بالحبر الأبيض.. سيرة صحفية (5)
علي جبار عطية | رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية
إضراب ( الأوراق المتساقطة) !!
تجمهر العاملون في ساحة جريدة (التآخي)، أمام غرفهم، وامتنعوا عن العمل، حتى تتحقّق مطالبهم.
اليوم هوَ يوم الإثنين، الموافق ٢٠٠٨/٢/٤ م.
لم تكن المطالب، غير صرف رواتبهم، المعطَّلة، منذ ثلاثة أشهرٍ.
بدأت حملة الإضراب عن العمل، يوم الثلاثاء ٢٠٠٨/١/٢٩ م بمبادرةٍ من بعض العاملين، وقادت حملة التواقيع: سيدةٌ، شجاعةٌ، جليلةٌ القدر، تدعى (روباك) تعمل في قسم التصحيح، فاتحت أغلب العاملين، وبيَّنت ضرورة اشتراك الجميع، وأنّ هذا الإضراب، له هدفٌ محددٌ هو الحصول على رواتب الشهور الماضية، لأنَّ وضع العاملين صعبٌ ومنهم من لا مصدر آخر له للدخل ، إلّا راتب الجريدة.
أتذكّر دوراً مهمّاً، كان يقوم به الكاتب النبيل (جمّعة جباري) مطلع آيار سنّة ٢٠٠٣ م، كانت الأوضاع فوضى، والظرف الاقتصادي صعباً، فكلّفه رئيس التحرير (فلك الدين كاكه ئي) بالتفتيش عن المحتاجين، من صحفيّي بغداد، وإيصال المساعدات المالية لهم إلى بيوتهم بالسرِّ، ومن دون أن يشعر أحدٌ به !
بدأت (روباك) بقسم التصحيح، فكان أول المستجيبين رئيس القسم؛ اللغوي، والتربويّ حسين محمود الشمري، وتابعه في التوقيع منتسبو قسمه، ثمَّ جاء قسم التحقيقات، والمراسلين ـ وكنتُ مسؤولاً عنه ـ فلم يتخلّف أحدٌ، ثمّ مضت القائمة إلى قسم التنضيد بوجبتيه الصباحيّة، والمسائيّة، واشترك موظّفو الإدارة والحسابات معنا، ثمَّ حطّت القائمة في قسم التصميم، ففضَّلوا كلّهم الجلوس على التل !
انتظرنا يوم الأربعاء لنسأل مسؤول الملحق الثقافي الناقد حسب الله يحيى، عن رأيه فوافق بحماسةٍ، على الإشتراك بالإضراب من دون ترددٍ، فصار مجموع الموقّعين على القائمة خمسةً، وثلاثين موظفاً وامتنع نحو ثلث منتسبي الجريدة عن التوقيع، بدعوى عدم جدوى مثل هذه الحركات !
اتّصل بي أحد الزملاء العاملين، ممن له علاقةٌ بقناة (الحرَّة عراق) ـ وكان لها حضورٌ قويٌ في الحكومة، والشارع ـ أن أخبره بيوم الإضراب، ليأتي فريق عمل القناة، ويعدّ تقريراً عن الحدث ـ ومن دون الحاجة إلى استئذانٍ ـ فرفضتُ رفضاً قاطعاً، وأجبتهُ: نحنُ نريد حقّنا فقط، ولا نريد أن نكون قصّةً خبريّةً !
أوضحنا مطلبنا الوحيد، والواضح في قائمة المضربين: بأننا سنبدأ اضراباً مفتوحاً عن الدوام ابتداءً من يوم السبّت الموافق ٢٠٠٨/٢/١م إذا لم تحل مشكلة دفع الرواتب في وقتها.
كانت الرواتب في السنتين الأولى، والثانية من صدور الجريدة توزّع رأس كل شهر، وقد أخبرني (د. عدنان حقي زنكنة) مدير المطبعة ـ الذي صار في ما بعد ـ عميداً لكلّية دجلة الجامعة ـ أنّ الجريدة، وبفضل الله صارت تموِّل نفسها بنفسها من إيرادات الإعلانات!
