدّست بها بيوتهم الطينية ، وتلك عادة قديمة عرفها أهلنا في القرى الفقيرة ، سماها البسطاء بعفويةٍ ” السّهراية” ، حين يتراصّ النسوة وتتلاصق أجسادهن تحت الجدران ، مع أولِ خيطٍ من خيوطِ الشمس المُدلاة على البيوت ، فتحيل طين الجدران إلى مصدرٍ للحرارة ، ومحضنا للبؤساءِ يجدون عنده الراحة ، يتقاطر الجيران زمرا، تراهم من كُلّ حدبٍ ينسلون في وقتٍ معلوم ، تحمل إحداهن بين أيديها حزمةً من سَعفِ النّخيل الأصفر ، وتنكبّ تحت ضوءِ الشمس المُتوهّج ، على امتدادِ اسبوعٍ كامل تصنع ” مقطف” طلبته منها ابنتها تتخذه وعاء تحفظ فيه الخبز، والأخرى حملت طستا ملئ قمحا ، أتت بهِ تنقيه فتفصل ما خالطه من الحصى والقش ، فعمّا قليل سيعود زوجها من الحقلِ فيذهب بهِ إلى الطاحونة ، أمّا البقية من زبائنِ الجدار وضيوف السّهراية من زمنٍ بعيد ، أراهم منذ أن وعيت للدنيا ، ففيهن الأرملة التي مالَ حظها في ابنها ، بعد أن سلكَ طريق الكسل والتنبلة ، لينقطع عن العملِ مع أنفارِ اليومية ، يتعذرّ لها ويغريها بأمانيه الخداعة ؛ كي تترك له الحبل على الغاربِ : بكره اسافر مصر .. اليومية هناك حلوة احسن من كسرة الضهر اللي من غير فايدة .
ومنهن دائمة الشكوى من زوجها ، لا تفتأ تذكره بالسّوءِ كلما جلست ، بعد أن عرف طريقه للسّهرِ والعربدة لأنصافِ الليالي ، اخبرها أولاد الحلال_ وما أكثرهم في قُرانا _ أنّ صاحبنا عرف أوكار الكيف والمزاج في قريةٍ مجاورة.
وثالثة تبكي جمرا ، بعد أن مرضت بقرتها الوحيدة ، مصدر رزقها وأولادها، تبتهل إلى الله وتطلب من الصِّغارِ الدُّعاء ، أن يلطف بها وبهم.
اتسمّع حوارات السّهراية كُلّ يوم ٍ، اواظب عليها دون انقطاعٍ ، منذ أن تفترش ابنة النهار خيوطها في الدّرب، وحتى تلملمها وتلقي بها بعيدا فوقَ الأسطحِ قبل أن تتخذ وجهتها للمغيبِ، عندها تنفضّ القعدة ، وتعود النّسوة من حيث أتين ، على وعدٍ بلقاء في صباحٍ جديد.
في البدايةِ كانت أصواتهن تُزعجني ، فأنا _في أحيانٍ _لم اتعوّد الاستيقاظ مُبكرا ، خاصةً إذا لم يكن هناك ما يستوجب ذلك ، سواء من أعمالِ الحقلِ ، أو الذهاب للمدرسةِ، لكن وبمرورِ الوقت وجدتني مشدوها لأحاديثهن، ولو من بابِ التسل ، اقضي معها وقتي بعيدا عن صخبِ الحياة ، بدأت اعيد النظر في أحاديثهن، لأجد ما يشدني إليها حتى وإن افتقرت عوامل الإثارة ، من التنويع والتجديد .
اجهز كوب الشاي الكبير ، اُقرِب كرسيّ الوحيد ناحية الشباكِ الطيني العريض ، ولا مانع من طبقٍ مملوء بالكِشك وقطع الكعك المحمص ، وتلك لعمرك ، رفاهية اُحاسب عليها يوم الدين .
ولعل ما زاد من اهتمامي ، أم أشرف بائعة ” الملوحة ” تلك السيدة الأربعينية ، ذات القوام السّمهري ، مسحوبة الوجه ، جذبني نحوها مسحة الحزن ، التي مسّت وجهها الأبيض المُشرب بحمرتهِ والتي زادتها جلالا ، فبدت على خِلاف نساء الناحية ذوات اللون الخمري والبشرة الحنطية أحيانا ، تأني قريتنا ثلاث مراتٍ في الأسبوع ِ، تتخذ من جدارنا المشمس مُستقرا لها، تبيع زبائنها الذين عرفوا مكانها ، تسير على استحياءٍ جمّ ، تُنادي بصوتٍ يُشبه الهمس : يلا الملوحة .. يلا الرشال.
ثم تنخرط في أحاديثِ النّساءِ مع تحفظٍ مُفرط، لا ترد إلا إذا قُصِدت بكلام ، وهي مع هذا وذاك عفة اللّسان ، لا تخوض في أحاديثِ القرويات التي لا تخلو _ في أحيانٍ- من ابتذالٍ أو نميمة.
تظل ساهمة الطرف ، تمسك بعصاةٍ صغيرة ، تخطط الأرض باستمرارٍ ، وكأنمّا تحلّ مسألةً رياضية عويصة.
تغافلت عن باقي النسوةِ وثرثرتهم غير المجديةِ ، واعطيت هذه البائعة اهتمامي ، فوراء أم أشرف على ما يبدو ، لغز يستحق أن ينظر فيه .
