شارع الأميرات والفلسطيني جبرا
شوقية عروق | فلسطين
شارع الأميرات يدخل سخونة الخبر الراكض ، أمام ذهول الذاكرة المتخمة بنشرات الأخبار والوجوه الطافحة بالعبوس الفضائي، تتسلل رائحة شارع الأميرات من حي المنصور في بغداد، عبق المكان يتحدى الدم والصور التي تصرخ وترتجف أمام الحطام والرعب .
ما أجمل أن نرفض رحيل الماضي ، أن نتمسك بدفاتر التفاصيل الصغيرة التي تتحدى الواقع وتصنع من ورقها سفناً تشق عباب الضباب .
“شارع الأميرات” المس جلد السنوات التي اشتهرت وحملت حقائب الزمن الى وهج الحياة .. شارع الأميرات .. حي المنصور .. المدينة المطعونة بغداد .. الكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا ، الذي رأى الدنيا في بيت لحم فلسطين ، وتخرج من جامعة أكسفورد وعاش عمره بعد 1948 في العراق ، بالأحرى في مدينة بغداد . سيرته الذاتية صبها في “البئر الأولى” سرعان ما مدت خيوطها إلى “شارع الأميرات ” الشارع الذي شهد ضوء العشق والحيرة وسافر بأحلامه إلى “لميعة العسكري ” المرأة التي قاد معها عربة الحب وغسل بأقدامه وعجلات عمره رصيف ” شارع الأميرات ” ، كان الشارع في انتظار عاشق تدلت مشاعره من شبابيك التلهف ، فرضخ وضم أميراته صامتاً .
بخطواته المترددة الخجولة اعترف جبرا إبراهيم جبرا بحبه للصبية اليافعة العراقية “لميعة العسكري” و لم يكن اختلاف الديانة حاجزاً، بل كان قرار الحسم ” الزواج”.
وأصبحت ” لميعة ” الزوجة ” أم سدير ” .. لماذا شارع الأميرات ..؟؟ سمي لأن أميرات العائلة المالكة في العراق كن يتمشين في هذا الشارع .. ولم يجد جبرا عنواناً لسيرته الذاتية إلا نبض ذلك الشارع الذي بقي شاهداً على قصة عشقه .
رحل جبرا إبراهيم جبرا عن الحياة في 11 كانون الأول 1994 ورغم ابتعاد حدث الموت الذي غاص بالجسد في تراب الغربة ، لكن صدق الابداع ما زال يفتح النوافذ والأبواب لنطل على عالم ” جبرا ” الأدبي ، وما أن نطق مذيع النشرة الإخبارية بالخبر الذي يؤكد القصف والتفجير في شارع الأميرات ، حتى اقتحم وجه جبرا وهمسات لميعة العسكري المشهد الدموي ، الشارع الذي كان يمتد من الهدوء إلى الهدوء يشتعل الآن ضجيجاً وموتاً ، لكن أنا أرى شارعاً سكنتُ فوق أطراف أصابعه، أراقب لقاءات جبرا بلميعة التي رافقت جبرا حياته ، والمذيع يستخف بذاكرتي وإمعاناً بالاستخفاف ترك كاميرا الفضائية تتجول في الشارع الذي هرب منه الجميع.
قبل سنوات احتفلت مكتبة الإسكندرية بذكرى مولد الكاتب المسرحي الإنكليزي وليم شكسبير 1564- 1616 ، الذي كتب أروع المسرحيات العالمية منها ” تاجر البندقية ” ” الملك لير ” و ” هاملت” و “روميو وجولييت” وغيرها من الابداعات التي تسترخي فوق أجنحة التحليق العالمي ، والأديب جبرا إبراهيم جبرا ترجم مسرح شكسبير إلى العربية، وبذلك ضغط روح شكسبير كنور في ماس اللغة العربية … حيث أجمع النقاد أن أجمل وأروع الترجمات العربية هي التي قام بها جبرا ، ومن يقرأ ترجمة ” الملك لير ” و ” هاملت ” يشعر ليس فقط بدقة الترجمة ، لكن بتجنيد سحر الخيال وإضافة النكهة الأدبية الإبداعية التي لا بد أن يختم بها المبدع إبداعه .
قبل مدة احتفلت مكتبة الإسكندرية بذكرى مولد شكسبير لكن غاب عن القائمين ذكر ” جبرا إبراهيم جبرا ” قد يكون سقوط الاسم سهواً أو عن عدم معرفة ، لكن المهتمين بأدب شكسبير يعرفون أن هذا الفلسطيني أتقن السباحة في المحيط الشكسبيري، وأضاف إليه متعة وعنفوان وكبرياء اللغة العربية .
“شارع الأميرات” الكتاب الذي حمل ذكريات ” جبرا ” وكان شجاعاً حين فرد مشاعره على الملأ وصرخ بأعلى صوته معترفاً بحبه للعراقية ” لميعة ” ، يظهر بنشرات الأخبار والحطام يمد مخالبه إلى كل شيء جميل .ومكتبة الإسكندرية تتجاهل جبرا في ذكرى شكسبير.. كلاهما الزمن المختلف.. شارع محروق حتى ضاعت الملامح ، كأنه العراق المصغر ، ومكتبة تريد بعث الحياة في موت شكسبيري يصر على التحدي ، شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً ، إنه الصناعة الإبداعية التي فتحت بالمفتاح الإنكليزي.
جبرا إبراهيم جبرا عشق العراق واقام فيه، وكانت هذه الإقامة تحمل له بعض الأحيان هجوما من الذين كانوا يحرثون في تأشيرات المنافي .
قبل فترة عرض على احدى الفضائيات لوحات لفنانين عراقيين من بينهم لوحات لجبرا إبراهيم جبرا ، لقد أطلق عليه المذيع ” الفنان العراقي ” لم يقل جبرا الفلسطيني ، ألم أقل عاش العراق ومات في العراق. وشارع الأميرات وثيقة عشق ووثيقة عراقية على الزمن الجميل .