في السنتين الثالثة، والرابعة، حدثت بعض التلكؤات، لكنّ التأخير في تسليم الرواتب لم يكن يتجاوز بضعة أيام، ثمّ تطوّر الأمر، ليصبح أسابيع حتى إذا وصلنا إلى نهاية سنّة ٢٠٠٧ م استفحلت الظاهرة، ليكون صرف الراتب مرّةً كلّ ثلاثة أشهر !
قمنا بتسليم قائمة الموقّعين على الإضراب إلى رئيس التحرير ؛ د. بدرخان السنّدي، وكنّا مستعدّين لأيّ إجراءٍ، ومنه الإستغناء عن خدماتنا.
أبدى السنّدي انزعاجه من حمّلة التوقيعات، تمهيداً للإضراب عن العمل، متذرِّعاً أنّ مسألة صرف الرواتب، ليست بيده، وتوصّل معه مدير الحسابات إلى إتفاق أولي يقضي بحلحلة موقف المضربين ، بوعدهم بوصول لجنة تفتيش من إقليم كردستان، خلال الأيّام القادمة، للنظر في مطالب العاملين، لكنَّ هذا الحل لم يعجبنا، وأصررنا على المضيّ قدما، في مشروع الإضراب.
حاول بعض الزملاء المتحمّسين ، التعرّض بالألفاظ الجارحة للعاملين الذين امتنعوا عن المشاركة في التوقيعات إلّا أن العقلاء منّا كبحوا جماحهّم، وقالوا لهم: إنَّ إختيار المشاركة، أو عدمها موقفٌ يتحمل المرء نتائجه، لكنّ من النادر أن تسنح للشخص فرصةُ شرفٍ ـ كهذه ـ خلال عقودٍ من عمله، لبيان موقفه.
انصرفنا إلى بيوتنا مساء الأربعاء، منتظرين ردَّ رئيس التحرير. فغداً ، عطلة نهاية الأسبوع. كنتُ أشعر بهدوءٍ لنتائج هذه الحركة.
في مساء يوم الخميس الموافق ٢٠٠٨/١/٣١م اتّصل مدير الشؤون الإداريّة، والماليّة (سرمد فاضل شوكت) ببعض المشتركين بحملة التوقيعات، يخبرهم بضرورة إبلاغ بقيّة الزملاء باستئناف الدوام، تمهيداً للاستجابة لمطالبهم، وأن لجنة تفتيش في طريقها إلى بغداد ستستمع إليهم على انفرادٍ.
لكنَّ اللجنة المذكورة لم تأتِ إلّا يوم الإثنين الموافق ٢٠٠٨/٢/٤ م ومع وصولها، سرّب إلينا خبر توزيع راتب شهرٍ واحدٍ هو راتب شهر تشرين الثاني الماضي، الأمر الذي عددناه التفافاً على مطالبنا.
انبرى الناقد حسب الله يحيى، بموقفٍ يُحسب له، إذ أنّه دعا جميع العاملين إلى استئناف الإضراب، وعدم التراجع، فاستجاب العاملون وخرجوا إلى الساحة، بينما بدأت لجنة التفتيش تسأل العاملين على انفراد عن طبيعة عملهم، ومقدار رواتبهم، ومشكلاتهم، ومقترحاتهم.
لم يكتفِ يحيى بذلك، بل دخل إلى غرفة رئيس التحرير ، فوجده في وضعٍ صعبٍ للغاية، وجادله بشأن الإضراب، ومطالب المضربين، وطلب منه الإعتذار من العاملين، أو أن يفوّض إليه مهمَّة الإعتذار إليهم ، لكنَّ طلبه ردَّ بقوّة، مع توعدٍ منه بمحاسبة المضربين.
وعدتنا لجنة الإقليم بصرف راتبين ، خلال أيامٍ، وتيسير صرف الرواتب مستقبلاً.
في اليوم التالي جرى صرف الراتب الأوّل، ثمَّ صرف الراتب الثاني بعده بأيام.