اقتربت ذات يومٍ منها، اعترف بأني اكره رائحة الملوحة ، وما كنت لأجلس مجلسي منها قبل اليومِ ، لولا تعلقي بغرائبِ القصص ونوادر الحكايا : صباح الخير يا خالتي أم أشرف .. عندك ملوحة كبيرة عن دي شوية.؟
ابتسمت المرأة في أدبٍ ، وقالت : فيه يا بني إللي أنت عايزه.. المرة الجاية اجيب لك من عيني.
توثّقت علاقتي بها، لحدٍّ معقول يسمح لي أن احادثها بأريحيةٍ مع قليلٍٍ من التحفّظ ، كان رأسي قد اتخم بعشراتِ الأسئلة كلما جلست قريبا منها فوق المصطبةِ، امسك بكتابي في يدي ، كثيرا ما لجّمت لساني قبل أن يندفع بكلامٍ قد لا تقبله مني ،استجمعت ما تبقي من شجاعتي ، قلت لها يوما : انت بلدك فين يا خالتي أم أشرف .؟
قالت متلعثمة :انت مش عارف للوقت ؟
رددت ضاحكا : أنا عايز بلدك الحقيقي، اضطربت المرأة ، مررت طرف حرامها القطني الأسود فوق وجهها وعركت أنفها الوردي ، وقالت : عايز تعرف ليه؟!
لم اجب بكلمةٍ ، شعرت عندها بالندم ، على ما يبدو أنني تجاوزت ما كنت أخشاه ، تمنيت ساعتئذ لو تنشق الأرض فتبتلعني.
عاجلتني المرأة في ثقةٍ : بلدنا بني سويف ، البيه جاب جوزي عوض غفير يغفر القصب ، عوض دا كان ابن حلال مصفي، كان صاحب أبويا اتجوزني عيله بت اربعطاشر سنه .
وفجأة اغرورقت عينيها بالدموعِ، اسرعت فاحضرت كوز ماء ، شربت منه ونثرت فضلته على وجهها المُشرب بحمرةٍ ، نظرت إلى وجهها وقطرات الماء المعلقة بذقنها كحباتِ الفضة، سبحان من أبدع وصوّر ، تحاملت على نفسها ، قائلة : البيه عطاه بيت في الدايرة ، عوض كان شريف وإيده ظاهرة لكن آه م الزمن .. إللي إيده نصيفه بيروح في الرجلين ..
انتفضت فجأة ، وهبّت واقفة فقد أزف الرحيل ، طلبت مني أن اساعدها على حمل الصفيحة ، اننظرت لليومِ الثاني على أحرّ من الجمرِ ، رابضت فوق المصطبةِ من قبل الشروق ، وبعد قليلٍ لاحت في أولِ الدّربِ ، اطمئن قلبي ، ألقت تحية الصباح بوجهٍ بشوشٍ، ساعدتها في انزال الصفيحة ، تربّعت على الأرض ، وقالت : هو إحنا وقفنا فين في الكلام .؟
على الفورِ اجبت، ادركت المرأة وقتئذٍ مدى تعلقي بتفاصيلِ حكايتها، اقبلت عليّ في هدوءٍ : المهم فضلنا نخدم البيه.. وعوض بيخاف ربه ولا يدخل علينا لقمة حرام .. كان وياه شلة ولاد حرام ، حاولوا يجروه في سكتهم البطالة .
قاطعتها بعد أن ابتلعت ريقي : بطالة؟! ، أجابت : يعني يشاركهم سرقة المحصول ويقول دول ولاد الليل . عوض رفض وراسه وألف سيف ليفضحهم قدام البيه .. ملقوش معاه صرفه طخوه وسط القصب ، وقالوا الحرامية .
انشغلت أم أشرف في زبائنها ، لكنني لم انشغل عن كلامها ، عادت ثانية تسترسل في حديثها : البيه مكدبش خبر .. بلغ الغفر كرشوني أنا وبتي في انصاص الليالي .. قال إيه عاوزين البيت للغفير الجديد.
وبعد قليلٍ ، شعرت وكأن المرأة تؤنّب نفسها ؛ أن باحت لي بما تكتم، صمتت طويلا وعادت تُخطط الأرضَ ثانيةً بعصاها، رفعت وجهها ورمت بنظرها بعيدا ، مررت طرف جلبابها فوق أنفها ، ثم قامت من سكاتٍ وحملت صفيحتها وغادرت .
لم تعد ثانية بائعة الملوحة ، ولم اعد اسمع صوتها، ولم تعد تجلس بجوارِ الحائط ، وبانقطاعها انقطع عني كُلّ اهتمامٍ بحديثِ السّهراية ، مرّت مدة طويلة ، قبل أن تجذبني عجوزٌ من عجائز الدّربِ من كمي ، قالت : انت معرفتش إللي جرى ..؟!
حدّقت بعيني في وجهها الشّاحب ، قلت وأنا اتصنّع الصبر : هو جرى إيه.؟، تلفتت المرأة من حولها ، واكلمت: مش أم اشرف بياعة الملوحة لقيوها مقتولة في بيتها بسكينة ؟
صمت ولم اجب ،دخلت البيت اترحم عليها ، وبعد أيامٍ اُشِيع أنهّم عثروا على القاتل ، شابٌ مستهتر تسوّر عليها البيت ليسرقها، ولما ّاحسّت بهِ طعنها ، رحم الله بائعة الملوحة ..