حين عدتُ إلى البيت، انتظرت الحلقة الثالثة من الجزء الثاني من مسلسل (أعقل المجانين)، وهو عمل درامي سوري، يتناول شخصية الحكيم (بُهلول الصيرفي الكوفي) المُتوفّى سنة ٨١٠ م للكاتب(عبد الغني حمزة)، والمخرج (محمد شيخ نجيب) والممثل البارع أندريه سكاف، الذي قلّ مرحه، وسلاسة أدائه، التي عرف بها في الجزء الأول، وقد عُرض على قناة( المنار) اللبنانية قبل أن تُمنع من البثّ على قمر نيل سات !
كانت موضوعة الحلقة، عن تدخل (بُهلول) لحلّ مشكلةٍ بين زوجين، كادت أن تؤدي إلى الطلاق، فحلّها الحكيم الحاذق بطريقته ! لكنَّ الحلقة لم تعجبني، لأنَّ إيقاع العمل بطيء !
في اليوم التالي، أنفرد بي مدير الشؤون الإداريّة، والماليّة(سرمد شوكت) جانباً، وقال لي: إن رئيس التحرير يعتب عليك عتباً شديداً على موقفك، فأجبتهُ: إنَّ المقصود بهذه الحركة ليس السنّدي، بل إنَّ ما فعلناه، هو تقويةٌ لهُ، أمام الإقليم ، والدليل: أنّنا لم نترك الدوام من دون إشعارٍ ، وقد قدّمنا إليه قائمة المضربين، بالأسماء، والتواقيع، قبل ثلاثة أيامٍ.
اكتفى (شوكت) بهذا الجواب، وبدا أنّ المسألة قد سُوّيتْ، فانصرفتُ.
بعد أن انتهت القضيّة، فوجئنا بتوجيه رئيس التحرير ، كتاب شكر إلى ثلاثة من الزملاء (الأعزّاء) لموقفهم من قضية الإضراب.
أخذنا نتساءل: ما الموقف الذي استحقوا به الشكر؟
قام أحد الزملاء، من الذين عندهم حسٌ أمنيٌ، بالتقصّي عن ذلك، فوجد كتاباً مطبوعاً بتوقيع هؤلاء الزملاء الثلاثة (الأعزّاء)، يُعرضون فيه استعدادهم التام، لتمشية أمور الجريدة في جميع أقسامها مجّاناً ومن دون مقابلٍ، وفي واحدةٍ من العبارات الجدليّة الإشكالويّة ـ على حدّ تعبير الكاتب الراحل (خضير ميري)ـ استفزّت العاملين هذه العبارة التي تقول: (لا عليك بالأوراق المتساقطة، فالمهّم هو أنَّ الشجرة باقيةٌ !)
عجب العاملون أشدَّ العجب، لأنّهم إنَّما طالبوا بحقوقهم فحسب، وهي الحقوق نفسها التي سيتمتع بها الموقعون على العمل المجاني!
كانت عقوبة الزملاء (الأعزّاء) معنويةً قاسيةً، فقد قابلهم العاملون بالمقاطعة التامة، مدّةً ليست قصيرةً، فالمجتمع له قوة ردع لا يُستهان بها، وهناك حكمة تقول : (إنَّ الله يرحم، لكنَّ التاريخ لا يرحم) !!
وظلّ البحث جارياً، للتحرّي عن كاتب هذه الكلمات التي تنمُ عن موهبةٍ أدبيةٍ خاصةً استخدام وصف (الأوراق المتساقطة)، وقد عُرف كاتب الصيغة على طريقة (كاد المريب أن يقول:خذوني)!، وحين خرج من الجريدة، بعد مدّةٍ، تبلورت شخصيته أكثر فصار ناطقاً إعلامياً ناجحاً، لوزارةٍ خدميةٍ، وصار يظهر في الفضائيّات مشفوعاً بلقب (د.) قبل أن يختفي من المشهد، بعد الانتخابات الأخيرة في سنَّة ٢٠١٨ م، ربمّا ليلتحق بالصالحين !! ( السيرة مستمرةٌ.. شكراً لمن صبر معي.. يتبع)
شروح صور
١. كاتب السطور مع الباحث عبد الحاج حمود الكناني واللغوي عبد الحسين رشم سنَّة ٢٠١٩ م
٢. الكاتب جمعة جباري.
٣. بعض الزملاء في ساحة الجريدة سنَّة ٢٠٠٣م
٤. الممثل السوري أندريه سكاف